كبحّار ملّ السفر…!


علي أبو الريش*

هذا الجبل مدمن الدهر، يدخن سجائره ويرمي بالأعقاب عند حافة الطريق متفانياً متفادياً الإحساس بالوحدة، منذ أزمنة، وهو يقطب الجبين ويقبض على جمرة الأحجار المخضوضة رجفاً ونزفاً وعزفاً تحت سطوة الشبق البشري.

هذا الجبل يغرف من رمل الصحراء ويراكمه وجداً أبدياً ويخصب النجوم ببريق باهت شائه، ثم يمضي في وجوم متداعياً على الفجوات والجفوات وأخاديد وتجاعيد الانتظار الممل، وكأنه كهل طارت عنه العصافير وبقي وحيداً في وجه العزلة المزرية يرتل آيات لوعته بصمت، ويغسل الوجنتين الضائعتين في أتون الزمن بملح التوجع والتفجع، ثم يحصد ما تبقى من دمع باليدين المعروقتين الزاويتين الذابلتين الخاويتين إلا من فراغ وسيع فظيع، منيع، بديع.

هذا الجبل مقلة تائهة في غياب الفكرة التائهة، سنبلة تهفهف في الفراغ وتطيح بأجنحة الفراشات المثبوتة في اللانهائي، قُبلة تجفف رضاب المرحلة، بريق أشهى من لون القدرة المتصاعدة، حين يغلي الجسد بأسئلة الفطرة المبجلة، هذا الجبل شبه قصيدة سيريالية نائمة على حروف مغلفة بالمجون والجنون وسفه الفنون.

صمت وصمود

هذا الجبل يغرس صمته ويثري صموده حجر أشبه بشعر امرأة أجعد، هو كلحية شامخة تتدلى على نحر وصدر شائبة خائبة لكنها مستبسلة للوجود، متوسلة لخير ما أنعم الله على النهود، متواصلة مع الحياة، بفاصله كنصل المهند الهندي الصقيل.

هذا الجبل أعجوبة بشكله الغرائبي، وهو يتحدد على الأديم كبحار ملّ السفر، يمتد كشراع عانق الريح ثم انكسر في شد الوثاق وما جد في الوفاق، بل انحنى متقهقراً يستجدي الناس عن زمن كان فيه الجبل سكناً ووطناً ولحناً وقناً وكأن القارعة التي تمارس قضوة الانتماء إلى رائحة الرمل وطيب الزرع وعبق العرق متدفقاً من عنق وحدق.

هذا الجبل منذ زمن وهو يغني لغزالة القلب ويطرب الرابضين عند القمة والسفح يطعمهم لذة الإخاء وشهوة الانتماء ونخوة التساق من ماء المكرمات، هذا الجبل وحيداً فريداً عتيداً عنيداً تليداً، مجيداً متفرداً، مستفرداً في فحولته وصولاته وغزواته عندما كان الحلم بحجم شهامته وقامته وقعالته ورفقه وتدفقه وشقاوة أحجاره المتمرغة في كعوب الكاسيات النهر.. هذا الجبل هو أول كائن عرف كيف تغنج النساء وكيف يعجن اللهفة بالشهقة، وكيف تطحن دقيق الحياة بمضغة ولمضة وغمضة وومضة.

هذا الجبل الراهب، الرهيب، الناسك، الممسك بتلابيب وجوده رغم الخض والرض وسوء الحظ، هذا الجبل لم يزل يحفظ سر الأغنية البدوية وصلابة السواعد وجسارة العزيمة، لم يحفظ وداً وسداً ووعداً وعهداً، مع جاثيه انتظر عودة “الحلال” من مرعى التيه، متوسدة حجراً، مسندة الظهر على الفراغ وعيونها ضائعة في المطيب المهيب، هذا الجبل لم يزل يسكن في غرفة الانتظار الأزلي، متحسباً وصول المطر لتنمو في أعضائه شعيرات الأمل ويرتفع أذان السطوة المتناهية، هذا الجبل ليس كسائر الجبال لأنه من طين الروح ومن حجر القلب يسدد مضغته من رمق الاحتمالات التي لا تحتمل النسيان ولا البهتان ولا الخنوع لفانيات الأيام.. هذا الجبل لم يزل يتعلم من أيامه الخوالي كيف يصفد القصيدة وكيف تغرد الطيور وكيف تحلم الفراشات، وكيف تصفق النجوم وكيف تحدق الغيوم وكيف تطهر الأقمار وجوهاً من غبش السهر، وكيف تفكر الكواكب في الدوران حول مجاميعها وكيف تغازل موجة البحر، محارة ضلت الطريق إلى الماء، وكيف يواجه المطر الأرض بالبلل، وكيف يتشهى التراب الهطول، هذا الجبل لم يزل يغزل حريره لعل وعسى يسكن خبيب الأرض ودبيب الأقدام وصبيب الأنام، لم يزل يفتل شوارب العبرة لأجل فكرة تفجر أنهار الحياة عشباً قشيباً، خصيباً خضيباً وماء سكيباً، هذا الجبل نمر يفر من سيره وصيروره. هذا الجبل دمعة السماء المتيبسة على خد التراب، هذا الجبل نزف الأرض الصاعد إلى السماء، هذا الجبل الرغبة الجامحة، الراجحة، النازحة، السابحة، الناضحة، الواضحة، الصريحة المصرحة، عن صرخة غير راضخة، هذا الجبل المد والمدية والمداد المديد، صفحته الأرض وريشته ورقة نابتة على قمة وقامة، هذا الجبل الصورة المثلى للقوة والجَلَدْ والنخوة والمجد، لا يحيفه حبل مسد ولا تخيفه نار الكمد، هذا الجبل يحتسي من زمنه ووسنه كأس اللهو في حانة اليابسة، منتشياً، متفشياً، منتعشاً، معششاً، يابشاً عن أصل الصلابة ونصل النجابة متكئاً متواطئاً وامثاً إلى ذاك الأفق بحذق وألق مع سبق الإصرار، على البقاء رافلاً لونه الرمادي كأنه الفراغ والبلاغ الناجز والبلوغ الراكز، كأنه لغة رقصت على لسان فتى غرير كأنه ابوة غرست سنها في رقعة الحرير، كأنه الوقت الآخر من زمن الميتين، كأنه الزمن المقتطع من عمر الأشجار والأنهار والبحار والمحار، وعقب السيجار، هذا الجبل النقطة الفاصلة بين جملتين ناريتين وبين قُبلتين محترقتين على شفاه عاشقين، هذا الجبل، الرسم والوشم، والحلم، والألم، والنعم، والسهم، والنجم، والقيم، والرحم، والخطم، والكلم، والقلق المتفاقم، والحدق الواجم، والعنق الساهم، والسفر الطويل، الطويل في تضاريس الشيم.

هذا الجبل قلعة القلب ومنصة الدرب وأصل الصخب والشخب والحدب والشذب والخطب والخَطب والنَدب ونديم الصحب وصاحب القوامة والجذب.. هذا الجبل الواقف العارف، الغارف، المسرف، الوارف، المقطف القاطف، الساحر الراجف، السافر الطارف، الكلف النازف، الواله والآخر والسالف، السائد عميقاً في البيداء، الجارف، الممتد في الصحراء، الزاحف، المتطور، المتسور، المتلف، التآلف.. هذا الجبل، الساكن، الواهن، المراهن على قوة الحجر، وسطوة البشر، ونخوة الشجر، وأحلام تمر ولا تمر، لكنها تثمر وتدر زمناً يلاقح زمناً ومحناً تسامح محناً، وحوافر تحث الخطابا تجاه نهارات وانبهارات واستدارات وحوارات ومدارات، هذا الجبل يقضي ما يقتضي من زمن، ويفضي إلى آفاق وأحداق وأشواق وأعناق من غير إملاق.

مغامر أبدي

هذا الجبل مغامر بصورة الأبد، يكتب حكايته على وجوه الذين يمرون من حوله ولا يحدقون، يسطر آياته على صفحاء، الدهماء والشعواء، ويمضي قدماً يجلد بنسماته أديم الأرض ويكحل جفون المارين والقاطنين عند قارعته بغبار السعار ويتجلد صبراً، ولا يرد خبراً، قد يسقط حجر من هامته، لكنه يبقى حفيظاً على اسمه واسمه الجبل، هذا الجبل، قد ينفث غباراً بفعل اللهاث، لكنه يبقى الحارس النبيل على أسطورة التكوين والجبلة الأولى، هذا الجبل، الحبل والنبل، والجذل والجد والهزل، بل هو كل الملل وأصل النحِل، وهو الجدل المقيم منذ الأبد وحتى الأزل.. هذا الجبل، اللسان الفصيح الحصيف واللمحة الدامغة والصرح الصريح.

هذا الجبل الواثق الباشق، العاشق، الرفيق المرافق، الصديق الصادق، المبرق البارق، الأول واللاحق والمستبد المارق، والنزق الحارق، هذه وكأنه في يوم من الأيام كان نهراً فاستشاط به الوجود غضباً، فاستحال إلى عابس متولي، وربما قابس متجلي، أو نابس متعالي، هذا الجبل، ربما يكون في يوم من الأيام كانت ناقة عرجاء فتعثرت بحجر، فاستحال العظم إلى قمة حجرية عجفاء، رجفاء، لا تبقى وتذر، لا تفرح ولا تسر، هذا الجبل أخفورة أو أسطورة، صورة أو سورة، لكنه يبقى الشهقة المحفورة في جسد الذين مروا من هنا، ذات لهفة، ثم ساروا يحطبون في الفراغات بحثاً عن بريق أنيق يلون ثياب المرحلة ويزخرف الحياة بعلامة الاستفهام، الغريبة المريبة، المستتبة.

هذا الجبل كان في يوم من الأيام رحم الأجنة وفم الأسنة، وكان وكان، يجدل خصلات اليافعات، بحنان وحنين وامتنان مستكين وأمان لا يلين، هذا الجبل كان يلون السواعد بألوان قوس قزح وأشجان ومرح ويلعن الشيطان الرجيم بوابل من طيور أبابيل، وشيء من أقاويل، وشيء من سرابيل، وأشياء من مواويل، هذا الجبل، قد يخلب وقد يسلب، وقد يقطب ويحجب، لكنه الجبل النبيل، حين تقصده الأفئدة، يضع عصاه، متكئاً على نبلة تخرج بيضاء من غير سوء، تخرج بالندا المتقطر، والغيث المتحدر، والنهار المسفر، والليل المقمر، والغصن المثمر، والحرف المعبر، والكتاب المسطر، والحب الغامر، والقلب العامر، والنهر المثابر، والبحر المغامر، والأثر الساحر، تخرج بالباطن والظاهر، تؤتي أثراً ليس لها مغاير أو مساير.

◆ 
هذا الجبل منذ زمن وهو يغني لغزالة القلب ويطرب الرابضين عند القمة والسفح يطعمهم لذة الإخاء وشهوة الانتماء ونخوة الإرتواء من ماء المكرمات

 

* أديب إماراتي

– عن الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *