الفتى مهران

الفتى مهران

د. جابر عصفور

وفي شرفات هذا العصر

قد وقف الرجال الزائفون

مهفهفين ملمعين

مثل البغايا حين‮ ‬يقطعن الطريق على وقار العابرين

لكنه زمن ويمضي وسينتهون

ما أكثر ما تتكرر هذه الأبيات على ذهني كالصدى المتكرر لما لا تزال ذاكرتي تحتفظ به من مسرحية “الفتى مهران” للشاعر المسرحي عبد الرحمن الشرقاوي، الذي كان ملء السمع والبصر بمسرحياته ورواياته وقصائده التي أُعدها بداية الشعر الحر في مصر،‮ ‬خصوصا في انقطاع هذا الشعر عن الرومانسية التي كان لا‮ ‬يزال‮ ‬غارقا فيها،‮ ‬والتي كان يلخصها بيت علي محمود طه الذي‮ ‬يقول:

وإن أشهى الأغاني في مسامعنا

ما سال وهو حزين اللحن مكتئب

والحق أن الشرقاوي،‮ ‬أكثر من‮ ‬غيره وقبل‮ ‬غيره،‮ ‬هو الذي فتح الشعر على الواقع ومشكلاته الاجتماعية على وجه الخصوص،‮ ‬وذلك منذ نهاية الأربعينيات على وجه التحديد،‮ ‬انطلاقا إلى الخمسينيات التي شهدت مطالعها قصيدته العلامة “من أب مصري إلى الرئيس ترومان”. وترومان هو الرئيس الأميركي الذي أمر بإلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي،‮ ‬فحقق بهذا الفعل الإجرامي نصر الولايات المتحدة ليس على القوة الضاربة لليابان فحسب، بل تدشين بدايات الزمن الأميركي وتحالفاته التي كانت بمثابة الاستعمار الجديد الذي حل محل الاستعمار القديم للإمبراطوريات التي غربت عنها الشمس. وقد كتب الشرقاوي قصيدته إلى الرئيس الأميركي،‮ ‬تعبيرا عن رغبات الشعوب المقهورة في الحرية والعدل والتحرر من كل أشكال الاستعمار.

وكانت هذه القصيدة هي البداية التي قاربت بين لغة الشعر ولغة الحياة. ولولا جسارة اللغة الحية،‮ ‬لغة الحياة اليومية،‮ ‬ما جرؤ صلاح عبد الصبور على أن‮ ‬يقول:

فشربت شايًا في الطريق

ورتقت نعلي

ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق

قل ساعة أو ساعتين

قل عشرة أو عشرتين

وكانت الحوارية في قصيدة “من أب مصري” هي البذرة التي تولدت منها المسرحيات المكتوبة في الشعر الحر الذي أصبح سلاحا نضاليا في مقاومة الاستعمار الذي لم‮ ‬يكن قد رحل بعد عن بقية الأقطار العربية، خصوصا بعد أن رحل الاستعمار البريطاني عن مصر سنة، 1954‮ ‬وبعد أن انكسرت محاولته في العودة من خلال العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه فرنسا عقابا لمصر الناصرية على مساعدتها للجزائر في حرب التحرير. وقد كانت “جميلة” المسرحية الشعرية الأولى للشرقاوي؛ تمجيدا للثائرة الجزائرية التي قبض عليها الاحتلال،‮ ‬وعذبها تعذيبا وحشيا، فأصبحت رمزا للكفاح الوطني. وقد مثلت المسرحية على خشبة المسرح القومي في زمنه المجيد. وبعد انقطاع عن المسرح الشعري لسنوات كتب الشرقاوي “الفتى مهران” التي صب فيها نقده القاسي على السياسة الناصرية،‮ ‬مركزا على الأسباب التي أدت إلى هزيمة، 1967‮ ‬ومنها إقصاء الثوار الحقيقيين؛ ليتصدر المشهد سراق الثورة والعدل الاجتماعي. وما أشبه الليلة بالبارحة.

– الاتحاد

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *