التشكيلي التونسي نجا المهداوي: “الحرف ” سلطان إبداعاتي وروحها
رشا المالح
يعد التشكيلي التونسي نجا المهداوي، من أبرز الفنانين العرب المخضرمين، الذين استطاعوا الوصول إلى العالمية، ونجحوا في ابتكار أسلوبهم الفني الذي جمع بين هوية الفنون العربية الإسلامية والمعاصرة. وتتجلى في لوحاته جماليات بناء اللوحات والتشكيلات الهندسية وتشابك الحروف العربية غير المقروءة، والألوان الشرقية المفعمة بالحياة والديناميكية.
انطلق المهداوي بحروفيات لوحاته، من إرث فنون الحضارة الإسلامية إلى الفضاء، لتحمل أربع طائرات من أسطول طيران الخليج، جماليات إبداعه في فن عشق الحروفيات، ولتسكن في المتاحف العديد من لوحاته التي تتشكل في حركة بعيدة عن الثبات، سواء داخل الكوادر الهندسية أو خارجها، بتضاد تام. وذلك مع انضباط الخطوط والمساحة والبناء. (مسارات) التقى نجا المهداوي خلال زيارته لدبي بهدف التعرف على خصوصية أسلوبه وأبعاد تجربته الفنية، التي تقف كمدرسة فنية قائمة بحد ذاتها.
بصيرة إبداعية
ما يثير الدهشة لدى من يطالع أعمال المهداوي للمرة الأولى، عدم قدرته على قراءة حروفه العربية أو فك تشابكها. إذ اعتمد الفنان في تشكيلها، على بصيرته وإرثه الفني، وبالتالي دفع المشاهد إلى قراءتها بوجدانه وفكره.
الحوار مع المهداوي بمثابة إبحار في عالم الذاكرة وتاريخ الفن وثقافة الحياة، فهو بمثابة ثروة من المعرفة والخبرة، التي تأثر بها الكثير من الفنانين في مختلف أصقاع العالم العربي، خاصة في شمال إفريقيا، والتي تدفع القارئ إلى المقارنة بين مفهوم تعليم الفن، ما بين الماضي والحاضر.
ما الذي أضافته دراستك في إيطاليا لرصيدك كفنان ؟
تصورت حينما توجهت إلى الغرب، بأنني سأدرس الفنون الغربية وسأرسم ليل نهار، خاصة وأن دراستي في ورشة أكاديمية، لكنني فوجئت بإصرارهم على الدراسة النظرية. وكان علينا دراسة نوعية الكتابة عن الفن في الصحف والمجلات والكاتالوغات، والتمييز بين الكتابة النوعية والسطحية، وكيفية اختيار المكان الملائم لصورة المعرض ومادته بين صفحات المجلة، تأكيداً على أهميته بالنسبة للمتلقي، وذلك من خلال التصفح السريع.
كما كان علينا دراسة أنواع فراشي الرسم، وقصبات الكتابة بأنواعها، وأيضا معرفة أنواع الأحبار وتركيبتها ومزاياها. واستغرقت هذه الدراسة النظرية ما يقارب من العام.
كما تعرفت على مفهوم مختلف في الترويج للفنان عبر تجربتي، من خلال مشاركتي في معرض فني في رواق نوميرو، في ساحة الشعب في ميلانو، والتي كانت صاحبتها الأرجنتينية الأصل، تعرض أعمال طليعة الفنانين المعاصرين إضافة إلى فلورنسا وفينسيا، ومنها تعلمت الكثير عن هذا المفهوم.
كيف كانت طبيعة البدايات في تجربتك تلك؟
طلبت مني صاحبة الرواق خلال المعرض ذاك، الانضمام إليها في المقهى المجاور، حيث اجتمعت بعدد كبير من الممثلين خلال تصويرهم أحد الأفلام. وبالطبع كان الصحافيون يلتقطون الصور من حولنا. ولم أدرك إلا لاحقاً، قيمة فكرتها في الترويج لفناني المعرض. فظهوري في الصور بجانب الممثلين، كان موضع تساؤل وفضول لمعرفة من يكون ذاك الجالس معهم، والذي لا بد وأن يكون صاحب شأن.
وفي ميلانو، كنا نزور أسبوعياً، الفنان والنحات العالمي الأرجنتيني الأصل، لوتشو فونتانا (1899-1986)، مؤسس حركة سباتيليزم التي تعنى بتوليف اللون مع المساحة والحركة والزمن لإنتاج فن جديد، والذي اشتهر في الستينيات من القرن الماضي، أيضا، بجرح لوحاته بالسكين.
حوارات حضارية
هل شعرت بالاغتراب لدى انتقالك إلى حضارة مختلفة؟
من الطبيعي أن يراودني مثل هذا الشعور، ولكن أساتذتي ساهموا بتواضعهم ومعرفتهم وثرائهم الفكري، في تجاوزي لأية صعوبات، خاصة وأن حواراتهم معي كانت تتمحور حول حضارتي وثقافتي التي أعادوني إليها في غربتي، بعد أن اغتربت عنها في بلدي.
وهناك عامل آخر، إذ كنا كطلبة مع أستاذنا المشرف، بمثابة أسرة واحدة. وكان كل أستاذ يشرف على أربعة 4 أو خمسة طلاب كحد أقصى.. وأساتذتي أيقظوا في داخلي، الوعي بالحضارات الفنية. وكنت اخزن باستمرار كل ما حولي.
ما محطتك التالية بعد إيطاليا؟
استمرت دراستي في إيطاليا ثلاث سنوات، انتقلت بعدها إلى باريس حيث درست تاريخ فنون الشرق الأوسط، لأكثر من عامين، حصلت بعدها على منحة برنامج (فنان مقيم) لمدة عام من خلال وزارة الثقافة التونسية. وفي باريس تحولت إلى مرحلة نوعية جديدة، عبر صداقتي مع الناقد الفرنسي العالمي ميشيل تابييه (1909 -1987).
ما الذي أعادك إلى فنون الشرق بعد دراستك في الغرب؟
عند بدأت دراستي في إيطاليا، فوجئت بأسئلة أساتذتي عن تاريخ وفنون حضارتنا، ليعيدوني عبر دراستي للفن إلى كنوز حضارتي. قالت لي أستاذتي الرومانية لدى وصولي إلى ورشة الأكاديمية في قصر (بينشو) بإيطاليا في أول يوم دراسي لي: افتح الصندوق. وحينها، وجدت في داخله ملابس وحاجات أخرى. وحينما نظرت إليها بحيرة قالت: هذا صندوق ملابسي، ولا يمضي يوم دون تفحصي ما فيه، كي لا أنسى من أين أتيت وإلى من أنتمي. كانت هذه صدمتي الأولى، خاصة وأن أستاذتي جيوتا فرونزا كانت أقرب إنسان وصديق لبرنكوزي، والذي هو أكبر وأشهر نحاتي أوروبا في الستينات من القرن الماضي.
أما الصدمة الثانية التي أخذتني إلى اسطنبول ومنها العودة إلى إرث حضارتنا الفني، فكانت لدى لقائي بالأب دي ميجيو في الفاتيكان، والذي سألني عن قراءاتي وثقافة وفنون حضارتي، ليقول لي في نهاية اللقاء انه عليّ زيارة اسطنبول، والتعرف على العمارة الإسلامية فيها، وعلى إرثها من الفنون. كما قال لي في لقاء آخر: عليك أن تفهم الفروق بين الحروف اليابانية والعربية والكورية والعبرية. والقصد هنا، فهم الاختلاف وليس الفارق، وكان هذا الطلب بمثابة لغز بالنسبة لي، وشكل لي موضوع بحث ودراسة لسنوات وسنوات.
أما عودتي إلى تلك الحروف، كفنان. فبدأت مع صداقتي لميشيل تابييه، إذ طلب مني عدم المشاركة في المسابقات والجوائز لقناعته بأني تجاوزت تلك المرحلة كفنان، وبعد المعرض الذي شاركت فيه مع مجموعة من أكبر فناني الخط الكوري والياباني والإيراني، إذ شعرت بأن أعمالي لا تحمل خصوصية أو هوية ثقافتي، أسوة ببقية أعمال الفنانين.
..ومنذ ذلك اليوم قررت أن نفهم من نحن ولمن نرسم؟
كان عليّ، إما التوقف أو إعادة قراءة التاريخ في متحف اللوفر وغيره، والربط بوعي بيني وبين ثقافتي. وكنت أتساءل عبر بحثي، كيف يمكن الخروج بهوية التراث إلى المعاصرة، فالتكرار والسير على خطى الأولين بنهجها نفسه، لن يضيف. وبعد تأمل طويل وجدت أن آلة العود سلطان لثقافتنا الشرقية، من هذه الفكرة انطلقت ليكون الحرف سلطاني، وكان عليّ البحث عميقاً كي أقترب من ملامسته. كنت أبحث ليل نهار، وميشيل تابييه يتابعني ويشجعني.
وبدأت رحلتي مع الحرف من خلال دراستي لتجربة وسيرة حياة الفنان السويسري المستشرق بول كلي (1879-1940)، الذي انطلق في رحلته إلى تونس عام 1914، ليتوقف في مدينة القيروان. وبدأت الإبحار عبر فلسفته في محاولة لفهم رؤيته.. كنت كمن يقترب من شرقه عبره.
وبول كلي هذا، هو من أكبر فناني العالم، وكان قريبا من الفنان كاندينسكي في أوروبا. وعدت إلى روما حيث كان كلي يكتب قبل رحلته إلى تونس، لأتتبع خطاه في القيروان، حيث أمضى 21 عاماً. وقال:.. من اليوم سأتوقف عن الرسم ..اللون هيمن عليّ، لم يعد عليّ مطاردته.
أعلم انه تملكني إلى الأبد . وحاولت في رحلتي رؤية فنون حضارتنا عبر عينيه. زرت الأمكنة وتعرفت على روح الفنان الذي كان يرفض دخول القيروان، إن وصلها عند الغروب، ليبقى خارجاً حتى الفجر، وتعرفت على نظريته (أنا النقطة وكل من حولي يتحرك لأني أتحرك).
ما أجمل المحطات في حياتك؟
أجمل ذكرياتي كانت لدى مشاركتي في تنظيم بينالي كوبا، والمحطة الأولى كانت لدى افتتاحي إحدى الفعاليات في الجنوب، وقالوا لي ان من سيكون في استقبالي حسب أعراف وتقاليد المنطقة، أكبر رجل مسن وكذا امرأة. وفوجئت بأن الرجل المسن لم يكن سوى والد تشي غيفارا، الذي لم يكن يخرج من عزلته، وهمس لي لدى مصافحته: أتيت لأن ابني يحبكم.
وأما السيدة التي برفقته، فكانت أرملة غيفارا نفسه. والذكرى الثانية التي لها وقع كبير في نفسي، كانت في يوم افتتاح البينالي ذاته، حيث شاهدت خلال سيري باتجاه القصر ، رجلا ضخما كان يسير باتجاهي ليحييني بتقدير ومودة كبيرين، و لم يكن هذا الإنسان سوى غابرييل غارسيا ماركيز.
نبذة
ولد نجا المهداوي في تونس عام 1937، في حوما (حي) في حي شعبي اسمه سويقة الحلفاوي. وكان محاطا بإرث من الفن الشعبي. وتعلم الفن في قرطاج في معهد حر تابع لمتحف قرطاج، حيث رشحه مدير مركز دانتي الثقافي الفرنسي لبعثة دراسية في أكاديمية سانتا أندريا في روما. وحاز على العديد من الجوائز في دولته وخارجها. ومن ضمنها، الجائزة الكبرى للفنون والآداب في تونس. كما عمل طوال سنوات كعضو في لجنة تحكيم جائزة الفنون لليونسكو.
تعاون
خاض المهداوي العديد من التجارب الفنية التي ارتبطت، إما بموسيقيين، مثل منير بشير. أو كتاب، مثل رجاء العالم. ودخل معها في حوار فني أدبي في عوالم ألف ليلة وليلة، بإرثها الشرقي، عبر رؤيا وقراءة جديدة، وترجمت هذه التجربة في كتاب حمل عنوان مراتب العشق. وتجلت أهم إفرازات نتاج تعاونه مع منير بشير، حينما طلب منه الأخير اقتناء عدد من لوحاته، حيث تطور اللقاء إلى حوار وصداقة، ليستلهم الموسيقي من لوحات المهداوي، في مجموعة من ألحانه
بصيرة إبداعية