أناملها … آخر الحناء…!


نور الدين العلوي*

ثقافات-        «ماذا تكتب؟» وتضع يدها على
  لوحة المفاتيح  ولا تنتبه إلى الكلمة
الخارجة عن كل لغات العالم التي تثيرها أناملها على الشاشة  ويسطرها المعجم القاصر عن لغة الأمهات. «تقضي 
الليل جالسا أمام الضوء  اقتصد عينيك»
يبتسم لها ويقبل يدها التي تضطرب على لوحة المفاتيح. يرفع إليه اليد ويقبلها  تضع يدها اليسرى على شعره. وتتخفف من عكازها
قليلا.تستند على كتفه ثم تشد ظهرها لتعيد يدها إلى شعره دون أن تثقل عليه.يحس
أصابعها تعرف مسالك الشعر فتسلكها كأنما سطرتها قبل اكتمال شكل الرأس فوق كتفيه.يميل
برأسه إليها فيشم طفولته كاملة  فيختنق.
هذه السيدة لا تغير عطرها أبدا.

يدفن انفه في ردنها. رائحة
عود القرنفل  والمحلب  ورائحة أخرى لا يعرف كنهها لكنها مخزونة فيه.
يعرفها منذ كان  طفلا ينام في حضنها وتلفه
كأنه شيء صغير بساقين رقيقتين  ورأس كبيرة.
لكن شعره الأسحم كان لعبتها المفضلة. لذلك لم يدب القمل فيه أبدا حتى غابت ذات يوم
في مشفى بعيد. وكان عليه أن يتدرب على العيش بلا شعر أسحم.  ذلك الشعر ورثه منها كاملا غير منقوص. عماته
وخالاته يسألونها «لما لم تشيبي مثلنا على مشارف التسعين؟» تقول وهي تتأمل خصلات الحناء
في الشعر الأسود بيديها كأنها تراها.«أرض». يرفع يمناه عن اللوحة  يديرها خلف كتفها ويقرب وجهها من وجهه ويقبلها
على رمانة خد كانت مضرب المثل في الرواء الوردي ثم يمرر أصابعه  على الأنف الأشم ميراثه منها كاملا غير
منقوص.يستدير إليها بكليته وينسى الحاسوب ليته يجلسها على ركبتيه. يؤذي ذلك ساقها
التي انكسرت وهو طفل فأكملت مسيرتها تعرج ولا تلحق جاريا أو طفلا يهرب من حضنها
إلى مدن بعيدة.

يقرب لها كرسيا آخر يجلسها
يشبك ركبتيه بركبتيها ثم يضمها جالسة فيغرف من العطر العتيق.يخالجه شعور مؤلم  كأنه يتزود لفراق  لكنه يبتسم متلذذا رائحة شعرها. بين  يديه يزيل غطاء رأسها فيكتشف بؤر الشيب البيضاء
التي  تسكن خلف الحناء المتجهة إلى أطراف
الشعر  يحل الظفريتين الصغيرتين  لم يعد شعرها يصل كتفيها  يتذكر لما كان شيئا صغيرا برأس وساقين كان
شعرها أطول  كان يزعجها إذ تنام  لذلك تشد الضفيرتين جيدا كأنه سيهرب منها
بليل.يستلذ العبث بشعرها القليل في محفظة الحاسوب يحتفظ  بمشط ابيض لملمات تحسين المظهر في الملتقيات.
يجذبه ويسرح شعرها. يسرحه إلى الأسفل خصلة اثر خصلة. تتجمع بعض الشعرات في المشط  يضمها بهدوء ويضعها على لوحة الحاسوب.ثم يعيد
الكرة يتتبع الخصلة حتى ذؤابتها.يخفف حجم الخصلات كي يطيل زمن المتعة. تحس رفقه
بشعرها تأخذ اليسرى وتقبلها. يدخلان منطقة للصمت.ينظر خلف كتفيها كي لا ترى
عينيه.تنظر إلى ركبتيه  كي لا يرى عينها.كم
مرة سرح شعرها؟  منذ متى لم تسرح شعره. هي
لا تتذكر آخر مرة وهو لا يتذكر آخر مرة. تتحرك يده بشكل آلي في شعرها تضع يديها
على ركبتيه وتصمت العيون البليلة لا تلتقي.

هل كان ما فعلت صوابا؟ هذا
السفر الذي لا ينقضي متى ينقضي؟ «هل اظفر لك شعرك كما كان؟ » تضحك من جهله «هل
تقدر؟» «أحاول وأتعلم؟» ترميه بالسؤال« الآن؟ 
لعلك تأخرت؟» ظهرت فجوة الزمن أوسع من التاريخ كله. يوم سافر يتعلم تخلى عن
ضفيرة شعرها ويوم قرر البقاء بعيدا قطع سبيل العودة إلى امتلاك رائحتها. خصلة
الشعر الحمراء في حقيبة أوراقه والتي جمعها من مشطها فقدت رائحتها بالتقادم.
البلاد النائية تقتلنا أو تحكم علينا باليتم المؤبد.يبدأ في ضفر الشعر القليل بصمت
فإذا توسطه أضاف ذلك الخيط الحريري الأحمر.فيختلط الخيط في لفات الشعر حتى تكتمل
الضفيرة القصيرة أصلا. وتسمح للشعر بالبقاء متماسكا. يثني للضفيرة الثانية فإذا
اكتملت ربط الخيطين خلف رأسها. يأخذ «الحزقة» الملونة يشمها مشبعة برائحة الشعر
بوده أن يسرقها ليته جلب لها أخرى قبل القدوم. يعرف أن لديها الكثير لكنها ستعرف
انه يضعف. هي تكره ضعفه. ستذكره أن لا يظهر ضعفه أمام أحد يعرف الأحد المقصود.
تريده أن يحكم بيته بقوة القلب والنظرة أما المنديل فقد يكشف ضعف القلب. الرجل
القوي لا يبكي في بيته. تعرف الآن انه يبكي خلف كتفيها بصمت. يدير طرفي المنديل
تحت الضفيرتين ثم يخرجهما متعاكستين ويعقدهما فوق هامتها ويشكل زهرة ملونة من
ذؤابتي المنديل. يشم يديه أشبعتا بالعطر.لديه الآن خصلة شعر أخرى حمراء وسوداء
وبيضاء على لوحة المفاتيح يلفها يقبلها يضعها في جيب القميص لينقلها لاحقا إلى حقيبة
أوراقه. يقبل رأسها« لم تقل لي ماذا تكتب ليلا نهارا على هذا الشيء؟»

يدير لها الشاشة  ترى الخطوط السوداء المتقطعة. ترى حركة أصابعه
في مكان والكتابة تظهر في مكان آخر لا تفهم العلاقة. بينها وبين الآلات فجوة  أوسع من ألف سنة. لقد نشأت تحت دولة الحماية.
ولم تعرف دولة الاستقلال إلا في الإذاعة. يمسك يدها ويضعها على لوحة المفاتيح.
إصبع واحد على زر واحد يخرج لها حرفا واحد مكررا مسطرا بالأحمر. تجفل ترفع يدها
بسرعة « لقد أفسدت شيئا ما» يطمئنها بمسح ما ظهر 
يبقى يديها في يده ويتأمل الحناء في الأنامل.

كانت أنامل لدنة رغم شغل
الأرض القاسي. هي الآن  جلد رقيق على عظم
قد يكون رق تحت الجلد غير انه يستر رقته. التوت الجلدة فوق فقرات الأصابع  ظهرت خطوط طولية فوق السلاميات.ثم الظفر ابيض إلا
من بقية الحناء في الطرف القصي. أطراف الأظافر ليست مستديرة. لا احد اهتم بتدوير
أطرافها لكنها ليست وحشية. استدارات الحناء تعطيها شكلا مختلفا عن أصابع  مخضعة للرقة القسرية  لكنها رقيقة 
جبلة. البياض في منبت الظفر 
والحناء في طرفه وبينهما مسافة من الأحمر المصفر في البياض.يقلب اليد بين
يديه…يري باطنها والخطوط العميقة في طوايا الجلد. كانت يدا لدنة وكانت بها
امتلاءات طرية وكانت لها في باطن كفه رقة وفي فروة رأسه  مسارب من حب طري.شققها البرد وترك أثرا وجففها
الحر وترك أثرا لكن رقتها لا تنسى كأنها الرقة كلها..عندما تتسرب بين كتفيه وتحك
حكا لطيفا تسري قشعريرة في الجسد كله.يقول لها « أكربي» فتمرر أظافرها على  حبوب لا ترى 
يتلذذ يطلب المزيد  تعرف أن تمر على
كل موضع دون تكرر مسارب أظافرها …تنزل يدها إلى حزامه تجاوز العمر الذي تنزل
يدها  ابعد من ذلك. الثقافة تقف ضد الأم
أيضا. هذه اليد كم طابت  له وكم منحها
جلده. ماذا لو منحها الآن ظهره ربما رأت بأناملها تعبه والشقاء وانحناءة
الكتفين.اكتفي بتقبيل اليدين المتشابهتين في الرقة والوداعة والألم.

أحست أن قلبه يسيل من عينيه.
فكت يده وضمت رأسه وتركت له أن يفرغ كل العيون.بعض الماء الحار نزل في
جيبها.فتنهدت وسكتت.اللغة وقتها فقدت أبجديتها وصدرت عنها حروف مبهمة.بين الهمهمة
والنشيج.

قبل أن يدخل الحاسوب في
غيبوبته المبرمجة امسك سبابتها اليمني بيمناه وقادها بين الأزرار ظهرت على الشاشة«
أمي».  

* روائي وأكاديمي من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *