الشاعرة الأذربيجانية نيكار حسن زاد في صورتها الرمزية

(ثقافات) 

الشاعرة الأذربيجانية نيكار حسن زاد في صورتها الرمزية 

رشيد المومني*

تتعدد المداخل المفضية إلى تضاعيف العمل الشعري ، بما تعنيه كلمة التضاعيف من بنيات جمالية  و دلالية، يستمد  العمل من فرادتها  هويته و خصوصيته. و مهما تعددت هذه المداخل، فإنها تكون قابلة لأن تتوزع على خانتين، تتكاملان معا و تتفاعلان في  توفير ما يكفي من الإضاءة، التي تتبدى معها بعض مقومات العمق الشعري المراد مقاربته.  فإذا كانت مداخل الخانة الأولى تتمحور أساسا حول جمالية العمل ، فإن مداخل الخانة الثانية، تتخذ من صورة الشاعر سندها المباشر في الاهتداء إلى الغاية ذاتها. كما هو الشأن بالنسبة للشاعرة الأذربيجانية  نيكار حسن زاد.

و رغم هيمنة الأطاريح الجمالية ،القائلة بجدوى فصل النص عن غيره من المؤثرات  الخارجية، إلا أن “صورة الشاعرة”  تحتفظ  هنا  بسلطتها التقليدية، بوصفها  مكونا  فاعلا في تمظهر النص، حيث لا يصح ضمن هذا القانون ، التهوين من قيمتها، بتحييدها  جزئيا أو كليا من مجال القراءة النصية. لذلك، و كما هو ملاحظ ، سيستمد تركيزنا على هذه  الصورة، بعده  الإشكالي، من خصوصية النسق الشعري الذي نحن بصدده، لكن ،عبر تجاوز المقولة التي تكتفي بالنظر إلى الذات الشاعرة، فقط بوصفها المصدر المركزي ،و المسؤول عن تنفيذ فاعلية الخلق والإبداع، إلى منهجية  أكثر تقدما ،تستحضر فيها بعض الشروط الرمزية المحايثة لصورة الشاعرة  ،والمؤثرة  في تعبيد المسارات النصية المفضية إلى فضاءات قراءاتها. و هو رأي يجد تبريره الموضوعي، في ظاهرة  الحضور القوي، الذي تتميز به الشاعرة نيجار  في المشهد الثقافي الأذربيجاني  ، حيث يتعذر على الباحث مقاربة نصوصها، إلا عبر ما تبته  رمزية صورتها  من إضاءات، تجاوزت  مجالها الإقليمي إلى  غيره من الفضاءات الكونية.  خاصة الغربية منها.

وسيكون من الضروري في هذا السياق، الإشارة  إلى عدم خضوع هذه الصورة إلى مواصفات بعينها. ذلك أن عامل التميز الذي تتكرس بموجبه حظوة  الحضور، يتسم بتنوع طبائعه المراوحة عادة بين مسلكيات مغرقة  في أفتعالها و تمحلها ،وبين تلك المعززة بعقلانية ثوابتها و مصداقية مقوماتها. وهي وضعية كثيرا ما تؤدي إلى اختلاط الحابل بالنابل ،خاصة  في ظل هوس البعض بتكريس حضور زائف ،قائم على بؤس الادعاء، و التدليس ،ولا علاقة له البتة  بأسئلة الإبداع أو قضاياه.

غير أن “الصورة ” لا تلبث أن تعلن عن صفاء و جاذبية إشعاعها، حينما تكون منتمية بالقوة و الفعل، إلى وطن الشعر كما هو ملاحظ بالنسبة للشاعرة نيجار. بما يحيل عليه مفهوم الانتماء هنا، من قناعة الذات، بجدوى انصهارها التام، وشبه المطلق في بوثقة الشعري. وهو الإطار الذي تنعدم فيه  الحواجز بين سؤال الكتابة و أسئلة المعيش . بمعنى  أن تعيش الحياة شعريا بالكامل ،و أن تأخذ من الحياة شكل قصيدة، تتطلع إلى استكمال بنائها، خلال مواجهتها لتهديد طاغوت  المحو ، الذي لا يكف عن مطاردتها. بما تفيده كلمة المطاردة هنا من تكريس عدواني للثوابت التي تحكم قبضتها على ناصية المعيش .

فالقصيدة في هذا السياق تحديدا ، تأخذ شكل بديل  مضاد ،تحلم  الذات باستشرافه  في مواجهتها  لجبروت  الأعراف، الذي يكره الكائن على الامتثال إلى إملاءاته. علما  بأن هاجس تشييد العالم البديل بسلطة  القصيدة  عند الشاعرة  نيكار حسن، لا  يعني بالضرورة التعبير المضمر و المبيت عن الرغبة في الانتقام من حتمية المعيش . ذلك  أن حضور الهاجس الانتقامي  تجاه الواقع المرفوض ، غالبا ما تكون له  تداعياته  السلبية  المفضية إلى إنتاج  نصوص لا  تقل عدوانية عن  الواقع الأصل. كما أن شعرية تشييد الواقع النصي في السياق الذي نحن بصدده، تتأسس على مبدا  تفادي  التورط في مرجعيات  مضادة، قابلة  من حيث الجوهر للتماهي مع  المرجعيات المتسلطة . كما هو الشأن بالنسبة للتجارب المستندة  على الرؤية الفوضوية  للكتابة الشعرية، و التي  يمكن اعتبارها  امتدادا  للفوضى  العشوائية ،المناوئة  للسياسات  المؤطرة   بالقبضة  الفولاذية . و نفس  الشيء بالنسبة لظاهرة  الاحتماء  بمخمل  الشعرية  الرومانسية، أو الشعرية اليوتوبية الغارقة في  وهم تعاليها ، إلى جانب غيرها من المرجعيات التي تتخذ موقفا سلبيات من الواقع ، حيث لا فرق في ذلك بين سوريالية متطرفة ، وبين رؤية مصابة  بعماها  الأيديولوجي .  بمعنى أن شعرية نيجار، لا تنزع إلى مواجهة  الواقع  انطلاقا  من  قناعات  جاهزة  سلفا، و مستمدة  من المدونات  النظرية المسكونة  بمطلب   البحث عن إبدالات ، تتراوح عادة  بين  هروبها  من قسوة الواقع ، و بين مواجهتها لعدوانيته   بعدوانية  مضادة و رافضة ، قد تكون  مؤطرة   بالعقل  أو بالجنون. فبين النقيضين معا تتواجد صيغ، و مواقف  متعددة ، و ردود أفعال يتجاوب فيها  العقل باللآعقل. لعل أكثرها تطرفا هي الاتجاهات المنادية بحتمية  إقصاء الواقع المعيش جملة و تفصيلا ، فلا يبقى له ثمة من وجود، كي تظل الهيمنة في نهاية المطاف،  لتلك العوالم  المختلقة المنقطعة الصلة عن الواقع الأصلي.

 و هنا  تحديدا ،تكمن خصوصية التجربة الشعرية لدى نيجار .إنها خصوصية تجربة تحتفظ بمسافة رمزية تصل بينها و بين حقائق الواقع. إنها تكتب عنه، دون أن تكون بالضرورة مورطة بشكل تام   في مجرياته. و من الواضح أن الأمر يتعلق  بلعبة خطرة ، تجيد الشاعرة  نيجار  التحكم  في خيوطها . لعبة تجد تعبيرها  في جمالية  الرصد و الاستشراف ، التي تستدعي توافر مستوى جد متقدم من اليقظة  و الوعي .

و من المؤكد أن  هذه المراقبة  الحاضرة الغائبة في آن ،هي التي تحافظ على حضور الواقع  بقدر ما تحرص على تغييبه  في آن. إنه الواقع الحاضر في مركز الاهتمام  الشعري ،بكل ما يمتلكه من عنف . و في نفس الوقت ،مغيب تقريبا بفعل إعادة  البناء التي  يخضع لها داخل النص الشعري .إنها  و بامتياز  جمالية “الحضور الطيفي”  التي تسمح للقراءة  بالإقامة  بين  الأصل. و بين إبدالاته  الممكنة.  و هو المنطق الذي  تشتغل به  كل  عملية  تجميلية ، تنظيفية  ذكية ،و أنيقة ، و أيضا شبه جذرية على الواقع ، كي تكون  في نهاية المطاف ، موضوع  تأمل ، وموضوع  معالجة ، من قبل القراءة ، دون أن تأخذ بالضرورة  طابعا تعليميا أو توجيهيا ، يلزم   القراءة بتبني موقف  معين، من هذا الواقع  أو ذاك .

 إن  الإبدال الذي توحي القصيدة  بحضوره  ،يقتصر على  الإيحاء  بإمكانية  التواجد  داخل محتمل ما، يتميز بانفتاحه الرمزي  على  أكثر من إمكانية  للوجود. و ذلك هو رهان الكتابة الشعرية لدى نيكار حسن . إنه رهان كتابة تشير إلى المكان البديل ،دون أن تكره القراءة على التواجد القسري فيه. فثمة حدس بحضور الآخر ،  و كذلك  حدس  بحضور المؤشرات المكانية، و المعيشة  التي  لا تكون بالضرورة  واضحة  معلنة ، كما لا تكون بالضرورة   عصية ، و متأبية على الإدراك .  إنها المؤشرات  المتاحة، ضمن الحدود التي تمتلك فيها  القراءة  قابليتها  للتمثل  و التخييل.

إنها مؤشرات معيش لا يمكن التنكر له بنسيانه، أو بالبحث عن إبدالات يوتوبية له .إن الأمر يتعلق  بتحقيقي هاجس الانتماء  إليه  عبر جمالية  الشعري .و هي جمالية غير معنية  بتغييره أو بتقديم إبدالات ثابتة جاهزة، تعتمد كمنهاج  للرؤية  و الوجود، بقدر ما هي جمالية  معنية  بالبحث عن إيقاع  مغاير ،يتفاعل  فيه الواقعي  بالشعري ،بما يساهم  في  تجديد  ميكانيزمات الحكم  ،و الرؤية ، الكفيلة  بتوفير سبل تجاوز العائق ، و استشراف  آفاق “المنفتح”  الشعري على ممكناته، و الكفيل إلى حدما ، بضخ ما تيسر من الدم الحي في أوصال المعيش. ما يدعونا للتأكيد  على راهنية ذلك  الفرق الشاسع  الملموس بين “صورة  الشاعر” التي تتشكل ملامحها ،بصيغة عفوية و تلقائية، انطلاقا من مقوماتها الموضوعية،  حيث يتحقق ذلك التناغم الطبيعي بين الظاهر و الباطن ، كما هو الشأن بالنسبة للشاعرة  نيكار حسن زاد ،و بين صورة مفتعلة، يستميت صاحبها من أجل  وضع  خطاطة مسبقة لها ،من أجل توظيفها في اختلاق و تكريس أوهام و ادعاءات باطلة ، لا علاقة مطلقا بأسئلة  الشعر و الوجود.

شاعر و كاتب من المغرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. أولا، أشكر كثيرا موقع ثقافات في شخص الصديق العزيز يحيى القيسي، الأديب الحصيف، والمبدع المتعدد المواهب، على تفانيه اللامحدود في انتقائه لأجود مواده، فضلا عن صبره الجلد على تحمله ما تتطلبه عملية المعاينة والمتابعة لتلك المواد وما أكثرها، كما أشكر الطاقم المرافق له، الساهرين على إخراج المواد بكل حرفية مهنية وجمالية… مقالة يطبعها عمق في المقاربة مع سبر جامع ودقيق للبنيات و”الميكانيزمات” الإبداعية والجمالية، والتقنية والرمزية في المتن الشعري لتجربة الشاعرة الأذربيجانية نيكار حسن زاد. بالمزيد من التألق والتوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *