مئوية نجيب محفوظ ومرسي


عناية جابر *

 
كيف يمكنك ألا تتذكر نجيب محفوظ في مئويته وأنت تنظر إلى الصور التي تتناقلها الشاشات عن الكتب المرمية في ارض النبي دانيال في الإسكندرية.هو الذي توقع ذلك. الصدفة بين الحدثين معبرة. والصدفة مع كلمة دانيال ليست اقل تعبيرا. فدانيال اسم معناه الحكم الإلهي فهل أتى رمي الكتب واقتلاع بسطات الأفكار في مصر كترجمة لحكم الهي صدر بحقنا ولا يفهمه إلا أهل السلطة الجديدة الذين قرروا على ما يبدو رغم كل محاولات النفي أن ينفذوا حكم الإله على الأرض؟
منظر الكتب الحزين في شوارع الإسكندرية يعيدنا إلى تذكر نجيب محفوظ وهو الذي استشرف هذه المرحلة التي وصلنا إليها. كيف ننساه وهو من دفع حياته ثمن بداية سيطرة الفكر الغيبي ألظلامي. هذا الفكر الماكر الذي يتجسد في امتلاكه الحريف لازدواجية اللغة، من جهة إرسال التطمينات والتحدث عن دولة مدنية لا عسكرية ولا تيوقراطية ومن جهة ثانية إرسال قوات الأمن لتدمير الكتب والبسطات.
حزينة هي البلاد التي تحكم باسم الآلهة والاحزن أن تحكم باسمهم بالمواربة ودون الإعلان عن ذلك بوضوح. حزينة هي البلاد التي تعطي الأولوية الشكلية للشارع لا للكتاب، للشارع ‘النظيف’ لا ‘لوسخ’ الكتب. حكم يخجل من هذا ‘الوسخ’ كيف يمكن أن لا تخجل منه ؟ كيف يتجرأ حكم جاء إلى السلطة باسم التغيير والحرية والكرامة والنهضة أن يبدأ عهده بالتصدي.. للكتب ؟ فرنسا الثورة والتاريخ تتلخص اليوم ببسطات الكتب القديمة التي يعرفها زائرها على ضفاف السين مدروزة في أكشاك خشبية تنشد مجد الكلمة وتشد السائحين اليها كمعلم من معالم فرنسا الأساسية .في فرنسا هناك برج إيفل وقصر فرساي ومتحف اللوفر وضفاف نهر السين أيضا حيث الحضارة ترسمها الكتب القديمة. من منا لم يزر أكشاك الكتب الباريسية ومن منا لم يمض أياما يفتش عن كتاب قديم أو مخطوطة نادرة في بسطات نهر السين ؟ من منا لم يحظ بكتاب ‘يزين’ مكتبته ويتباهى به أمام الخلق كقطعة من تاريخ فريدة حظي بها على البسطة الشعبية لثورة فرنسا ؟
مَن من العرب الذين زاروا أكشاك الكتب العتيقة على نهر السين لم يلتق يوما بأحد رؤساء الجمهورية الفرنسية السابقين أو اللاحقين يفتش مثله عن كتاب معتق يلون فكره به ؟ ثـــــوار ‘آخر زمن’ العرب يصلون إلى السلطة باسم اقرأ وأول خطوة يقدمون عليها هي تدمير القراءة. ففي الوقت الذي كان رئيس الجمهورية الثورية الجديدة محمد مرسي مجتمعا بالفـــــنانين والكتاب المصريين ليعلن لهم احترام ‘دولته’ للحريات الثقافية والفنية وللإبداع والخلق كانت شرطته في الإسكندرية أكثر فصاحة وبلاغة منه في التعبير عن رأيه الفعلي، فهو لا يحترم الكتب لأنها تثير الفوضى في الشارع الذي يجب أن يكون نظيفا غير مشغول بشكل غير قانوني.
‘ثوار آخر زمن’ العرب يخجلون من الكتب في الشارع ولا يخجلون من العشوائيات التي تزين شوارع مصر ومدنها ولا من قاطني المقابر، يخجلون من الإعلام فيبدؤون بتكميمه ولا يخجلون من دولة لا تستطيع أن تعتاش إلا على فضلات حمد بن جاسم والبنك الدولي. يخجلون من بسطات الخضار والبائعين الجوالين ولا يخجلون من دولة لا تستطيع تأمين فرص العمل لملايين الشباب المهمش العاطل من العمل بسبب منظومة التبعية الاقتصادية الريعية. يخجلون من الأفكار ولا يخجلون من أنفسهم كيف يستلمون السلطة بدون أفكار وبدون أن يعلنوا عن أي فكرة أو برنامج حكم يزينون به فترة حكمهم الثقيلة. يخجلون من ‘إشغال’ الشوارع بشكل غير قانوني ولا يخجلون من إشغالهم لحكم خاوي الوفاض من أي بديل ثوري أو رؤية مستقبلية تعيد لمصر أمجادها.
انتظر الناس التغيير وناضلوا من اجله ودفع الشباب المصري من دمه وعرقه لكي يتخلصوا من التخلف والصلف والحكم العبثي والمحتقر لأي رأي ولأي مجموعة، دفع الشباب ثمنا غاليا من اجل الحصول على حريته وعلى حرية التفكير والنشر والتعبير والممارسة السياسية والتجمع واحترام الأخر، دفع الشباب الغالي من اجل نظام يحترم على الأقل وجودهم ولو كان متواضعا، ومن اجل حكم يثير حماسهم للتشمير عن السواعد من اجل بناء دولة عصرية تفرد للعلم والكتاب المكانة التي يستحقانها.
هل هو الخجل فقط ما يدفع الإخوان المسلمون في مصر إلى تنظيف الشارع من ناسها ومن كتبها؟ ماذا يريد الإخوان أن ‘ينظفوا’ ؟ من هو المقصود بالتنظيف ؟ أليسوا المتبطلين والمهمشين والفقراء وكل من شارك بالثورة ؟ أليست المرأة ‘العورة’؟ أليس القبطي وكل من يختلف عنهم ؟ خجل الإخوان هو من أنفسهم من عجزهم عن اجتراح حلول لمشاكل مصر اليوم. نزعتهم وشهوتهم للسلطة تدفعهم إلى احتكارها عبر تقليد من كان قبلهم. نزعتهم للحفاظ على السلطة بأي ثمن تقودهم إلى ‘إخفاء ‘المشكلة لا إلى حلها. سياسة النعامة بالضبط.
سياسة الإخوان لا تسعى لأي تغيير، فالعلاقات مع الخارج هي هي وطبيعة النمط الاقتصادي الداخلي هو هو، جل ما تغير أن الحكام الجدد لا يريدون أن يروا الفقر والعوز والقبور ولا الأفكار ولا الكتب ولا النساء فكيف نساعدهم على إخفاء كل هؤلاء بسكينة وبدون ضجة حتى يحكمونا بسلام؟

 

– القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *