في التداعي والأمل

في التداعي والأمل

عزت القمحاوي

في
الصحيفة الواحدة بمصر، في القناة الواحدة، في المقهى الواحد، في الغرفة الواحدة
ببيت واحد، تقرأ وتستمع لمن يعتبر ما يجري بالبلاد معجزة سترفعها فوق بلاد الدنيا،
ومن يصفه بالمأساة التي ستجعل من أرض الكنانة وشعبها مجرد ذكرى، ووسط هذا الاستقطاب
العجيب ثم وجه الصمت الحزين ووصوت الأشياء الخفيض، ومن شاء الإنصات في منتصف ليل
القاهرة بوسعه أن يسمع الأنين والمنازعة مختلطًا بحفيف رهيف للأمل.

ألوان
العلم:

لم يرفع الثوار في مصر علمًا مختلفًا عن العلم المعتمد من النظام؛
بل كان رسم العلم نفسه على وجوه الشباب والصبايا إثباتًا لانتماء الثوار للوطن
وغربة العصابة الحاكمة. وكان ظهور العلم في بعض الشرفات يشبه صلة قربى بين جيران
عاشوا منعزلين، لا يعرف أحدهم شيئًا عن جاره.
في شرفة قريبة بالجهة الأخرى من
شارعي تدلى في أيام الثورة الأولى علم ضخم بألوانه الثلاثة المعروفة. الأسود في
الأسفل يرمز للعهد البائد، الأبيض للمستقبل، والأحمر للدم المراق ثمنًا للانتقال من
الأسود إلى الأبيض، مع إضافة صغيرة عبارة عن سيفين متقاطعين، يجعلانه علمًا للجيش،
لا بأس فقد كان الجيش والشعب يدًا واحدة في الأيام الأولى للثورة.
توحد ألوان
العلم الشعب وجيشه، ويوحد السيفان المجلس العسكري مع جماعة الإخوان التي ترفع
شعارًا وألوانًا تشبه علم السعودية. على أية حال بدا هذا التفصيل غير ذي أهمية في
ذلك الوقت، وكان مؤنسًا النظر إلى شرفة ثائرة وسط شارع يسكنه وزير وكثير من الفلول
ويجاورني فيه مرشد الإخوان السابق صاحب الطظ الشهيرة التي أطلقها في حوار صحافي ضد
مصر وشعبها انتصارًا لفكرة الخلافة الإسلامية.
وحتى الآن، لم يزل العلم مرخيًا
في مكانه من الشرفة، لكن الشمس أكلته فقاربت بين النقيضين الأبيض والأسود، يظللهما
الأحمر بسيفيه المسلولين.. سيفا من؟ ضد من؟

تمثال للكاتب
الواقف:

وقفة للمثقفين ضد هجمة الإخوان على حرية الرأي. فلنشارك بكل ما في
قلوبنا من إحباط لأن الوقوف لم يزل ضروريًا. وقفنا كثيرًا في عهد الرجل المريض،
واشتقنا إلى الجلوس قليلاً. كل كاتب لديه ما يفعله جالسًا، لديه ما يقرأه وما
يكتبه، ولو مضت الثورة في طريق مستقيم لوفرت تلك الجلسة للكاتب، لكنها لم تفعل.

عمر تمثال الكاتب المصري خمسة آلاف عام في الوضع جالسًا، لكن كاتب القرن الحادي
والسبعين محكوم بالوقوف. نريد تمثالاً للكاتب الواقف.

تداعينا،
تداعيها:

ياااه، لقد شاخ!
أضمرت هذه الدهشة تجاه الكثير من معاندي
الانحناء، ولابد أنهم أضمروا مثلها تجاهي، لهذا كانت احتضانات العطف المتبادل،
لكننا على الأقل نستطيع أن نقول ‘لا’ بأكثر ما يستطيع تمثال الزعيم الاقتصادي طلعت
حرب، الواقف معنا في الميدان، أكثر مما تستطيع شوارع المدينة ومقاهيها الموغلة في
الشيخوخة.
بغفلة من مبارك الأب، كانت القاهرة توغل في التداعي، وبتخطيط من عصابة
مبارك الإبن اتخذ الحكام ورجال المال قصورًا في الصحراء تطوق عنق العاصمة المتروكة
للإهمال مع سكانها. وخلال عامين أوغل العسكر المسنون في التنكيل بالمدينة بعد أن
قفزوا من شباك الثورة على كرسي العرش، فقادوا المدينة إلى احتضار لم تتعرض له خلال
عقود حكم قائدهم المخلوع.
الجدران العازلة تقطع أوصال قلب القاهرة. القمامة التي
جمعها الشباب أيام التفاؤل بثورتهم عادت بأكثر مما كانت أيام الرجل المريض، لأن
البلاد نأت عن أصحابها الأصليين أكثر مما كانت، الأتربة والأدخنة تظلل الجدران،
وجيوش مدهشة من الباعة تحتل، لا أرصفة المشاة كما كانت أيام الرجل المريض، بل نهر
الشارع تاركة ممرًا يكفي بالكاد لعبور سيارة واحدة، أو شخصين، وعلى الراكب والراجل
أن يمس المعروضات ليرى ما يلقاه!
بضاعة بائسة تثير الخوف من بائعها والبكاء على
شاريها، من أين جاءت كل هذه الملابس القديمة لتسد رئة القاهرة؟!
إن لم تكن هذه
الفوضى أمرًا أمنيًا، فعلى الأقل هناك تواطؤ لتحويل محيط أنظف ثورة في العالم إلى
مزبلة.

بعث عصري:

بقصيدة أحمد فؤاد نجم ‘كلب الست’ أو بدونها تمتعت
تلك الجزيرة النيلية ‘الزمالك’ بتحفظ من اليساريين باعتبارها حي الأرستقراطية
والبرجوازية، على الرغم من وجود حي آخر مشابه هو جاردن سيتي، صورة طبق الأصل من
الزمالك في سكانه وبناياته وشوارعه الملتفة ‘مسالك مسالك’ كما يقول نجم. ربما لأن
النيل يكتفي بالتربيت على جارن سيتي من جهتها الغربية فحسب، بينما يحتضن الزمالك من
كل اتجاه.
كان من السهل على من يقطع ميدان التحرير أو يتمشى على النيل بحذاء
جاردن سيتي أن يقطع هذا الحي بسهولة، إلى أماكن أخرى بالمدينة، بينما تمتعت الزمالك
المحتضنة بعزلة نسبية خلقت العداء القديم. وهذه العزلة نفسها هي التي حافظت حتى
الآن على نظافة الزمالك وهدوئه في أيام الصخب والعنف هذه.
استعصى حي الزمالك على
الموت، وسيكون المكان الذي تبعث منه القاهرة مجددًا بفضل حضن النيل. ربما لهذا يكره
الديكتاتور النيل، ويتمنى له ميتة عصرية في قصيدة أمل دنقل

– عن القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *