*لطفية الدليمي
ثمة سرنديبية مؤنسة اعتادها كلّ مَن جعل القراءة النظامية نمطاً حياتياً ملازماً له، ولطالما قادتني هذه السرنديبية إلى حقول معرفية أو شخصيات فكرية مؤثرة في ميدانها. حدث قبل بضعة أشهر كنت أقرأ في كتاب (الميتافيزيقا مرشداً إلى الأخلاق ). Metaphysics As a Guide to Morals الذي ألّفته الكاتبة الأثيرة إلى روحي: الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوخ، التي قرأتُ معظم أعمالها الروائية والفلسفية منذ بواكير إهتماماتي الروائية في سبعينيات القرن الماضي، راقتني كثيراً الفكرة الأساسية التي يتأسّس عليها كتاب مردوخ المذكور أعلاه، والتي يمكن إختزالها ببساطة في أن أيَّ نظام للأخلاقيات ينبغي أن يقوم على هيكل ميتافيزيقي، يكافئ فيه الفعل الخيّر نفسه ذاتياً، مثلما يعاقب فيه الفعل الشرير نفسه على نحو ذاتي كذلك، وبعيداً عن أي نسق مرجعي مهما كانت طبيعته. ثم تمضي مردوخ وبأسلوبها الفلسفي الباذخ المضمّخ بنكهة روائية، في بيان أن أي نظام جمعي متداول للأخلاقيات سيقود إلى إشكاليات جدّية مستعصية. ومن الأمور اللافتة للنظر أن محاججة مردوخ هذه تذكّر المرء على الفور بمحاججة شبيهة بسطها أحد الآباء المؤسسين للفكر الليبرالي؛ وأعني به جون ستيوارت مِل ) الذي شرح في كتابه ( عن الحرية) On Liberty ) كيف يقود تملّك الأرض إلى مشاكل عصية على الحل، وقد إقترح الرجل حلّاً يقوم على أساس جعل الأرض ملكية مشاعية، وأظنّ أن الكثيرين سيندهشون حدّ النكران لمعرفتهم بإعتماد أحد مؤسسي الليبرالية فكرة تتأسس على أساس مشاعية الأرض. قفز إلى ذهني على الفور – وأنا منهمكة في نص مردوخ – إسم المفكّر (عبدالجبار الرفاعي ) الذي تتصادى جهوده بشكل من الأشكال مع جهود مردوخ، لكن في إطار بيئة فكرية مختلفة بالطبع، واستعدتُ في ذاكرتي المسيرة الفكرية لهذه الشخصية، التي بدأت بداية حوزوية تقليدية، لكنها سرعان ما شهدت إنعطافة فكرية (يمكن وصفها بأنها ثورية) قادت ليكون الدكتور الرفاعي على ما نشهده اليوم على صعيد الحراك الفكري الشخصي، وعلى صعيد المنجزات المشهودة كذلك. يعدُّ الدكتور الرفاعي شخصية ريادية في ميدان تجديد الفكر الديني، ونقد جمود اللاهوت التقليدي والتأويلات الفقهية السطحية للدين، وتسويق الخطاب الديني المشجع على الصراعات الإجتماعية والسياسية، عبر تسطيح بائس للقيمة الميتافيزيقية الكامنة في جوهر النسق الديني، وابتعاد مقصود عن الأخلاقيات الدينية الجوهرية، التي تطمح إلى تفعيل الأبعاد الانسانية في الدين، وتأكيد حرية الخيار والمسؤولية البشرية بعيداً عن روح الغلبة والمصافقة، وانتظار العطايا والمكافآت الدنيوية – فضلاً عن الآخروية – التي تشكّل جوهرالخطاب الفقهي السائد.
كنت أتابع – بقدر ما تتيح لي الفرص – دراسات وبحوث عبد الجبار الرفاعي سواء في مجلة قضايا إسلامية معاصرة، أوعبر مقالاته وحواراتنا؛ فأكتشف – بنوع من الغبطة العميقة – إهتمامه الجاد لدمج المعرفة العلمية والكشوفات المتحصلة من التجارب البيولوجية والفيزيائية والإجتماعية لمعاينة الواقع الانساني من منظورات متكافئة عبر النقاش والحوار، دون مصادرة رأي مغاير، بل مساءلته ووضعه على طاولة الإختبار يعمل المفكر المجدّد عبدالجبار الرفاعي وسط بيئة بشرية مضطربة، تنعكس عليها مؤثرات متعددة خارجية وداخلية، ويواجه تحدّيات شتّى في حين تتظافر تلك المؤثرات على تفكيك بُنى المجتمعات وإحداث انزياحات في منظوماتها القيمية، التي ترسّخت لعهود طويلة في وعيها الجمعي.
من بين أهم السمات التي تميز إشتغال الدكتور الرفاعي: إختراقه لأُطر المفاهيم والأفكار الموروثة المستتبة، وتجاوزه لكثير من المحظورات في طرح تساؤلات خلخلت السكون الفكري الديني، مثلما هو حرصه على فتح حوارات مستفيضة مع مفكرين مختلفي التوجهات الفكرية والمنطلقات، لإخضاع المزيد من الثوابت الصارمة للتفكيك، بعد أن ظل الإقتراب منها محسوباً في باب المحظورات.
إلتقيت بالدكتور الرفاعي للمرة الاولى في عمّان – لدى حضوره مؤتمراً فكرياً – وكنت على موعد للقاء المفكر اللبناني الدكتورعلي حرب في فندق كمبنسكي، وأذكر أن الدكتور علي حرب إنشغل باجتماع طارئ ساعتها، فالتقيت الرفاعي بحضور الصديقين الدكتور حيدر سعيد والأستاذ عواد علي. وبدأنا حواراً عن معضلاتنا العراقية ودور المثقف وسط ضجيج العصف السياسي والتبدلات المتسارعة في المحيطين العربي والعالمي. وأهديته حينها إثنين من كتبي الصادرة حديثاً: رواية (سيدات زحل )، وكتابي (يوميات المدن )، وظل حوارنا متصلاً عبر البريد الألكتروني؛ إذ كان يرسل لي دراساته القيّمة، والأعداد الجديدة من مجلة قضايا إسلامية معاصرة. والتقينا ثانية في معرض الكتاب الدولي في أربيل – ربيع 2013 – واتصل الحوار الذي إنقطع بيننا، وكنت أتابع نزوعه لمعاينة علاقة الانسان بالدين والمقدس عبر الفلسفة ومحمولاتها الفكرية عن طريق قراءة مغايرة للنص الديني؛ حينها كنت مستغرقة في قراءة تمثلات المقدس في الحضارات القديمة، وملاحقة الرؤى الفكرية حول الدين في موسوعة (ميرسيا إلياد ) المهمة: (تأريخ المعتقدات والأفكار الدينية) للتعرف إلى الجوانب الإبداعية والأصولية الدينية لدى أسلافنا سكان ما بين النهرين، وتأسيسهم للوعي الديني الممتزج بالمتخيل الميثولوجي باعتبارهم سباقين في ابتكار المفردات الثقافية للحضارات الأولى، كما عند الثقافات المبكرة المتزامنة معها أو التي تلتها ، وكشف لي الكتاب حينها عن الوحدة العميقة وغير المنظورة للنفس البشرية، ووحدة التأريخ الروحي للبشرية.
عبدالجبار الرفاعي قارئ متبحّر، ومؤلف مجتهد، ألّف ما يربو على الأربعين كتاباً، تمثّل في مجملها مقاربات حداثية للفكر الديني وفلسفة الدين، وأشير في هذا الميدان إلى كتبه التالية: مبادئ الفلسفة الإسلامية (جزءان )، مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، الدين والظمأ الأنطولوجي، والموسوعة التي يحررها، وأصدر منها ثلاثة مجلدات: موسوعة فلسفة الدين. ولا ينبغي أن ننسى ترجماته الثرية وتعريفه بمفكرين تجديديين كبار، أمثال داريوش شايغان، ومحمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان. إضافة إلى مساهماته الكبيرة في موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة، وتأسيسه لمركز دراسات فلسفة الدين، الذي دأب على إصدار مجلة (قضايا إسلامية معاصرة) منذ عشرين عاما.
منحتني قراءتي لأعمال الدكتور الرفاعي أملاً في أن يغادر هذا الفكر المتنوِّر المجدد حدود البحوث والكتب والمجلات والمؤتمرات، ويصبح عنصراً فاعلاً في التحديث والسلم الإجتماعي، باعتماده في الدراسات الأكاديمية والمناهج التعليمية، من أجل بناء الشخصية السوية التي لا تنسحق أزاء جبروت المقدس، بل تتفهمه وتتغذى على ثرائه، وتعتمد تفصيلاته الأساسية كطريقة حية للعيش، دون إرغام أو قسر أو نُذُر أو تبشير، وحينها فقط يمكن أن تتغلغل الحداثة في المفاصل الدينية والتربوية والتعليمية والثقافية والإقتصادية والسياسية، وسيكون التحديث شاملاً مكتملاً، دون تناقضات صارخة بين الإستخدام اليومي لمنجزات الحداثة وما بعدها، والإلتزام غير الواعي بالنص الدينيّ، دون استيعابٍ واعٍ لمبتغياته الصريحة، أو التي يمكن تأويلها بما يخدم زيادة مساحة الحرية الفكرية، بدل تقليصها من خلال التحوّطات الفقهية.