سير ماهر زهدي الدرامية بين التأريخ والاحتجاج

(ثقافات)

سير ماهر زهدي الدرامية بين التأريخ والاحتجاج

مصطفى عبادة

منذ فترة طويلة، تراودني الكتابة عن ماهر زهدي وعمله، تحديدا منذ صدور كتابه عن “زينات صدقي”، فقد لفتتني هذه الطريق في التأريخ للروح الفنية، التي شكلت مصر في القرن الشعرين، وكلما صدر له كتاب جديد، ترسخت طريقته الخاصة في هذا السياق، الذي ابتعد عن السيرة الببليوجرافية، بل ترسخ عبر إضفاء الحس الدرامي عليها، ليمزج بين السرد وطرائقه، وتقليدية السيرة الغيرية، وحيث توالت منجزاته، فاتن حمامة، نعيمة عاكف، ماري منيب، شادية، أسمهان، من النساء الفنانات، وإسماعيل يس، وسيدة مكاوي، وعبدالعزيز مخيون، ولطفي لبيب، ونجيب الريحاني، ست فنانات وخمسة فنانين، لم يكن وجدان مصر في القرن الماضي  ليكتمل دون وجودهم، دون فنهم، ودون ما تركوه فينا من أثر، امتد إلى الروح الاجتماعي.

ما الذي يؤرخ له ماهر زهدي بالضبط؟

هل يؤرخ لفنانين، وينشئ سيرة ذاتية (غيرية بالنسبة له) ذاتية لكل منهم، يعيد من خلالها حياة كل شخص وعصره، ويرسم صورة عامة لكل ما جرى مرافقا للفن والفنان في السياسة والثقافة والمجتمع، بمعنى يخلق صورة للفنان من خلال عصره، ويتقصى أيضا أثر الفنان في عصره، متتبعا الأثر المتبادل بين الشخصي والعام، عبر هذه المجموعة المختلفة والمتنوعة من هذه السير، ثم هل يؤرخ للفن المصري وتحولاته، عبر تقاطع حياة شخصياته المهمة، وما تركوه من أثر في الوجدان العام والحياة الاجتماعية، كيف عاشوا كل هذا العمر، ولماذا تم تخليدهم، كيف تلاقت أرواحهم الشخصية، مع الروح المصرية، ومن ثم العربية، هل يبحث ماهر زهدي عن مفهوم فلسفة البقاء والاختفاء، فلسفة الخفاء والتجلي للشخصية العامة، ودور الفرد في تطور وتطوير تخصصه؟ ويجيب عن سؤال مهم: لماذا تختفي بعض الشخصيات، بينما يحافظ الوجدان العام على شخصيات أخرى حية؟

ظني أنه فضلا عن كل ذلك يؤرخ لاستمرارية الروح المصرية وما تحمله من عوامل بقاء، وكيف صاغت محيطها العربي بالفن، وخلقت روحا مشتركا من التأثير الحضاري عبر وسيط فني، لا يمكن الاختلاف عليه.

ماهر زهدي يؤرخ لروحه المصرية، يريد أن يرى انعكاسها في كل شيء؟كل شخصية، كل فنان من هؤلاء يعبر عن تفصيله مصرية كانت هي إضافته الحقيقية سواء للفن السينمائي أو المسرحي، أو الغنائي، هي أثره الباقي، ميزته التي أفرزته عن غيره وحددت مسلكه.

ما الذي يهدف إليه، بعد ذلك، ماهر زهدي من إخراج هذه السير، وإعادة هذه الشخصيات إلى الضوء مرة أخرى؟ ما هذه الرغبة الحارقة التي تدفعه إلى تأليف كتابين في العام، والحرص على نشرهما بهذا الدأب والحب والشغف؟

ظني- أيضا- أن الأمر ليس ماديا، فالتأليف عندنا يفقر ولا يغني، هناك جزء من روح ماهر زهدي، جزء غامض، مضيء يعتمل فيه، شيء أكبر من كل ما يكتب، جزء يفسره بالتأليف، وإحياء هذه الأرواح الجميلة، حتى أنك تتصوره – ماهر زهدي نفسه – وهو يسعى في الحياة كأنه شخصية فنية في فيلم درامي طويل، لا تشغله الأوهام، ويتخلص منها سريعا، يبدو لي أيضا ماهر زهدي مثل نحات فرعوني، يسجل تاريخ آبائه وأجداده فوق جدران المعابد، كذلك يفعل هو بإصرار مصري قديم على الخلود، فيسجل سيرة هؤلاء العظماء في كتب جميلة سوف تبقى في ذاكرة التأليف العربي، ما بقي الفن المصري، وما بقيت مصر كبيرة بروحها وكل ما تمثله.

المعنى الأبقى في عمل ماهر زهدي في كل هذه السير التي يتجلى فيها الفن المصري في القرن الماضي، هو الاحتجاج على الضحالة والانغلاق والأنانية، والاستعجال، وغياب الهدف من الفن والسياسة والثقافة في عصر تفاهة الشعبوية التي تغرقنا بها وسائل التواصل، يريد أن يقول إن الخلود لا يجلبه الجهل والضحالة، وإن التأثير لا يقع بالحضور الجسدي وعلو الصوت، وحيازة المال والشهرة المؤقتة، كل هؤلاء الفنانين نالوا خلودهم الذي يستحقونه بثمن مدفوع من الراحة الشخصية، من الألم والكفاح الفني، هؤلاء أثروا لأنهم بذلوا من أنفسهم ومن أرواحهم، غير معتمدين إلا على الجدية والالتزام بقضايا عصرهم ووطنهم.

أصدر ماهر زهدي: إسماعيل ياسين – سيرة درامية 2010 ، زينات صدقي – سيرة درامية 2013 ، شادية قمر لا يغيب– سيرة درامية 2018 ، صانع البهجة سيد مكاوي سيرة درامية 2019 ، فاتن حمامة – سيرة درامية 2021، التمر حنة- نعيمة عاكف سيرة درامية 2022 ، عبد العزيز مخيون – سيرة درامية 2022 ، الجوكر لطفي لبيب – سيرة درامية 2023 ، نجيب الريحاني سيرة درامية 2023 ، أميرة الحب والأحزان أسمهان 2024 ، الملاك الضاحك ماري منيب 2025 ، ملك حزين إسماعيل ياسين 2025 وتحت الطبع ثلاث سير أخرى، والطريق طويل، وروح الفن المصري ممتدة غير مقطوعة ولا ممنوعة.

بالإضافة إلى رسم ماهر زهدي صورة قلمية درامية للشخصيات الفنية، يحاول خلق سيناريو يقترب من الحقيقة، يقترب مما جرى، يقترب من روح الشخصية لا مجرد سلوكها، ولا مجرد تعداد لأعمالها الدرامية، وظروف إنتاجها، يصنع ماهر كل هذا الجمال، الأمر الذي يدفعني لأن أهمس له: أرجو ألا يضع صورا للنجوم الذين يكتب عنهم في نهاية كتبه، أقصد الصور الفوتوغرافية، فدور النشر نظرا للغلاء الفاحش في مستلزمات الطباعة، لا تطبع الصور الملونة، مما يجعل الصورة غير جيدة، فما خطه بقلمه يرسم صورة للنجم أكثر دقة وجمالا وموضوعية ونبضا من صورته الباهتة على الصفحة البيضاء.

شاهد أيضاً

لورنس العرب… وعرب لورنس!

لورنس العرب… وعرب لورنس! منصف الوهايبي في نص استثنائي لجيل دلوز، يقع في عشر صفحات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *