د. صالح هويدي
يرجع صدور رواية “رائحة الزنجبيل” لصالحة غابش عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة إلى عام 2008 . والرواية باكورة النتاج الروائي لغابش التي عرفناها في المشهد الإماراتي صاحبة منجز شعري وصوت حاول أن يكرس خصوصية له بين الأصوات الشعرية الإماراتية التي ما تني تحرز مواقع تليق بها في مساحة المشهد الشعري العربي .
والحق أن تجربة غابش الروائية الجديدة مثلت مفاجأة لي- وربما هي كذلك لكثيرين- في ما كشفت عنه من امتلاك لعناصر السرد الروائي وأدوات البناء الفني، وتخطيها كثيراً من مظاهر الضعف التي عادة ما ترافق التجارب الأولى للكتّاب . هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن التجربة الشعرية مختلفة عن التجربة السردية، بل إن هذه التجربة الشعرية غالباً ما تكون – لدى الكتاب المتحولين منها إلى السرد- وراء مظاهر الخلط وعدم القدرة على التخلص من خصائص النوع .
صحيح أن لصالحة غابش قصة أو أكثر كانت نشرتها منذ سنين بعيدة، وهو ما يدعونا إلى الإشارة إلى ما ظهر في الرواية من تناص في جانب من ثيمتها، أو حدث من أحداثها المفصلية التي سبق لنا أن وقفنا عليه في القصة المنشورة ضمن قصص المجموعة القصصية المشتركة التي صدرت عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بعنوان “كلنا . . كلنا . . كلنا نحب البحر” وأريد لها أن تعبر عن جانب من المشهد القصصي الإماراتي في زمن مبكر نسبياً .
في عملَيْ صالحة غابش السرديين الرواية والقصة القصيرة يتكرر مشهد لقاء تلميذتي المدرسة؛ الأولى: الممثلة للوعي الاجتماعي والطبقي والحرص على الانخراط في طلب العلم، والثانية: التي حرمت من نعمة التعلم أو الاستمرار فيه، بسبب موقف الأسرة منه . وفي المشهدين تتجلى لنا التفاصيل نفسها لحدث اللقاء، إذ تنشدّ الفتاة الصغيرة في القصة إلى طالبات المدرسة اللائي قذفت بهن الحافلة أمام ناظريها، بعد أن توقفت قريباً من مسكنها، لتبدو لنا من خلال مشاعرها الداخلية المُعبر عنها سردياً، متأملة بانشداد وحسرة بادية على أترابها وهن ينعمن بفرص حياة حرمت منها، وظلت تتوق إليها وتتمنى تحققها . وهو المشهد ذاته الذي يطالعنا في رواية غابش “رائحة الزنجبيل” على نحو أكثر تطويراً وتأثيراً في بنية النسيج السردي ومصائر الشخصيات، بحكم امتداد العالم الروائي وحاجته إلى تنمية الأحداث فيه . في المشهد الروائي يتعدى الموقف حدود تأمل الفتاة مظاهر تلميذات المدرسة وما ترتب عليه من أثر لم يتجاوز الحدود النفسية والتحسر، ليتطور إلى اقتراب إحدى طالبات المدرسة(عذيبة) من (علياء)؛ الشخصية الرئيسة في الرواية، وتقابلهما وتحادثهما مع بعضهما، وترك الحافلة غير المقصود لها، مع عجزها عن اللحاق بها واضطرارها إلى البقاء لدى أسرة (عذيبة) حتى المساء، وما سيترك هذا الموقف من أثر في بنية الأحداث وتطور العلاقات بين الفتاتين لاحقاً .
ولا ريب في أن لتكرار مشهد لقاء الفتاتين في عملي غابش دلالة في ذات الكاتبة وبنية العمل السردي معاً، لا تخفى دلالة الأخير في الوقوف على أهمية الوعي المجتمعي بقيمة العلم وتحصيله، وما يؤدي إليه غيابه من نتائج مؤلمة . لقد استطاعت الروائية في عملها الجديد أن تمنح اللقاء بالآخر المغاير حافزاً نحو الإصرار على التعويض، لتبدو لنا (عذيبة) لاحقاً ذات ثقافة وحكمة وجدت علياء فيها فرصة للجوء إليها والاستماع لآرائها، في أكثر أزماتها حدة، مثلما غدت على جانب من الاطلاع على الأدب العالمي، فصارت تعير علياء بعض الروايات العالمية التي لم تستطع الأخيرة تحصيلها أو تعرّف كتابها .
تحولات
تُبرز رواية “رائحة الزنجبيل” على نحو واضح علاقة الشخصية الرئيسة بالفضاء المديني، وموقفها من التحولات التي طرأت على المدينة القديمة في الشارقة، خلال مراحل التحول التاريخي وتحديث البنية الاجتماعية والعمرانية للمدينة . وهي من هنا تدخل ضمن سياق الروايات الإماراتية التي عنيت بتمثيل ثيمة المدينة، وأبرز ما يحضرنا في هذا السياق روايتان سابقتان عليها، هما: رواية “سماء كزرقة البحر” لأمنيات سالم، و”سيح المهب” لناصر جبران .
لقد توقفت الرواية عند ماضي مدينة الشارقة ولا سيما بيت أسرة عبد الله الغافي في منطقة (الحيرة) في الجهة الغربية من الشارقة، عن طريق التداعيات والارتدادات التي بدت من خلال وعي علياء؛ الشخصية الرئيسة في الرواية .
ومثلما رجحت الروايتان السابقتان عوالم الماضي، بفضائه الطبيعي البكر وعلاقاته وقيمه، كان ترجيح رواية “رائحة الزنجبيل” واضحاً لتلك العوالم وإن لم تكن متغيرات المدينة وانتهاكاتها وآثارها المنفّرة تحتل الاهتمام الذي احتلته في الروايتين السابقتين عليها . لكن هذه الرواية لم تقتصر شأن رواية “حلم كزرقة البحر”، على الطبيعة الجامدة والمتحركة وإنما تجاوزتها إلى الإنسان نفسه، بمختلف انتماءاته الاجتماعية والطبقية التي لم تخضع بعد لقوانين الجشع والاستغلال والصراع الطبقي:
“الناس آنذاك كانوا جميلين حتى أرباب المال منهم . . دافئون يشبهون بيئتهم . هم بشر لا ملائكة لكنهم خلق تحب أن تستظل بروحهم وتشعر بالأمان ماداموا حولك أو قريباً من دارك، يسهل اللقاء بهم لدرجة أنك تعتاد على رؤية وجوههم كل يوم، أبي كان من هؤلاء . . لا لأنني أقول ذلك ولا لأن الناس يقولون ذلك، ولكن لأني رأيت ذلك” .
أما الطبيعة في منطقة الحيرة، بما حوته من ماء وسماء وطيور وأشجار ومبان متلاحمة فقد اكتسبت من العناية والنمذجة والاحتفاء، ما جعلها لا تبدو في موضع المقارنة وإن لم يحضر طرف التفاضل الآخر وفُهم ضمنياً:
“حين يبدأ الفجر بالانحسار وقد طوت الأرواح سجادة الصلاة عن جبين الكون الساجد أبداً لخالقه، يخرج الصيادون والنشيد الجماعي للنوارس يملأ الفضاء المحضون بزرقتي السماء والبحر . ثوان أو دقائق معدودة تفصل فتح باب وآخر من البيوت المتقاربة إلى حد الالتصاق في الحيرة . . أليس ذلك لأن القلوب والنفوس متقاربة على مائدة المودة والرحمة التي ما زال آباؤنا ممن هم على قيد الحياة يترحمون على أيامها؟” .
إنه الوقوف عند عتبات الماضي الآفل والانبهار به والإعلاء من زمنه، يقترب من موقف الفتاة في رواية “حلم كزرقة البحر”، مع فارق أن الشخصية الرئيسة في رواية غابش كانت منخرطة في زمن اللحظة الراهنة ومعايشة له، وساعية إلى إيجاد نموذج آخر لمدينة فاضلة تجمع بين الفضاءين، في حين بدت فتاة رواية أمنيات سالم مستغرقة في ذكريات الماضي وغير قادرة على التصالح مع زمنها الجديد ومتغيراته .
إن الذي يشوب تصوير مشاهد الماضي المستعادة في رواية “رائحة الزنجبيل” انسحاب دينامية السرد لصالح لغة الوصف، ومجيء ذلك الوصف في شكل خطاب وصفي مباشر، يبدو الراوي فيه متغزلاً بالمنظر الجاهز، وهو ما تسبب في إضعاف الطاقة السردية:
“ما أجملك يا خورفكان! وأنت تتجسدين صورة أخرى للربيع والحب والجمال . . تروين الخيال من أحلامك الممتدة في أعالي جبالك منسابة نحو شواطئك المبتلة بالظمأ فيه إليك . . تبدين مشهداً مقبولاً في أذهان المتعبين ليضعوا على أكتافك مشاكلهم ويركضوا بعيداً نحوك لا عنك . نبدو- نحن القادمين من المدن- وكأننا نزاحم عائلاتها . . ونخص أنفسنا بمواقع على شطآنها قد يكون أولوية حقها لأهاليه، إلا أنهم مؤمنون بما لبحر مدينتهم من جاذبية . . يعذرون عشاقها المتيمين بطبيعتها المرسومة بيد الخالق المبدع الذي أبدع كل شيء . . فيجعلون من قلوبهم الطيبة “خورفكان” أخرى تحبهم وترحب بهم، وتفسح لهم المجالس” .
لا شك في أن وصفاً أدبياً مطولاً كهذا من شأنه أن يعوق نمو النسيج السردي، لأنه يتخذ من لوحة الوصف غاية بذاتها، لا وسيلة من وسائل تطور الأحداث ونموها . لكن الذي يميز رواية “رائحة الزنجبيل” عن الروايتين السابقتين أنها أفسحت المجال لظهور حوار يمثله طرف آخر، يحاول التعبير عن وجهة نظر على قدر من الاختلاف، وإن لم تتقاطع الرؤيتان إلى حد التضاد .
تعددية الأصوات
لقد طغت رؤية الروائي في رواية “سيح المهب” على سائر الشخصيات بما في ذلك رؤية الراوي، لتبدو أصوات الشخصيات وكأنها محض صدى لصوت الروائي وموقفه من المدينة . وهو أمر يعد من أبرز عناصر النوع الروائي المتمثل في ما أسماه باختين بالعنصر الحواري المتأتي من تعدد رؤى الشخصيات، في حين اختفى هذا المظهر في رواية “حلم كزرقة البحر” التي اعتمدت السرد الذاتي وأسلوب استرجاع الراوي المهيمن لشريط الذكريات، بدءاً وانتهاء، من خلال سرد ذكريات الماضي، ما جعل الرواية قريبة من نوع ما يعرف بالرواية السيرية، أو رواية السيرة الذاتية، وإن كنا لا نستطيع عدها كذلك .
أما في رواية “رائحة الزنجبيل” فقد رأينا بنية حوارية تتعدد فيها رؤى الشخصيات وتتقاطع أصواتها، وهو ما منحها دينامية تحسب لها، وأبعدها عن هيمنة المنظور النمطي الذي يذكّر بهيمنة رؤية الروائي ووجهة نظره النرجسية:
“سألت وقد لاحظت أعمال بناء: ماذا يحدث عندكم يا عذيبة؟
عذيبة: المدينة تستنهض نفسها نحو عالم جديد، شوارع . . بحيرات . . مبان تحتية متطورة في متناول اليد، كل ذلك سيسود الوادي قريباً .
علياء: ألن تفتقدوا هذا الاتساع؟
أجابت عذيبة مداعبة: يا لك من حاسدة . . وكأنك لا تريدين لمظاهر التمدن أن تمتد إلينا .
قالت علياء وهي تلقي بظلال نفسها خوفاً على هذا المكان: ولكنكم ستعيشون في ضيق .
أضافت عذيبة: الضيق ضيق الصدور لا ضيق الأماكن” .
لقد كانت الالتفاتة الروائية ذكية على مستوى المنظور السردي وتعددية الأصوات، إذ بدا أن ثمة وجهة نظر مخالفة لدى عذيبة، لها منطقها وحججها، مثلما لوحظ أن علياء هنا لم يكن لها موقف حاد أو إقصائي مما يجري، أو موقف رفض مبني على رؤية شمولية للتحول المجتمعي إلى النموذج العولمي الاستهلاكي الذي نستشعره في رواية “سيح المهب” . فقد كان الموقف يصدر عن امرأة ذات ثقافة واعية وحس مرهف، أرهقه الضيق وبعض مظاهر التحول المديني، فضلاً عن متاعبها الشخصية، مما حدا بها إلى حلم معانقة اتساع الفضاء، بحثاً عن اللامرئي:
“أغمضت عينيها وكأن الاتساع الممتد أمامها قد انتقل إلى صدرها فأحست بارتياح/ جاءت علياء بحثاً في الاتساع المرئي عن اللامرئي” .
من هنا فقد كانت علياء تقود سيارتها كلما ألمّ بها الضيق إلى حيث الحيرة . . بلد السمّاكين والشعراء ومسقط رأسها لتتأمل ما بقي محافظاً على بكارته وسمته من تلك العوالم التي تفتقدها:
“هنا مازالت بقايا طبيعة من رمال ونخيل وشاطئ وبحر، وفضاء البراءة الأولى التي تشعر بها علياء كلما جاءت هنا نائية عن الضجيج . .” .
إن هذا الهروب نحو الوحدة والخلوة بالنفس والابتعاد عن المدينة وسكانها، إثر الشعور بما يشبه الاختناق، ورغبتها في استنشاق هواء فضاءات هادئة بعمق وارتياح . . إن هذا كله لم يكن نتيجة وعي أو ثقافة محضة، بقدر ما كانت وراءه معاناة تلك المرأة، مديرة الشركة وسيدة الأعمال المشهورة التي عاشت تجربة طلاق سابقة، وتورطت في زواج جديد، اكتشفت فيه خطأها وتسرعها، وكانت تسعى فيه إلى الخلاص من تبعاته التي أرهقت روحها وحاصرت صفاءها .
إن مما يحسب للرواية أنها لم تذهب في نمذجتها لعالم الأمس وزمن الماضي القريب إلى نفي كل ما هو سلبي من مظاهرها، أو تبرئتها من الوقائع الحياتية التي لا يخلو مجتمع منها، وهو ما لم يتضح بجلاء في الروايتين السابقتين . يتضح ذلك منذ المشهد الاستهلالي الذي تفتتح به الروائية عملها عبر أسلوب الفلاش باك، إلى حيث حدث المقاومة البطولية الذي نهض به شباب الأمس ضد الانتداب الإنجليزي قبيل بزوغ فجر ذلك اليوم، وما أوحى به من سلوك الشباب الآخر، الأقل سنا، قبيل ساعات من بدء ذلك الحدث في المكان نفسه .
“ . . وصوت هامس يصدر من قلب مؤمن من وراء البيوت الطينية يدعو على الشياطين النجسة التي لا تحترم هدوء الليل ووقاره فتعيث فساداً فيه غير آبهة برغبة النائمين إلى السكينة، وأمواج البحر القريب من المساكن تشارك في الضوضاء بصوت ارتطامها بالسفن الراسية في مينائه” .
وكما بدا نزوع الشخصية المحورية في رواية “حلم كزرقة البحر” المتمثل في تعلق الراوي فيها(الفتاة) بحارة الأمس وزمن الماضي، بدت الشخصية الرئيسة في رواية “رائحة الزنجبيل” متعلقة بالمدينة(الحيرة)، متمسكة بملامح هويتها، ومعبرة عن قلقها إزاء متغيراتها، وخشيتها من طمس تلك الهوية . لكن هذا النزوع قد انزلق من منطقة السرد ليطفو في شكل خطاب مباشر، يعبر عن أصالة المكان بمفردات اللغة المباشرة على نحو جاهز قصدي، ليبدو نافراً عن طبيعة النسيج السردي:
“الحيرة إذاً – ومن موقعها غرب الشارقة- تنتظر النفط الآتي في الطريق مثلها كمثل أية بقعة في أرض الخليج، وهي لن تقبل أن يمس اسمها المستلهم من “حيرة” النعمان بن المنذر . فهذا النفط قد يلبي حاجتها لإنعاش اقتصادها ولكنه لن يغسل أصالتها أبداً” .
لقد بدا الحديث عن عدم قبول الحيرة مسّ اسمها وغسل أصالتها أقرب إلى لغة التنظير والمقال منه إلى لغة السرد . وشبيه بهذه اللغة تلك المفردات المقحمة عن الهوية والرسالة، معلنة عن تفادي دوس مشروعها لنخلة من نخيل الحيرة:
“فكرت كثيراً أن تغتنم أرض العائلة التي بنى عليها البيت القديم . . وتستلهم لها مشروعاً لا يدوس نخلة من نخيلها . . كانت تحلم أن تكون رسالته أو هويته أو أي أمر يتعلق به مستوحى من اسم “الحيرة” التاريخية التي تولى حكمها المناذرة لتربط التاريخ بالحاضر، وتتواءم الحيرتان في حدث واحد” .
سيميولوجيا العنوان
ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن اعتزاز رواية “رائحة الزنجبيل” بالمكان القديم وتعلق الشخصية الرئيسة به وبزمنه، لم يقف عند حدوده الجغرافية أو أبعاده المادية، وإنما تجاوزه إلى أناس المكان وأخلاقهم وقيمهم .
لقد تكررت إشارة علياء، الشخصية الرئيسة في رواية “رائحة الزنجبيل” إلى ذلك الطقس المحبب الذي افتقدته في لمسات أمها، والمتمثل في إعداد كوب الحليب بالزنجبيل، حينما تصاب علياء بوعكة صحية . وهو ما جعل رائحة الزنجبيل عالقة بأيامها وذكرياتها كأشهى وأجمل ما تكون الذكرى . من هنا فإن طقس الزنجبيل المرتبط بأم علياء، إنما كان رمزاً لأناس ذلك الزمان وتلك المدينة الفاضلة على حد تعبير علياء .
من هنا فإن رواية “حلم كزرقة البحر” مثلت النموذج الطفولي في التعلق بالمدينة التقليدية التي افتقدها الراوي(الفتاة)، بفعل المتغيرات العمرانية وتبدل العلاقات الاجتماعية والقيم الإنسانية مع مرور الزمن، مثلما مثلت على مستوى اللغة التعبير عن التعلق بمدينة الطفولة تعلقاً وجدانياً عاطفياً، مع العجز عن التواصل مع فضاء المدينة الحديث الذي أفضى إلى حالات الاغتراب والإحساس بالحيف تجاه ما انتهت إليه المدينة القديمة من إهمال وتهميش، ومن التعبير عن الخسارات التي يمكن أن يمنى بها الجيل الذي لم يعش مفردات المكان القديم؛ طبيعة وأبنية وبشراً .
لقد قدمت لنا “رائحة الزنجبيل” راوياً مفارقاً، ابتعد عن السرد الذاتي، وبدا في حالة انسجام نسبي مع عالم المدينة الحداثية، من دون أن يختفي قلق علياء(الراوي) أو إيثارها فضاء المدينة القديمة وقيمها وطقوسها التي أرادت أن تبتعث بعض ملامحها التراثية، من دون رفض للفضاء الجديد أو التنديد به، في محاولة لتأسيس ما أسمته بالمدينة الفاضلة والتسليم أو عدم رفض الواقع الجديد، عن طريق المواءمة بين مظاهر الفضاءين؛ القديم والجديد . إلى جانب أن عدم استغراق الرواية في شريط الذكريات أتاح للرواية فرصة الانفتاح على معالجة الفضاءات، وتطوير الأحداث السردية، وتنمية مصائر الشخصيات الروائية، ليبدو همّ المدينة وتحولاتها واحداً من الهموم، وليس همها الوحيد . وبذا فقد تخففت رؤية الرواية من المعالجة الندْبية المذكرة ببكاء الأطلال القديمة وضياع الذكريات والناس، متجهة صوب البحث عن سبيل لاستعادة المدينة المفقودة وطمأنينة النفس، وتمني ألا يطغى زحف الحداثة على الفضاء القديم فيلتهمه تارة، أو تفكير علياء في إقامة مشروع يشعرها بإمكانية ابتعاث بعض معطيات الماضي والهوية، وإن طفت على السطح لغة الهوية والأصالة والمدينة الفاضلة في شكل خطاب مباشر . في حين بدت رواية” حلم كزرقة البحر” مستغرقة كلياً عبر الراوي المتماهي بمرويه، في ثيمة معاناة الفتاة وموقفها من تحولات المدينة التي رافقتها طفلة، وشهدت متغيراتها فتاة وشابة، بحكم مجيئها في شكل أقرب ما يكون إلى الرواية السردية أو رواية السرد الذاتي .
أما رواية “سيح المهب” فقد انطلقت من محمول فكري للشخصية غير المكتفية بالرفض، لعدم القدرة على التعايش مع واقع المتغيرات الجديدة إلى اتباع خطاب روائي مندد بالمخاطر التي تحيط بفضاء المدينة القديم، ومدين للنهج الذي يقضي على الخضرة الحية والفضاء الفسيح الممتد، ويحاصر الإنسان من خلال هيمنة نموذج العولمة والخضوع لنمط الحياة الاستهلاكية التي هي ليست سوى امتداد لسياسية الرأسمالية ما بعد الصناعية، أو الرأسمالية العابرة للقومية . وعلى الرغم من دوران أحداث الرواية ضمن بيئة اجتماعية تبرز فيها بعض مفردات وسيمياء المجتمع الإماراتي، إلا أنها تتجاوز في خطابها ورؤيتها هذا الفضاء، لتطرح رؤيتها عبر أفق إنساني عام، وصل إلى حد التشاؤم وإدانة الإنسان، كممارسة وجوهر أحيانا، حتى بدت الرؤية النمطية موزعة على شخصيات الرواية التي لم يتح لها التعبير عن أصواتها المعبرة، وانتهاج وجهات نظر مختلفة
– الخليج