حلمي سالم… مشًاء على درب التجريب


نضال حمارنة*

 في الثمانينيات من القرن الماضي، دار سجال أدبي كبير بين أنصار الشاعر السوري أدونيس والشاعر المصري أمل دنقل. وحينها كتب الشاعر المصري حلمي سالم مقالته الشهيرة «أدونيسيون ولسنا دنقليين»، التي دافع فيها بقوة عن اتجاه أدونيس الشعري، أو ربما كنوع من رد الجميل لأدونيس الذي قدّم لأول مرة المتصوف المصري «النفّري» وأعماله المنسية.

كان حلمي سالم حداثياً على طريقته، إذ أحب أن يشكّل توليفة خاصة في كتاباته جميعاً، الشعرية والنقدية والصحفية، تتفق مع انتمائه اليساري المنفتح على التجديد، وثقافته الشعبية ذات النبع الصوفي التي نشأ في حضنها أثناء طفولته. وقد تجلّى ذلك في صوره الشعرية، ومجموعات قصائده، إن في المفردات أو العناوين؛ «فقه اللذة» و»سراب التريكو».
«ثمة جملة بعينها
سوف أضنّ بها على محبي الشعر
ولن أضمّها كمقتطف في أي مقطع
مع أنها مجرد جملة اسمية
ليس فيها مجرور أو علامة نصب،
لكن فيها كثير من العباءات المغربية
وكثير من الألف والضمة والنون».
كان حلمي معجباً بشدة بإحدى نفحات الإمام على بن أبي طالب، تبدأ ب «أنا النقطة التي تحت الباء». وكان يعرض على أصدقائه المقربين الأفكار والثيمات الحداثية من خلال رؤيته الخاصة، يتحاور معهم ويتقبل مساحة الاختلاف بكل هدوء وخفة ظل، لكأنه يجايل تطور مفردات اللغة وأنساق الكتابة الأدبية:
«العفو: ضالّة المحب
إذا وجدها حلّق مثل صقر
وإذا فقدها طال ليله
وهو بين الوجود والفقد».
ظل حلمي سالم كارهاً للتزمت، وللجمود بتصنيفاته كافة. ولم يتخذ يوماً موقفاً عدائياً من الأجيال الشابة أو الكتابات الأكثر حداثوية.. أثناء عمله مديرا لتحرير «أدب ونقد»، ومن ثم رئيسا لتحريرها، قدم العديد من الأصوات الجديدة.
في هذا المقام سأروي عنه مع بداية دخولي الحياة الأدبية المصرية، حين أقمت سنوات بالقاهرة. كنت أُطْلع بعض المقربين على نصوصي، متوجسة من فكرة النشر، إلى أن أتى يوم وأهديت صديقتي المبدعة غادة الحلواني قصة بعنوان «صدفة تقلُّب الأشياء»، فأطلعتْ حلمي سالم عليها، ورحب بنشرها. وعندما أخبرتني بما حدث انتابتني مشاعر متناقضة من الفرح والخوف والعتب. لكنها أردفت: «يود مقابلتك والاطلاع على نصوص أخرى لك». أبديت انزعاجي لأنها تصرفت دون علمي، واستحوذ على عقلي العندُ البدوي الأردني، فرفضتُ. فابتسمت غادة قائلة: «الحياة أبسط من كده بكتير.. تخففي من نزقك الجبلي، وامنحي فرصة لنصوصك لأنها تستحق أن ترى النور».

وكان أن نُشرت أول قصة لي في القاهرة. بعدها تعرفت على حلمي سالم وأبدى ملاحظاته النقدية على قصصي وقصائدي وهو في غاية السماحة والتواضع والاحترام. وما أزال أنشر في مجلة «أدب ونق») كلما أردت ذلك إلى يومي هذا.
لم يصنف حلمي الشعر أو الشعراء على أساس أيديولوجي، بل كان يحتفي بكل نص تجديدي مهما اختلفت رؤاه. كان يشتغل على قصائده هو بالروح نفسها والاندفاع نفسه، بعيداً عن الثبات والسكون والدوائر المغلقة، منفتحاً إلى أقصى ما يستطيع مشّاء على طريق التجريب.
في الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر أمل دنقل، قدّم حلمي دراسة نقدية في «ورشة الزيتون» نشرها في ما بعد، اعتذر فيها عن موقفه السابق الوارد في مقالته «أدونيسيون ولسنا دنقليين»، مبدياً شجاعة فائقة في شرح المنطلقات التي أدت إلى تغيير موقفه من مدرسة أمل دنقل الشعرية.
«السماسرة يمتنعون
فالعيون
أداةُ الوصل».
وقد نال حلمي ما ناله بعد كتابته «شرفة ليلى مراد»، لكنه بدا غير عابئ بالظلام رغم مرضه، ملتحفاً بسطوع الحداثة إلى الثانية الأخيرة في عمره

* قاصة اردنية تعيش في سوريا

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *