TANGER; KINGDOM OF MOROCCO - OCTOBER: (FILE PHOTO) Paul Bowles poses near his home in Tanger,Morocco during October of 1987.(Photo by Ulf Andersen/Getty Images)

(بول باولز.. وعزلة طنجة) للروائي المغربي محمد شكري

(بول باولز.. وعزلة طنجة) للروائي المغربي محمد شكري

محمد محمد الخطابي

عن دار النشر الإسبانية ‘كاباريه فولتير’ صدرت مؤخرا بمدينة برشلونة الترجمة الإسبانية لكتاب ‘بول باولزوعزلة طنجة’. حول هذا الكاتب الأمريكي
الذي عاش في هذه المدينة منذ وصوله إليها عام 1947والتي ظلّ بها إلى وفاته عام 1999 (أنظر مراسلتي حول هذا الكاتب المنشورة في ‘القدس العربي’ تحت عنوان ‘بولباولز..عاشق طنجة’ العدد 7144 الإثنين 4 (يونيو) حزيران2012).
يشير الكاتب الإسباني ‘كارليس خيلي’ في مقال نشرته صحيفة ‘البايس’ الإسبانية بتاريخ 16 أغسطس 2012 م حول هذا الموضوع: ‘أن محمد شكرى(بني شيكر1935- الرباط 2003 ) يأسف للسطحية التي عالج بها بعض الكتّاب صورة مدينة طنجة، والأدهى والأمرّ من ذلك الإحتقار والكراهية، والعنصرية، التي ينظر بها هؤلاء الكتّاب إلى السكان البسطاء في هذه المدينة’. وقد علّق شكري على ذلك بقوله: ‘أيّ كان يقضي بضعة أسابيع في طنجة يمكنه أن يؤلّف كتيّبا عن هذه المدينة’.. ويرى الكاتب الإسباني: ‘انّ كابوتي، وغنسبيرغ، وكيرواك، وغور فيدال، وتنيسي وليامز أو بول وجين باولز هم بعض من هؤلاء المشاهير المرموقين الذين أعجبوا وكتبوا عن المربّع الحيوي لشكري الذي يقول: ‘إنّني أدافع عن الوسط الذي أنتمي إليه، أدافع عن المهمّشين، وأنتقم من هذا الزمن المذلّ والبئيس..’.. هكذا كان صاحب ‘الخبز الحافي’. يبرّر موقفه ممّا يعيشه ويشاهده من خزي في عصره، في هذه السيرة الذاتية المفعمة بالمرارة لصراحتها المفرطة.

محمد شكري
محمد شكري


شخصيات تدمّر نفسها

ويشير الكاتب ‘.كارليس خيلي’ان كلاّ من بول باولز وزوجته جين اللذين استقرّا في هذه المدينة منذ عدّة سنوات كانا بؤرة اهتمام العالم الادبي الذي ينقله لنا شكري بصراحة مرّة، والذي كان يعرف جيّدا بول لمدّة تزيد على 25 سنة حيث كان شكري يملي عليه باللغة الإسبانية ما كان يكتبه كل صباح من سيرته الذاتية التي كانت في ذلك الوقت تحمل عنوان ‘من أجل كسرة خبز’.أو من أجل لقمة خبز، والتي كان بول باولز يترجمها إلى اللغة الإنجليزية، بعد ذلك بدأ الخلاف بينهما.
شكري في هذا الكتاب يصف باولز بتلقائية مطلقة، حيث يقول عنه إنّه لكي يكتب كان يدمن على تعاطي الحشيش (الكيف كما يعرف في المغرب حسبما يورده الكاتب الإسباني)، إلاّ انّه خارج المنزل كان يشرب السجاير، كان إباحيا مثليا ولم يخفي شيئا على رفيقة عمره جين كما أنّه كان نخبويا وعنصريا، يقول شكري عنه: ‘كان يروقه المغرب وليس المغاربة، وكان دائما في حاجة للابتعاد عن العالم’.. ويضيف الكاتب الإسباني قائلا: ‘إنّ شكري عندما يشرّح بذكاء الحياة الأدبية لبول باولز يقابل أعماله الإبداعية بحياته الحقيقية،كان ينتقد نقدا لاذعا أحد كتب باولز وهو ‘مذكّرات رحّالة ّ’، حيث كان يقول عنه انّه كتاب يقوم على رتابة متتالية، وفواصل مملّة، كانت الغاية من وضعه دفع تكاليف التطبيب والعلاج لجين’. وفي رأيه أنّ الجنس كان هو سبب جميع المصائب والمحن التي تلحق بأبطاله، والجنس لصيق بالجريمة والجنوح والمروق، وشخصيات هذا الكتاب مهدّدة بتدمير وتحطيم نفسها ودائما تنتظرها نهاية مؤلمة وقاسية’.. ويشير شكري ‘أنّ هذا العمل الادبي قد شاخ كثيرا مع مرض جين الذي دفع بباولز إلى القيام بترجمات متعدّدة لكتّاب عرب، كما انه كان يدلي بلقاءات واستجوابات أدبية، ثم طفق في كتابة يومياته الشخصية’..ويضيف قائلا: ‘إن مراوغة خيال بول باولز كان يزعج جين، إلاّ أنها لم تكن تعتب على زوجها فالذي كان ينقصها لم تكن المهارات بل المثابرة، كانت تشعر بالمرارة من عدم الاكتراث وبنوع من الضغينة ممّا كان يجري، كانت تغرق في الكحول حتى الثمالة، كما كانت تغرق في طموحها الذي لم يحالفه النجاح إذ بعد بلوغها الخمسين من عمرها هجرت الكتابة، الامر الذي زاد في تفاقم عنصر التدمير الذاتي عندها، مضافا إلى ذلك السلوك الإباحي غير الحميد عندها ‘.

زمن الخطايا


يقول الكاتب ‘كارليس خيلي’ان كتاب شكري أثار حفيظة بول باولز حسب ‘ميغيل لاثارو’ مسؤول دار النشر (كاباريه فولتير). وكان الكاتب الفرنسي جان جنيه قد غضب كذلك على شكري لنشره أسرارا كان قد اسرّ بها له من قبل ضمن كتاب آخر باللغة الإسبانية الشيء الذي أدّى إلى قطيعة بينهما، وقد صرّح المسؤولون عن دار النشر هذه أنها ستعمل على إصدارهذا الكتاب كذلك باللغة الإسبانية في ربيع 2013 بالإضافة إلى كتيّب آخر لشكري كذلك حول الكاتب الأمريكي تنيسي وليامز يحمل عنوان: ‘جان جنيه وتينيسي وليامز في طنجة’.
يشير الكاتب الإسباني أن هذه الكتب والمنشورات الجديدة لشكري جاءت نتيجة التقارب والتعاون القائمين بين الناشر ميغيل لاثارو والمترجمة رجاء بومدين وبين
شقيق شكري عبد العزيز. الكاتب لم يترك أيّ وصيّة مكتوبة رسمية وموثّقة، إلاّ أنّ الوارث يحتفظ في مرآب وفي ظروف غير جيّدة بمكتبة شكري الخاصة وبعض الموروثات الأخرى، منها ‘وجوه’ و’زمن الأخطاء’ (حول التضحيات التي بذلها شكري لتعلّم القراءة’.. كما ستعمل دار النشر كاباريه فولتير على إعادة نشركتابه الشهير ‘الخبز الحافي’ الذي سيحمل هذه المرّة عنوان ‘الخبز’ باقتراح من الكاتب الإسباني المعروف خوان غويتيسولو الذي كتب تقديما أو تمهيدا للكتاب الذي نحن بصدده حول بول باولز، والذي له معرفة واسعة بتلك الفراديس الواقعة في شمال افريقيا

إنطلاقا من صداقته وقربه من الكاتب بول باولز كتب محمد شكري هذه الشهادات الحميمة التي تزيح الستار عن العديد من الحقائق والأسرار التي ظلّت طيّ الكتمان، والتي لم يتم نشرها من قبل عن المعايشات والمغامرات الطنجوية الحالكة لهذا الكاتب الأمريكي. في هذا الكتاب نكتشف علاقة باولز مع أبرز الكتّاب المرموقين في عصره مثل وليم بورو، وألن غينسبيرغ، ترومان كابوتي، ومختلف الأسرار والخفايا التي أحاطت بهذا الكاتب الغريب وزوجته جين. إنه كتاب ينبض بالعواطف ويحفل بالعنف والحقائق المثيرة والصّخب حول باولز وكل هؤلاء المحيطين به الذين جلبوا كثيرا من المتاعب الخطيرة ووجع الدماغ لشكري، ولقد بلغ الأمر بواضع هذا الكتاب إلى الإفصاح عن شعوره بالمرارة من تأليفه حيث قال: بكتابي هذا حول بول باولز قتلت والدي الثاني’. .

نزيل طنجة

هذا الكتاب كان قد صدر باللغة العربية تحت عنوان (بول باولز وعزلة طنجة) عن منشورات الجمل الطبعة الأولى عام 1997 . وقد تمّ تقديمه بعد ترجمته إلى اللغة الإسبانية بتاريخ 30 حزيران/يونيو المنصرم ( 2012) بمكتبة ‘الأعمدة’ بمدينة البوغاز بحضور الكاتب خوان غويتيسولو المقيم بالمغرب، ومترجمة الكتاب رجاء بومدين،
ومديرة المكتبة سيسيليا فيرنانديث، وأشارت المترجمة أنها واجهت صعوبات جمّة حتى رخّص لها بنقل هذا الكتاب إلى لغة سيرفانتيس من طرف ورثة محمد شكري خاصة من طرف أخيه عبد العزيز. كما واجهت صعوبات في التعاقد مع ناشر إسباني لإصدار هذا الكتاب في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها إسبانيا إلى أن رحّبت دار النشر ‘كاباريه فولتير’ بنشره بمبادرة من الناشرالإسباني ميغيل لاثاروغارسيا. وعبّرت المترجمة عن سرورها وابتهاجها لخروج هذا الكتاب أخيرا إلى النور.
أمّا الكاتب غويتيسولو فقد نوّه بالوصف الذي يقدمه شكري للموسيقار الأمريكي برايان جيسين الذي عاش هو الآخر في طنجة وتعلّم اللهجة الدارجة المغربية لمعايشته للمغاربة عن قرب، واغتنم غويتيسولو هذه الفرصة ليتحدث عن تصفية الحسابات التي كانت بين شكري وباولزالذي وصفه ‘بأبيه الأدبي’ لدواع مادية، وقال الكاتب الاسباني ‘إن ّهناك نوعا من التظلم في هذا الشأن، ويبدو لي أنه من الأهمية بمكان معرفة وجهة نظر مغربي معوز كان يعيش بين ثلّة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة كفردوس أرضي ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هنا’.. وقال غويتيسولو إنّ كتاب شكري ‘مهمّ لا محالة’.. وطلب من الناشر ‘لاثارو’ أنه عند إعادة نشره لكتاب شكري ‘الخبز الحافي’. أن يضع له عنوان ‘الخبز’ فقط، لانّ عنوان الخبز الحافي يمجّه الذوق الإسباني وهو لا يعني شيئا في اللغة الإسبانية، وقال له مازحا ‘إنك لو احتفظت بهذا العنوان فتأكّد أنّك سترتكب جريمة في حق اللغة الإسبانية’..

في مغارة هرقل


كان باولز يقول انّ حياته تنساب في هذه المدينة في هدوء وأصبح لا يطيق العيش ولو لمدة شهر واحد في المدن الغربية الكبرى. ولم يكن لديه ما يفعله في أخريات حياته سوى الكتابة التي كانت قد أصبحت متنفّسه الوحيد، كان يستقبل في منزله العديد من الأصدقاء، وقد تحوّل بيته إلى صالون أدبي يؤمّه مختلف الادباء والكتّاب، فضلا عن
المشتغلين بالسينما الذين كانت لهم رغبة في نقل بعض أعماله الى الشاشة الكبيرة، وهكذا عندما أخرج برناردو برتولوتشي روايته ‘السماء الواقية’ لم يكن باولز يتوقّع
ان يحقق هذا الشريط أيّ نجاح، وعندما أخبره صديقه ّروسل’ انّ هذا الفيلم قد تمّ عرضه كذلك بنجاح في المكسيك عبّر عن دهشته، وكان يقول ربما كان خير قرار اتّخذه في حياته هو عدم الاقامة في إحدى المدن الغربية. فهو في طنجة كان يعيش حياة هانئة هادئة ولا يزعجه أحد قط، بل انّ قراره باختيار العيش في طنجة كان من أهمّ الاحداث الهامة في حياته، وهو لم يشعر قط انه كان وحيدا بل كانت له علاقات اجتماعية متنوّعة، وأصبح معظم الناس يعرفونه. وكان يقول انّ الحياة في الغرب تحوّلت الى
كابوس والكوابيس لديه منها الكثير. إنّ وجهه المستطيل، وعينيه اللامعتين والصافيتين، وقامته كل ذلك لم يكن ينسجم مع صوته الخفيض الذي يبدو وكأنه ينبعث من
أعماق محيط بعيد. كانت حياة باولز تمرّ في هدوء في طنجة فهو كان يصحو باكرا ليكتب بضع وريقات، وعند ما يأتي المساء كان يشعر بسعادة غامرة، فالمساء جميل وليس له نظير في هذه المدينة الساحرة التي تطلّ على أوروبا والتي أقام ونام فيها ‘هرقل’ في مغارته الأسطوريّة بعد أن أنجز عمله، والتي علق بها وعشقها العديد من الادباء، والشعراء، والشخصيات التاريخية، والسياسية، والادبية، والفنية، والسينمائية المعروفة. كما تم تصوير العديد من الافلام العالمية بها. كان باولز يقول في هذه
المدينة يعيش المرء في هدوء وبدون استعجال. كانت يربط بول باولز صداقات مع العديد من الادباء الكبار مثل كارلوس فوينتس، وأوكتافيو باث، وخوان غويتيسولو
،وخوان رولفو، وكان من أشدّ المعجبين بهذا الكاتب المكسيكي الكبير، كما كان يحلو له الحديث عن الادباء والفنّانين والشعراء والمشاهير الذين زاروا مدينة طنجة، أو
أقاموا فيها، منهم باربارا هوتون، وزوجها غاري غرانت، أوجين دي لا كروا، ونستون تشرشل،خورخي لويس بورخيس،روبين داريوّ، تنيسي وليامز، برايان جيسين، ماريانو فورتوني، هنري ماتيس، جان جينيه، رامبرانت، جاك ماجوريل، إيف سان لوران، مارلين ديتريش، غاري كوبر، وسواهم وهم كثر، كلهم هاموا بهذه المدينة وكتبوا عنها الكثير.
من كتب بول باولز: السماء الواقية،بيت العنكبوت، سيرته الذاتية التي صدرت تحت عنوان: مذكرات رحّالة، بعيدا جدّا عن البيت، الرؤوس الخضر، الأيدي الزرق، زمن
الصداقة، وسواها. (ولد بول باولز في نيويورك 1910 وتوفي في طنجة 1999).

من آيت شيكر إلى طنجة 
أمّا محمد شكري فقد ولد عام 1935 ببني شيكر وهي قرية ريفية قريبة من مدينة الناظور في حظيرة أسرة فقيرة، وقد أرغمته معاملة أبيه العنيفة له على
الفرار ثم الهجرة ولم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره .عاش سنواته الأولى في طنجة محاطا بأجواء العنف، والبغاء، والمخدّرات، وعندما بلغ العشرين من عمره إنتقل للعيش في مدينة العرائش للدراسة، وخلال هذه المرحلة من عمره بدأ يهتمّ بالأدب، وفي فترة السبعينيات عاد إلى طنجة حيث كان يرتاد الحانات ومواخير وأوكار البغاء، كما طفق يكتب تجاربه الشخصية المعاشة، وكانت أولى قصصه تحت عنوان ‘عنف في الشاطئ’التي نشرها في مجلة ‘الآداب’عام 1966. إهتماماته الادبية أفضت به لمصاحبة كتّاب معروفين عالميين كانوا يقيمون في طنجة مثل بول باولز ،والكاتب الفرنسي جان جينيه والأمريكي تنيسي وليامز وسواهم ولقاءاته بهؤلاء الكتاب سجلها في مذكراته (بول باولز وعزلة طنجة) أو (عزلة بول باولز في طنجة) ثم في (جان جنيه وتنيسي وليامز في طنجة)، بالإضافة إلى إبداعاته الأدبية ترجم كذلك إلى اللغة العربية أشعارا لشعراء إسبان مثل ماشادو، وأليكسندري،ولوركا وآخرين.إشتهر عالميا بفضل روايته الذاتية ‘الخبز الحافي’ (1973) وظلت هذه الرواية محظورة في البلدان العربية، ولم تنشر في المغرب سوى عام 2000، له كذلك ‘زمن الاخطاء’ (1992) و’وجوه’ (1996) وهاتان الروايتان الأخيرتان تشكلان إلى جانب روايته الأولى الثلاثية التي تحكي سيرته الذاتية او قصّة حياته، توفي في الرباط عام 2003.
قال عنه الكاتب الإسباني خبيير بالينسويلا: ‘كان محمد شكري كاتبا كبيرا، وشخصا رائعا، هذا المغربي الذي حتى سنّ العشرين ربيعا من عمره لم يكن يكتب ولا يقرأ، والذي إنسابت طفولته، و إنصرم شبابه في بؤس مدقع، وعنف فظيع، كان كاتبا ينتسب إلى طينة هؤلاء الكتّاب الملعونين، لقد خلّف لنا أعمالا إبداعية قصيرة ولكنّها أعمال مؤثّرة وجريئة تنبض بحبّ الإنسانية ونبذ المظالم’.

– عن القدس العربي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *