(ثقافات)
تأملات بول أوستر في الكتابة
سارة حامد حوّاس
أكتبُ دائمًا بخطِّ اليد، وأستخدمُ غالبًا قلم الحبر، وأحيانًا قلم الرصاص، لإجراءِ التصحيحات.
لو استطعت الكتابة مباشرةً على الآلة الكاتبة أو جهاز الكمبيوتر، لفعلت ذلك. ولكن لوحات المفاتيح كانت دائمًا تُشعرني بالرَّهبة. لم أتمكَّن يومًا من التفكير بوضوحٍ وأصابعي في ذلك الوضع.
القلمُ أداةُ أكثرُ بدائية بكثير. تشعر كأن الكلمات تخرج من جسدك ثم تحفرها في الصَّفحة.
كانت الكتابة دائمًا بالنسبة إليَّ تجربةٍ حِسيَّةٍ. إنَّها تجربةٌ جسديةٌ.
أكتبُ دائمًا في دفاتر مُلاحظات، ولديَّ هوسٌ خاصٌّ بدفاتر المُلاحظات ذات المُربعات الصَّغيرة.
أمَّا عن آلة الكتابة الشهيرة ”أوليمبيا”، التي قد نشرتُ عنها كتابًا رائعًا مع الرَّسَّام ”سام ميسر” بعنوان ”قصَّةُ آلتي الكَّاتبة”، فأنا أملكُ تلك الآلةَ الكاتبةَ منذ عام 1974، أي أكثر من نصف حياتي الآن. اشتريتُها مُستعملة من أحد أصدقائي في الجامعة، وفي هذه الأثناء كان عمرها ما يُقارب الأربعين عامًا. إنَّها قطعةٌ أثريَّةٌ من عصرٍ آخر، لكنَّها ما زالت في حالةٍ جيدةٍ، ولم تتعطَّل أبدًا. كل ما أحتاجهُ تغيير الأشرطة بين الحين والآخر. لكنَّني أعيشُ في خوفٍ من أن يأتي يومٌ لا أجد أشرطة مُتوفِّرة للشِّراء، وسأضطَّر إلى الانتقال إلى العالم الرَّقمي والانضمام إلى القرن الحادي والعشرين.
أمَّا، عن اليوم الذي سأخرجُ فيه لشراء آخر شريطٍ للآلة الكاتبة، فقد قمت ببعضِ التحضيرات. لديَّ مخزُونٌ ،أعتقد أن لديَّ حوالي ستِّين أو سبعين شريطًا في غرفتي. ربما سأبقى متمسِّكًا بتلك الآلة الكاتبة حتى النِّهاية، على الرَّغم من أنَّني شعرتُ بإغراءٍ شديدٍ للتخلِّي عنها في بعضِ الأوقاتِ، لأنَّها ثقيلة وغير مُريحةٍ، لكنَّها تحميني أيضًا من الكسل، لأن الآلة الكاتبة تجبرني على البدءِ من جديدٍ بمجرَّد أن أنتهي. فمن خلال الكمبيوتر، يُمكنك إجراء التعديلات على الشَّاشة ومن ثم طباعة نُسخة نظيفة. أما الآلة الكاتبة، فلا يمكنك الحصول من خلالها على مخطوطةٍ نظيفةٍ إلا إذا بدأت من الصِّفر. إنَّها عمليةٌ مرهقةٌ للغاية. تنتهي من كتابة كتابك، ثم يتعين عليك قضاء أسابيع في عملٍ ميكانيكي بحت يتمثَّل في نسخ ما كتبته بالفعل. إنها ضارَّةٌ لرقبتك، وظهرك، وحتى إذا تمكَّنتُ من كتابة عشرين أو ثلاثين صفحةً يوميًّا، فإن الصَّفحات المُكتملة تتراكم ببطءٍ مؤلمٍ. في تلك اللحظة، دائمًا ما أتمنى لو أنني انتقلت إلى الكمبيوتر، ومع ذلك، في كل مرَّةٍ أدفعُ نفسي لاجتياز هذه المرحلة النهائية من الكتاب، وأكتشف مدى ضرورتها، فالطباعة تتيحُ لي تجربة الكتاب بطريقةٍ جديدةٍ، لأغوصَ في تدفُّق السَّردِ وأشعرُ كيف يعملُ ككل. أسمِّيها “القراءةُ بأصابعي”، ومن المُدهش كم الأخطاء التي ستكتشفها أصابعُك والتي لم تلاحظها عيناك أبدًا، فالتكرارات والتركيبات المحرجة والإيقاعات المتقطِّعة، لا تُخيبني أبدًا. أعتقد أنني انتهيت من الكتاب، ثم أبدأُ في كتابته وأدرك أن هناك المزيد من العمل الذي يجب القيام به.
أرى دفتر الملاحظات كمنزلٍ للكلمات، كمكانِ سريٍّ للتأمُّل والتفكير الذاتيِّ. لا أهتم فقط بنتائج الكتابة، بل بالعملية نفسها، بفعل وضع الكلمات على الصَّفحة. لا تسألني لماذا، ربما يكونُ لذلك علاقة بارتباك مبكِّر لديَّ، أو جهل بطبيعة السَّرد. عندما كنت صغيرًا، كنت دائمًا أسأل نفسي: من أين تأتي هذه الكلمات؟ من الذي يقول هذا؟ صوتُ السَّرد بضميرِ الغائب في الرِّواية التقليدية أداة غريبة، فنحن اعتدناه الآن ونقبلهُ ولا نتساءلُ عنه بعد الآن. ولكن عندما تتوقَّف لتُفكِّرَ فيه، تجد أن لهذا الصَّوت طبيعة غامضة وغير مجسدةٍ. يبدو كأنه يأتي من العدم، ووجدتُ ذلك مزعجًا. كنت أنجذبُ دائمًا إلى الكتب التي تلتفُ حول نفسها، التي تأخذك إلى عالم الكتاب بينما يأخذك الكتاب إلى العالم، فالمخطوطةُ كالبطل، إن صح التَّعبير. ”مرتفعات ويذرنج” تمثِّلُ هذا النَّوع من الروايات، ورواية ”الحرف القرمزيِّ”، مثال آخر على ذلك. الإطارات السردية في هذه الروايات خيالية بالطبع، لكنها تضفي على القصص إحساسًا بالواقعية والمصداقية، وهو ما لم أجده في روايات أخرى. هذه الإطارات تضع العمل كأنه وهم، وهو ما لا تفعله الأشكال التقليدية للسَّرد، وبمجرد أن تقبل “لا واقعية” هذا المشروع، فإن هذا يعززُ بشكلٍ متناقضٍ حقيقة الرواية. الكلمات ليست منحوتةً في الحجرِ بواسطةِ كاتبِ إله غير مرئيٍّ. إنَّها تمثِّلُ جهودَ إنسانٍ من لحمٍ ودمٍ، وهذا أمر يجذبني بشدَّةٍ، فالقارئُ يُصبحُ مُشاركًا في تطوُّر الرواية، وليس مُجرَّد مراقب منفصل عنها.
أشعر باتصالٍ عميقٍ بالأشكال الأدبيَّةِ القديمة، فالحكايات الخُرافيَّة أعظم مصدر إلهامٍ بالنسبة إليَّ، والشَّيء الذي أُفكِّرُ فيه كثيرًا، فأنا في معظم الوقت، لا أفكِّر في نفسي كروائي بقدر ما أفكر كراوٍ للقصص.
الكُتَّاب الذين يهمونني أكثر هم الأمريكيون في القرن التَّاسع عشر. نعم، هناك أشياء أحبها كثيرًا من القرن العشرين، ولكن لا شيء بقدر ما أحب ميلفيل أو هوثورن أو ثورو. هؤلاء الكُتّاب كان لديهم الكثير ليقولوه لي أكثر من غيرهم.
لا أضع نفسي في أي تصنيفٍ، لا ك”تجريبيٍّ” ولا ك”تقليديٍّ”.
كل كتابٍ يتطلَّبُ شكله الخاص. أنا لست شخصًا يقول لنفسه: “حسنًا، سأكتب سوناتة اليوم. أربعة عشر سطرًا ونمط قافية معين”. كما أنني لستُ شخصًا يقول: “سأجلس ُوأكتب كتابًا عن حالة قلق الإنسان في بداية القرن الحادي والعشرين”. تبدأُ الكتب بطرقٍ أكثر تحديدًا وملموسةً. قد تمرُّ شخصيَّةٌ ما بخيالي؛ شخص ما يفعلُ شيئًا ما ويثير ذكرى، التي بدورها تثير فكرة. شيئًا فشيئًا، تتجمَّعُ مجموعات من الصور والكلمات في رأسي ثم تتكاثف وتتحد معًا. وبعدها يبدأ شيء ما في التَّشكُّل.
من الصَّعب جدًّا الحديث عن هذا بطريقةٍ واضحةٍ ومفهومةٍ لأنَّني في الحقيقة لا أعرفُ ما الذي يحدث، ولم أشهد يومًا ولادة فكرة، ولم أشعرُ أبدًا أو أرى أو أفهم تمامًا كيف يدخلُ شيء ما إلى رأسي. في لحظةٍ ما لا يكون هناك شيء، وفي اللحظة التَّالية يكونُ هناك شيء. إنَّها قفزةٌ نوعيةٌ مفاجئةٌ. لا يوجدُ خيطٌ يربط الَّلاشيء بالشَّيء. الأمر كله غريبٌ للغاية. فقد فكرت فيه طوال حياتي، ولم أفهمهُ أبدًا.
معظم كُتُبي ارتجالاتٌ. لديَّ فكرةٌ عامةٌّ عمَّا أريد القيام به، إحساس بالمكان الذي أعتقدُ أن القصَّة تتجهُ إليه، شعورٌ بما يمكنُ أن نسميَه التيَّار. لكن يمكنني أن أؤكدَ لك أن أيًا من الكتب التي نشرتها حتى الآن لم ينتهِ بالطَّريقة التي توقعتها عندما بدأت. يحدثُ دائمًا شيء مختلف. يأخذُ الكتاب حياة خاصَّة به أثناء العمل عليه؛ يخبرك بما يريد أن يكون عليه. أنت، بوصفك كاتبًا، تكونُ أداةً لهذه العمليَّة، وتحاولُ أن تستمع لما يحدثُ أكثر من أن تُملي عليه ماذا يحدثُ. وهذا هو السبب في أن الكتابة مغامرةٌ رائعةٌ بالنسبة إليَّ.
لا أعرف حقًّا عندما أجلسُ كل صباحٍ ما الذي سأفعله بالضَّبطِ في ذلك اليوم. هناك كُتَّاب يضعون خططًا مسبقةً لكتبهم وأحيانًا يكتبون مخطَّطات تفصيلية لما سيحدث في الرُّواية، ثم يمضون فيها بعزيمةٍ يومًا بعد يوم، صفحةً تلو الأخرى، ويعيدون إنتاج ما هو موجودٌ في الخطوط العريضة بشكلٍ أكثر تفصيلًا. لا أستطيعُ القيام بذلك. أعتقد أن ذلك سيكون مُملًّا للغاية، وسأفقدُ إثارة عدم المعرفة.
من ناحيةٍ أخرى، عندما كنت أصغر سنًّا ومُرتبكًا جدًّا بشأن كيفية القيام بذلك كله، كنت أعتقدُ أنَّ هذا هو ما يجبُ عليك فعله. كنت أعتقدُ أنه يجب أن تعرف كل شيءٍ مقدمًا. كانت هذه لعنةُ الذِّهاب إلى مدرسةٍ جيدةٍ جدًّا (جامعة كولومبيا) وقراءة الكثير من الأدب والنَّقد الأدبي. بالطبع، كان لذلك تأثير كبير على تعليمي، وتعلَّمت الكثير، ولكن في الوقت نفسه أعاقني ذلك. إذا كنتَ تريد أن تصبح فنانًا، فعليك أن تتعلَّمَ كل شيء ممكن، ثم تفعلُ كل شيء ممكن لتنساه. والأشياء التي لا يُمكنك نسيانها هي التي ستشكِّل أساس عملك.
كل واحدٍ من كتبي الخمسة غير الروائيَّة يمثِّلُ نهجًا مختلفًا للكتابة الذاتيَّة، فكلها غريبة جدًّا. لا تتناسبُ مع أي شكلٍ تقليديٍّ، وبالتأكيد ليست مذكِّرات. المادَّة معروفةٌ إليَّ، لكن تشكيلها لا يقلُ صعوبة عن تشكيل الرواية. الجهدُ المبذول لكتابة جملةٍ جيدةٍ هو الجهد نفسه سواء كنتَ تكتبُ خيالًا أو غير خيالٍ. في الرِّواية، لديك حرَّية الاختراع، ولكن في الوقت نفسه، بمجرَّد أن تحدِّدَ حدود العمل الذي تعملُ عليه، فيجبُ أن تلتزمَ بها. لا يمكنك تجاوز هذه الحدود، فإذا فعلت ذلك، ستُدَمِّر ما تحاول القيام به.
في الكتابة غير الرِّوائية، تكون محصورًا بالحقيقة، بالحرف الكبير “T”. الحقيقةُ، في هذه الحالة، هي الأشياءُ كما تتذكَّرها بأكبر قدر ممكن من الوضوح، لأنك غالبًا ما تتذكَّرُ بشكلٍ خاطئٍ أو ترتكبُ خطأً؛ ولكن على الأقل، يجب ألا تكتب أيَّ شيءٍ تعلمُ أنه خطأ مقصود أو تحريف لما تعتقدُ أنه الحقيقة. هذا واحدٌ من العهود التي تعقدها مع نفسك ومع القارئ.
قلتُ سابقًا، ما لم يكن الأمرُ عاجلًا تمامًا، فلا جدوى من الكتابة، كنتُ أعني بالعجلة هنا إنها ”عجلةٌ شخصيَّةٌ”. يتعلَّق الأمرُ بما إذا كنت بحاجةٍ حقًّا للقيام بذلك، وما إذا كانت حياتك ستكون ممكنة إذا لم تفعل ذلك. كل شيءٍ ينبعُ من أعماق نفسك لدرجة أن الَّلاوعي هو الذي يخبرك بما يجبُ أن تفعله. وهذا هو السببُ في أن من الصَّعب عليَّ مناقشة عملي الخاص.
أنا مهتم حقًا بالالتباس. الأشياءُ في الحياة ليست دائمًا واضحةً تمامًا. لا أتحدث فقط عن الأسئلة الظَّاهراتيَّة، ولكن أيضًا عن القضايا الأخلاقية، والنفسية، وحتى القضائية والسياسية. كل شيءٍ يميلُ إلى الانهيار في حالة من الالتباس. وبعض الحقائق المتضاربة تتعايشُ بطريقةٍ ما. هذه هي الأشياءُ التي تهمني أكثر، لأنني أعتقدُ أن هذا هو الواقعُ الذي نعيشُ فيه بالفعل.
الُّلغة تُعطينا العالم، لكنَّها أيضًا تأخذهُ منَّا. نحن نعيشُ باستمرارٍ في هذه الثنائية.
أمَّا عن نصيحتي للكُتَّاب الطَّموحين في جامعة ييل ، فأقول لا تفعلوا ذلك. أنتم تطلبون حياة من الفقر، والعزلة، ونوعًا من التلاشي في العالم. الأمر يشبهُ تقريبًا الانضمام إلى طائفةٍ دينيةٍ. الكتابة مرضٌ، ليست أكثر من ذلك. إذا قال شخصٌ شاب: “أنت محق، سيكون هذا أمرًا غبيًا”، فإن هذا الشخص لا ينبغي أن يكون كاتبًا. أما إذا قال شخصٌ شاب: “أنا لا أوافقك الرأي، وسأفعلُ ذلك على أية حال”، حسنًا، حظًّا سعيدًا! لكن عليك أن تكتشفَ الأمر بنفسك، لأن طريق كل شخصٍ مختلفٌ.
بول أوستر (١٩٤٧-٢٠٢٤)
روائي أمريكي
اختيار وترجمة: سارة حامد حواس