جمال القيسي *
ثقافات- ما يزال في وجداننا تلك المشاعر الدافقة بالانتماء، والطافحة بالمحبة الجمة، التي رسمناها على الغيم، ونحو الأفق الجميل؛ تلك التي تبلورت حين كنا ننشد صغارا في صباحاتنا المدرسية البريئة، من قلوبنا الصادقة لأمتنا العربية ‘ بلاد العرب اوطاني’.
تلك الصباحات التي تظل مرتبطة في الذاكرة العمقية، فلا يمكن لأية احداث أن تنال من مكانتها، ولا يمكن لأي نسيان ان يطاولها؛ ذلك أنها التصقت بالوعي الأول، والتشكل النادر الذي يلامس قلوب الاطفال، التي أشبه ما تكون بصفحة بيضاء من غير سوء.
ولعل للذاكرة الطويلة أن يكون لها ما تفعله بالمرء، اذا ما ‘تصادم’ الذي تشربته في مرحلة مبكرة مع معطيات ما كان يمكن أن تثبت فيه هذه الذاكرة لولا هذا التصادم، الذي قد يشكل عملية صراع فكري داخلية بين انا الداخل وانا الفرد الجمعية.
لا تخلو كتب التاريخ والتربية الوطنية في مناهج التعليم العربية، من موضوع ‘الوحدة العربية’ ومدى أهميتها، ولا ينكر أحد فيها لهجة ‘الإلحاح’ الشديد على الناشئين، بضرورة ‘إنجاز’ هذه الوحدة التي تجتمع كل عناصرها وعواملها.
ويسرف القائمون على وضع هذه المناهج، في إظهار العالم العربي متراميا بثقة أسطورية ،كقوة منيعة، وأمة مهيبة، مهابة، ‘إذا بلغ الفطام لها رضيع تخر الجبابرة له ساجدينا’ وذلك حال إنجاز الوحدة وتحقيق ‘الحلم العربي’ الذي هو ‘مهمة’ التلاميذ لا غيرهم.
ولكن ما أن يسير الطالب العربي خارج أسوار المدرسة قليلا، بعد الثانوية العامة، حتى يصطدم بفاجعة معرفية من أبسط صورها أنه لا يستطيع ‘زيارة’ غالبية الدول العربية، إلا بتأشيرة معقدة الاجراءات، ومستحيلة في حالات اخرى كثيرة.ويوغل طالبنا في التفكير بما درس وبما تعلم، ويسترجع اللحن الخالد لقصيدة ‘موطني’ فيتأكد أنه كان ضحية تربوية مندغمة في الحلم، ومتماهية مع الامور،على نحو ما يجب ان يكون لا على قاعدة ما هي عليه بالفعل. القواسم المشتركة الكثيرة بين العرب من تاريخ مشترك،ولغة حية، ودين، وجغرافيا، وهموم مشتركة، ووحدة مصير، لم تستطع ان تنهض كشرط موضوعي ذاتي أصيل لتحقيق الوحدة العربية التي حلم ويحلم بها ملايين العرب.
ويزيدنا حسرة أن الحدود التي رسمها الاستعمار في مطلع القرن المنصرم، مقسّما الدول العربية بما يشبه المسطرة؛ لتنضوي تحت ألويته كمستعمرات ومحميات، ما تزال هذه الحدود هي الشيء الوحيد المعترف به إلى حد كبير بين العرب .
وحين نهض المفكرون التنويريون العرب بالدعوة الى الوحدة العربية ونظّروا لها،و رعوها بسهر أفكارهم، وسقوها ذوْبَ مهجهم؛ لم يكن النظام الرسمي العربي لينظر الى هذه الطروحات الا كأحلام مثقفين، وترف شعراء، وهرطقات متفلسفين.
استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي ان يحكم سورية ثم العراق، وشعاره ‘أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة’، ولكن لم ينشأ بين الدولتين ذات المرجعية الفكرية والحزبية الواحدة أي شكل من اشكال الوحدة، او حتى التعاون، لا بل شاركت سورية العام 1991 في التحالف الثلاثيني ضد العراق بعد اجتياحه الكويت!لا شك أن غياب الأنظمة الديمقراطية في العالم العربي، والذي يعني انعدام الإرداة السياسية الحرة في مقدمة معطياته، هو المبرر الأكثر إقناعا لاستبعاد طروحات الوحدة العربية، وتحقيق الكيان المنيع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.وتتجلى خسارة الرهان بأحلام الوحدة في هذا الجانب – وهو الأشد خطورة حتى على الصعيد الانساني – بتولي الدولة القُطْرية في العالم العربي الدفاع عن مصالحها الذاتية فقط كي تستطيل أعمار الأنظمة الشمولية .
لا تغيب كذلك من الحسبان الهوة الاقتصادية الكبيرة بين الكيانات العربية من حيث الثراء والفقر كسبب مهم، ودافع سلبي يعمل على إقصاء الطروحات الوحدوية التي ستؤثر على تفاصيل الحياة للمواطنين العرب ‘المختلفين’ رفاهية وفقرا، وتغيرها من جذورها .
عوامل عديدة دفعت بالكثيرين الى النكوص عن الحلم والرؤيا، نحو طروحات تقوية الدولة القُطْرية، وتمكينها ووصولها الى حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي ؛ كي تكون مهيأة ‘مستقبلا’ للاندماج في كيان كبير اسمه الوطن العربي .
ليس في اوروبا كلها من شرقها الى غربها، نشيد واحد مثل ‘أناشيدنا الوحدوية’، ولسبب بسيط أنها ليست أمة واحدة ولم تكن ذات يوم، ولم تكن مناهج التعليم لديهم يوما لتتطرق الى أحلام وحدة، أو تتغنى بمشاريع التقاء في كيان واحد، ورغم ذلك فإن الاتحاد الاوروبي تحقق .
لا ننكر الدوافع الاستراتيجية التي كانت وراء نشوء الاتحاد الاوروبي وتمدده، كردة فعل سياسية، وضرورة استراتيجية قصوى ابتداء؛في ظل مخاوف الاوروبيين من تفرد الولايات المتحدة الامريكية بالعالم بعيد نهاية الحرب الباردة للمعسكرين.
لكن نشوء الاتحاد الاوروبي يدفعنا الى تأكيد القول بأهمية أن تكون الأمة العربية، أولى بالمخاوف والاشتراطات والأبعاد الاستراتيجية، التي نشأ على أساسها الاتحاد كقوة أحست أن الرياح العاتية قد تذرو أعتى الكيانات المتفرقة وتأتي على حقيقتها ‘الفردية ‘!ولا يمكن النظر الى التكتلات الاقتصادية في العالم، وما يقع ضمن سياسات الاسواق المشتركة التي تدافع عن وجودها المادي والمعنوي الا سلوكا نحو تحقيق الذات العليا للكيانات السياسية التي تحترم إرادة من ينتمون اليها .
لا بد من أن يسأل النظام العربي نفسه عن موقفه من وحدة شعوب الاتحاد الاوروبي الذي تحارب أهله حروبا كونية وبينية أتت على يابس تاريخهم، واخضر أعمارهم ،ولكنها لم تحل بين مشروع وحدة فرضت وقامت بتعزيز مكانتهم في العالم ومعادلاته
* صحفي وروائي من الأردن