حسونة المصباحي
بين وقت وآخر تسمح حركة النّهضة لنفسها، سواء عبرقيادييّها، أو عبر البيانات التي تصدرها، بالحديث عن الوحدة الوطنيّة. وهو أمر مستحسن ومرغوب فيه خصوصا في هذه المرحلة العسيرة التي تعيشها البلاد، والتي تشهد انقسامات وانشقاقات في الأفكار، وفي الآراء، وفي الرؤى حول مختلف القضايا الكبيرة منها والصّغيرة، سياسيّة كانت أم آجتماعيّة، أم ثقافيّة، أم غيرها.
ولكن هل بإمكاننا، نحن الذين تعوّدنا من هذه الحركة خطابا مزدوجا، ومثلّثا، ومربّعا في أحوال وفي ظروف كثيرة، تصديقها في مثل هذا الشّأن؟. شخصيّا، مثل هذا الكلام من جانب حركة النّهضة عن الوحدة الوطنيّة، يدخل من أذني اليمنى ليخرج من أذني اليسرى.
وقد يشاركني الكثيرون من التّونسيّين في موقفي هذا. ولي أدلّة وحجج دامغة تشير جميعها إلى أن دعوة النّهضة، لضرورة تكاتف وتضامن التونسييّين لمواجهة المرحلة التي بدأت إثر سقوط نظام بن علي، لا مدلول لها سواء في تفكيرها، أم في ممارساتها السّياسيّة. وأوّل شيء أبدأ به هو أن النّهضة منذ أن كانت تسمّي نفسها ‘الاتجاه الإسلامي’ دعت ولا تزال تدعو إلى فصل تونس عن محيطها الحضاري، والثّقافي، والطّبيعي، والجغرافي، أي المتوسطي والمغاربي، لترمي بها في عالم مترامي الأطراف غير متجانس لا دينيّا، ولا ثقافيّا، ولا تاريخيّا، ولا توحّده تقاليد محدّدة، أعني بذلك العالم ألإسلامي الذي يمتدّ من أندونسيا إلى المغرب.
وغالبا ما تدفع التّناقضات، والاختلافات، والفروقات ببلدان هذا العالم إلى حدّ التّناحر، والاقتتال في ما بينها. ولا يتردّد البعض منها في الإستنجاد بالأجنبي دفاعا عن نفسها ضدّ جارتها المسلمة. ثمّ أنّ هذا العالم لم يكن موحّدا في أيّ فترة من فترات التّاريخ. ومثل هذا الفعل، أي فصل تونس عن محيطها الذي ذكرنا، لا يختلف في جوهره عن اقتلاع شجرة من محيطها الطّبيعيّ لغرسها في محيط غريب عنها فسرعان ما تذبل وتيبس أغصانها فتموت، أو تصبح عاقرا لا صلاحّية لها غير أن تكون حطبا للنّيران.
وأمّا الأمر الثّاني فهو إصرار النّهضة على عدم . الاعتراف بتاريخ تونس قبل الإسلام الذي جاءها في القرن السّابع. فلكأنّها لم تكن موجودة قبل ذلك أبدا. والحال أنها أشعّت على العالم قبل ذلك بحضارات وبثقافات مختلفة ومتنوّعة لا تزال آثارها دالّة على عظمتها سواء في مجال العمران، أم في مجال الفنون، أم في غير ذلك من المجالات. وعمل النّهضة على حصر تاريخ تونس في الحقبة الإسلاميّة هو في الحقيقة تزوير وتشويه للتّاريخ. وهي في ذلك تشبه الذي يقوم ببتر أعضاء جسد ليصبح هذا الجسد عاجزا عن القيام بوظائفه الأساسيّة. من هنا نفهم أسباب غرام النّهضة بذلك الخطاب الشّعبويّ الفضفاض الذي تسمّيه ‘الهويّة العربيّة الإسلاميّة’.
والحال أن واقعنا التّونسيّ لم يشهد صراعات ونزاعات حول هذا الموضوع. وجميع الانتفاضات التي شهدتها بلادنا سواء في زمن بورقيبة أم في زمن بن علي كانت خالية من موضوع الهويّة هذا. لذلك يمكن القول انّ هدف النّهضة من إقحامه في واقعنا اليوم تحديدا هو نشر البلبلة بين التونسييّن، وتفريق صفوفهم لكي ينصرفوا عن القضايا الأساسيّة، ويغرقون في المجادلات العقيمة، والصّراعات المذهبيّة القاتلة والمدمّرة على جميع الأصعدة. ولا تعترف النّهضة فقط بتاريخ ما قبل الإسلام، بل وأيضا بمراحل من تاريخنا المعاصر، خصوصا المرحلة البورقيبيّة التي ينعتها زعيمها راشد الغنّوشي بـ’الحقبة السّوداء’.
ومنذ انهيار نظام بن علي وهذه الحركة لا تكاد تنقطع عن القيام بمحاولات لفسخ هذه المرحلة الهامّة من تاريخنا المعاصر. وعمل كهذا لا يمكن أن يكون إلاّ استهتارا بالتّاريخ، بل جريمة بشعة لا يمكن أبدا اغتفارها لمرتكبيها بأيّ حال من الأحوال. فتونس لم تنهض كدولة ذات سيادة إلاّ في المرحلة البورقيبيّة. وبفضل بورقيبة تحققّت للتّونسييّن إنجازات هامّة في مختلف المجالات، بها سوف يحتفظ التّاريخ لأمد طويل. وعندما تتنكّر النّهضة للمرحلة البورقيبيّة فإنّها لا تفعل شيئا آخر غير التّنكّر للمراحل التي سبقتها، والتي لم تكن هي إلاّ تواصلا لها. وفي هذه المراحل كلّها، والتي بدأت في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر مع خير الدّين باشا التّونسي، كانت النّخب المستنيرة، والمنفتحة على حضارة العصر، والرّافضة للتّزمّت والانغلاق هي الفاعلة في الواقع وفي التّاريخ. وهي التي قادت حركة التّحرّر الوطني. وهي التي أنشأت دولة ما بعد الاستقلال. والحقيقة أن سعي النّهضة لشطب تاريخنا القديم، أو التنكّر لمراحل محدّدة من تاريخنا المعاصر، يساير ويجاري عمل كلّ الحركات الفاشيّة التي تعتبر التّاريخ الذي سبق ظهورها ملغى وبلا معنى وبلا مدلول. ولو نحن تمعّنّا جيدا في فكر النّهضة، وفي الطّرق التي تنتهجها في عملها السياسي لما خفيت علينا نيّتها في مصادرة التّاريخ لصالحها. بل أنها تريد أن يبدأ هذا التّاريخ من الصّفر، وتحديدا منذ أن وصلت إلى السّلطة عقب آنتخابات 23 أكتوبر 2011.
أمّا ما حدث قبل ذلك فغير معنيّة به. وإذا ما أرادت حركة النّهضة أن تكون صادقة وجادّة حقّا في دعوتها لوحدة وطنيّة في أوقات عصيبة كهذه، فإنّ المطلوب منها هو الالتزام الصّريح، الواضح بالعديد من الشّروط. أوّلها رفع وصايتها عن الدّين، والكفّ عن آستعماله كوسيلة للدّعاية لها ولسياستها في المساجد وفي غير المساجد. وهي مطالبة أيضا بالكفّ عن تقسيم التّونسيّين إلى مؤمنين وكفّار. وبالاعتماد على القوانين عليها أن تواجه من تسمّيهم ‘إخوتها في الدّين’، أي السلفييّن الذين لم ينقطعوا منذ سقوط نظام بن علي عن ترويع أبناء بلادهم، وترهيبهم، ونشر الفتن بينهم بآسم ما يسمّونها بـ’المقدّسات’. فلكأنّ هذه المقدّسات بحسب مفهومهم تبيح ارتكاب الجرائم، والاعتداء على من يخالفونهم في الفكرة، وفي الرّأي. وعلى حركة النّهضة أن تحترم حقّ ألآخرين في طريقة عيشهم، وفي طريقة تفكيرهم، وفي طريقة لباسهم . فالتّونسيّون ليسوا أفغانا ولا باكستانييّن ولا خليجيّين. وهم لا يحتاجون إلى من يصلح أمر هويّتهم، أو يعدّلها بحسب مزاجه ورغباته وأمراضة النفسيّة، بل هم بحاجة إلى من يساعدونهم على الحفاظ على وحدتهم الوطنيّة لمواجهة العواصف التي تتهددّها. فبدون هذه الوحدة لن تكون لهم القدرة على تحقيق طموحاتهم في بناء الدّولة الجديدة التي ينعمون فيها بما من أجله ناضلوا أمدا طويلا، وفي سبيله دفعوا الثمن غاليا أي العدالة الإجتماعيّة والكرامة، والحريّة.
* روائي من تونس
( عن القدس العربي- لندن )