الفيلم ثقيل


عزت القمحاوي

 
كان قزمًا. له قامة طفل، ينتعل حذاء كان له أن يخلعه فيبدو مثل حذاء دمية تحت قدميه الصغيرتين المعلقتين في الهواء، لكنه كان يحمل فوق رقبته رأسًا أصلع يشبه ثمرة بطاطس مستطيلة من الأمام إلى الوراء، وبهذا الرأس الكبير كان يبسط نفوذه على أكثر من خمسة آلاف موظف يعملون في قطاعات المؤسسة الضخمة.
لم يكن رأس الرجل الصغير مجرد غطاء يمنع دخول الأتربة والحشرات إلى بلعومه، بل رأس حقيقي، يعوض كل الاختصارات التي حلت بأعضائه الأخرى.
وكان له ـ علاوة على ذلك ـ صوت حاد لا يتمكن من إخفائه؛ فكان عندما يوشوش أحدهم في أذنه تتناثر شظايا الكلام فتتحول بعد ذلك إلى مزاح بين قلة ضاحكة، بينما تحقق الكلمات ذاتها مفعولها المبتغى عند كل من يحملون سدادات فوق الرقاب.
يسر للرجل في أذنه: ‘أنت طيب، وعايز أحذرك من اللي بتعتبره حبيبك’.
ويلمع الفضول في عيني غطاء الرقبة المنحني لتلقي الوشوشة في الأذن؛ فيضيف القزم: ‘مفيش داعي أقول لك هو مين وقال عنك إيه’.
بهذه الإضافة يكون قد سكب وقود الغضب فوق نار الفضول؛ فتلمع عينا الغرير طلبًا لتوضيح جديد، لكن حاجبي ثمرة البطاطس يرتفعان لتنبيهه إلى العيون والآذان المفتوحة، وينهي وشوشته بقفلة لطيفة، يقولها بصوت عال هذه المرة: ‘بس يا باشا، الفيلم تقيل، تقيل قوي’. ويمضي المستمع يبحث في رأسه عمن قال عنه أسوأ ما يمكن أن يقال، ومن باب الاحياط يكره كل من يجده في طريقه!
وبهذه الحيلة تمكن القزم من بسط سيطرته على الجميع، من رئيس المؤسسة الكبيرة، إلى الزملاء، إلى المرءوسين.
‘ ‘ ‘
ذكرني فيلم ‘براءة المسلمين’ برأس البطاطس، ورن في أذني صوته الذي يشبه تكسير الزجاج في جملته الختامية ‘الفيلم تقيل’. ما تمكنت من مشاهدته من تلك التلفيقة غير الفنية لا يمكن أن تجعل من هذه النفاية فيلمًا، ناهيك عن أن يكون ذا وزن يجعله أهلاً للتعليق، لكن الفيلم الكامن خلف الفيلم هو الثقيل حقيقة.
من دفعوا المخرج الهاوي إلى ارتكاب هذه الحماقة في هذا الوقت بالذات يعرفون تمامًا ما يريدون، وقد حسبوا بدقة ردود الفعل الممكنة. والذين قتلوا السفير الأمريكي في ليبيا والذين رفعوا بدورهم علم القاعدة في السفارة الأمريكية بمصر يعرفون أن هذا الفيلم التافه ليس دافعهم. التوقيت الذي اختاره الطرفان (11 سبتمبر) يؤكد أنهما يحاربان معركتهما الأصلية ويريد أحدهما أن يغلفها بحرية التعبير ـ أكثر ما يؤثر في المواطن الغربي ـ وأما الثاني فلا يستطيع تجييش الأتباع إلا من خلال الدفاع عن النبي.
لا يمكن لرأس يعقل أن يلتفت إلى مجموعة من المشاهد الهزلية في ستديو لرجال ونساء بيض مركبة تركيبًا على خلفية صحراوية، ناهيك عن أن يرى فيها تهديدًا للدين الإسلامي وإهانة للرسول؛ فيندفع إلى نسف سفارة ومحاصرة سفارات!
لم يراع مخرج تلك النفاية الفنية اختيار وجوه تمت بصلة للجزيرة العربية، ولم يراع سياقًا لحبكة في المشاهد الهزلية، ناهيك عن رداءة عملية الفوتوشوب التي جعلت الممثلين معلقين في الهواء بنسب وزوايا لا تتناسب أبدًا مع الخلفية المفبركة.
‘ ‘ ‘
الفيلم الثقيل حقيقة هو ما لم نره، ربما ستراه أجيال أخرى عندما يتم الإفراج عن وثائق هذا الحاضر طبقًا لقوانين السرية الأمريكية، لكن ما رشح حوله مثل أكذوبة تمويل أقباط المهجر للفيلم، ثم إعلان الممثلين بأنهم مثلوا مشاهد لم يعرفوا أنها ضد النبي محمد، يكفي لمعرفة أسباب هذه الأزمة.
حاول اليمين استثمار هذا الفيلم السخيف ‘براءة المسلمين’ لضرب عصفورين بحجر واحد: هزيمة أوباما في استعراض الرئاسة المحتدم، والعودة بالشعوب العربية إلى المربع صفر.
وقد هزم اليمين أوباما عندما فرض عملية اغتيال أسامة بن لادن، في وقت انتفضت فيه الشعوب العربية على الاستبداد ورفعت صور جيفارا وليس صور ابن لادن، وهذا لا يجوز في عرف اليمين الأمريكي، ليس من صالح شركات السلاح وشركات الدجاج المقلي أن يكون هناك عرب أحرار وعقلانيون لا يرون في ابن لادن بطلاً.
أنجز اغتيال الحليف والمحارب القديم مهمة تنشيط خلايا القاعدة في العراق والمغرب واليمن وأودى بعشرات الضحايا من الأبرياء كما تواصلت العمليات ضد القاعدة وحصدت قياديين مثل أبو يحيى الليبي وسعيد الشهري (قائد التنظيم في جزيرة العرب).
ولا يمكن أن يكون اغتيال السفير ردًا على الفيلم التافه، بل هو تنفيذ التوجيه القرار الذي أصدره الظواهري في معرض إعلانه عن موت أبو يحيى’استشهاد شهدائنا سيجعل رسالة الجهاد أكثر انتشارا وقبولا وأرسخ جذورا’.
واليمين يريد أن يبعد أوباما عن البيت الأبيض أيًا كان سبب قتل السفير، والوضع حرج لأن أوباما لديه أصوات شريحة كبيرة من الفقراء إلى الطبقة الوسطى وقد يحصد أصوات بعض اليمين بانتهاجه سياسة خارجية يمينية، وكان تركيز نائبه جو بايدن في خطابه بمؤتمر الحزب على عملية اغتيال أسامة بن لادن تأكيدًا على هذه الحقيقة، وكأنه يقول لأنصار الجمهوريين: ‘انظروا، إننا لا نختلف عنكم في شيء’.
‘ ‘ ‘
المشاركون في الفيلم الخفي يسابقون الوقت، من أجل تحقيق الربح السريع بين الجماهير المتراصة أمام شباك بيع البطاقات.
روميني لم يستطع إخفاء شماتته في أوباما بسبب حادث بنغازي، وبدا أن دم السفير لا يعنيه ولا تعنيه أية دماء لاحقة؛ فلم يحصد إلا التراجع السريع في مؤشرات الشعبية.
وأوباما المرتبك لا يدري ما يقول، وركز على ما حدث في مصر، ومعه حق، فهذا هو الأخطر، وقد يكون مؤشرًا لوجود خلايا القاعدة بالمدن المصرية وليس في صحراء سيناء فحسب.
وصف أوباما مصر بالدولة التي ليست بالعدو ولا بالصديق. لكنه يعرف أنها دولة صديقة لم تزل، لأنه وإدارته هندسوا وصول الإسلاميين إلى قمة السلطة في البلاد العربية المنتفضة، لكن لا هو ولا اليمين الأمريكي سيعرفون أن العدو العاقل أفضل من الصديق الأحمق.
محمد مرسي، لم يتصرف في البداية كرجل دولة وإنما كخطيب ديماجوجي، يزايد على السلفيين والقاعدة في مزاد حب الرسول، بينما كان عليه أن يفضح سخف المواجهة مع أمريكا بسبب بضع مشاهد وضعها مجهول على الإنترنت.
تصريح الرئيس المصري الذي سجله قبل السفر إلى أوروبا ينسجم مع دعوة جماعته لمليونية، ولم تلــــبث الجماعة أن تراجـــــعت بعد تهديد أوباما. وبنك الجماعة ‘خيرت الشاطر’ يحاول من جهته إصلاح الفخار الذي انكسر، فيكتب تغريدة ودية بالإنجليزية، و يربط تغريدته مع صفحة السفارة الأمريكية؛ فيردون بتغـــريدة ارتياح مع غمزة ‘لابد أن يعرف الشاطر أننا نقرأ كذلك ما يكتب بالعربية على صفحة الإخوان’!
‘ ‘ ‘
تصرفات غير محسوبة العواقب تجعل الفيلم ثقيلاً حقًا. والفخار يواصل التهشم تحت أقدام الفيل أو الفيلم الوهمي. والمشكلة أن العملاق الأمريكي لا يعرف قصة القزم المصري؛ فهي غير مشهورة. لقد مات الرجل من شدة رعب الآخرين منه.
فاجأته أزمة قلبية، وتسابقت الـــــرؤوس السدادات على زيارة رأس البطاطس في المستشــــفى. كان ممددًا بحجـــم رضـــيع، ينظر في عيون زائريه سعيدًا بالسلطة التي يتمتع بها، لكن إرهاق الزيارات جعل الجلطة تعاوده وتنهي فيلم حياته الذي لم يكن بخطورة الفيلم الأمريكي.

 

– القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *