الزمن والسرد و الصور الأدبية في رواية “زمن الغبار” لفاطمة بن محمود

(ثقافات)

الزمن والسرد و الصور الأدبية في رواية “زمن الغبار” لفاطمة بن محمود

– هيام الفرشيشي

(كاتبة من تونس)

 يمتد الزمن في رواية “زمن الغبار” على يومين: 28 و 29 جويلية 2014، طيلة فترات اليوم من الصباح إلى المساء. وهو زمن تصوري بمثابة شريط للذاكرة، يمر بسرعة قصوى كلما كانت الشخصيات في حالة قريبة من الغيبوبة، وعلى حافة الانهيار جراء إصابات جسدية. “ثريا” أصيبت بمتراك حرس الرئيس، وابنها أصيب بالرصاص في المعارك في سوريا. وكلاهما يتحسس زمن الماضي والأحداث المتسلسلة في الذاكرة لمقاومة الانهيار.

 التقسيم الكرونولوجي للزمن في الرواية هو مجرد تحديد لعقارب الساعة، تمر فيها الأحداث بسرعة خاطفة. أي ما حصل من تغيرات في شخصية الابن من شاب يافع متنوّر إلى سلفي متشدد، وما حصل من تغيرات عميقة واستسلام تام لقناعات دولة الخلافة والتشرب بالعنف السادي والحلم بالشهادة، في الرقة في سوريا. كل ذلك جعل الزمن يدور كما الدوامة التي تعصف بأذهان الشخصيات… وهو زمن الغبار، زمن الأتربة، زمن الحرب، زمن خريفي كالح وملوث، زمن غير نقي، وغير طاهر.. 

 تنقسم الرواية إلى ثلاث فصول: 

جاء كل من الفصل الأول والثالث في صفحتين، بينما امتد الفصل الثاني على بقية الصفحات.. علما وأن الرواية تمتد على 262 صفحة.

الفصل الأول في 28 جويلية 2013 في عيد الشجرة. الرئيس يغرس شجرة زيتون. امرأة تحاول الاقتراب منه لتخبره عن كل شيء، تُعنف بمتراك حرس الرئيس وتُنقل لمصحة الهناء.

الفصل الثالث يوم الاثنين 29 جويلية. جماعة متطرفة استهدفت فرقة كومندوس من الجيش الوطني أثناء الإفطار.

 الفصل الثاني : تبرز الرواية كوعاء فني لنقل الرسائل للقراء. أي وسيلة لكي يفهم القارئ تركيبة تنظيم الدولة الإسلامية من خلال معاناة أم غُرّر بابنها لتبني الأفكار الأصولية واستدراجه للجهاد في سوريا. وحضور الكاتبة فاطمة بن محمود وهي تتصل بعائلات الضحايا في الوقفات الاحتجاجية، وتطلب شهادات عن تسفير الأبناء لسوريا. وتلقى التجاوب من ثريا، والصد من عائلات أخرى على غرار أم أمل. تسجل الأحداث في كنش. تلتقط صور غرفة ربيع ص146. تدون كل التغيرات في حياته، مثل الحديث اليومي، تحايا الصباح، غمامة من الحزن على الوجوه. تسجل هذه المعطيات وتحاول التخفف من ثقلها وتحافظ على عائلتها من غزو أفكار دولة الخلافة لتعيش أزمة نفسية وتحاول أن تطرد الشعور بالاكتئاب والاختناق.

 السرد في الرواية:

     كان صوت الراوي الموضوعي هو الأقوى والأبرز، والمسيطر على النص السردي، فهو يمتلك كل التفاصيل وأمامه الخارطة لكل الأمكنة، و التقط كل الأحاديث. والعارف بكل المعلومات، حتى أن القارئ يخال بأن تقصي الأحداث واضحا، والخطة الصحفية واضحة. والراوي الذاتي بضمير الغائب/ هو/ هي يوظف البعد الداخلي. غير أن المؤلفة التي تكتب الرواية أوجدت لها مكانا داخل النص لتعيد سرد الأحداث، ولكن دون انفصال عن مشاعرها وأفكارها، لتسلل للقارئ شعورها بثقل الواقع وتأثرها بصور العنف الصادمة. 

      السرد في الرواية يوثق لأحداث حصلت وممكنة الوقوع بدرجة كبيرة، وهي تتجول في ذاكرة ثرية امراة التعليم التي فقدت ابنها في سوريا.. تريد أن تعرف وتسجل وتصور كل شيء. صحيح هي تتحكم في السرد والوصف ولكنها تنقل الشيء على حقيقته، وتبرز رؤيتها في تعرية بشاعة دولة الخلافة، ولكنها لم تكن ضد الإسلام التنويري المتسامح الذي ينبذ العنف والتحكم في أديان وعقائد الآخرين، وتنقل بصدق الأحداث والصور للقارئ وفق سرد موجه. يطغى فيه صوت الراوي، ويصبح الناطق باسم الشخصيات،لكل ما يدور في ذهنها وذاكرتها. ولئن تعلق السرد بثريا وربيع و أمل بدرجة أقل، والكاتبة باختصار، وبعض مواقف عائلة أمل.

 ـ كانت وجهة السرد الكشف عن الوجه السادي لدولة الخلافة، وما خلّفه من عنف، إفراغ الأجساد والأرواح من الحياة، بل جعلها هامات خائرة القوى لا تتلمس غير أوهامها.

 ـ تداخل الراوي مع المؤلفة التي كتبت عن قصص وشهادات وصور تعرفها وليست موضع خيال.. شخصيات وجدت في أطر ضيقة تمنع عنها الحركة والأمل. لتترك أمل ونادية الكوردية التي وقع سبيها من سنجار. تنجوان لأنهما ضحايا ولم يتم غسل أدمغتهما.

المؤلفة ملتصقة بالمرجع الواقعي والسياسي والإعلامي. والأحداث، والشخصيات، والمدة الزمنية. لكنها كتبت من طرف كاتبة لا صحفية مما يجعل عنصر التخييل حاضرا  بتنظيم أحداث الرواية. واعتماد الرؤية (مع) معرفة الراوي بشخصيات الرواية.

 الصور في الرواية:

     الهدف من الصور التي رسمتها الكاتبة للشخصيات إبراز شعورها بالضيق، من انسداد آفاق شخصياتها خاصة الأم وابنها ربيع من عوالمهم الداخلية العقيمة، من خلال احتضار الزمن و أسر المكان القاسي. 

حضرت الصور الذهنية المرعبة في الغرفة رقم 216 في مصحة الهناء وشخصية ثريا وتصوير المخزن الكبير والقديم الذي تنقصه الإضاءة وتنبعث منه الرطوبة »ص24 .

 في كل غرفة باب ولكنه لا يفتح:

 “رأى في آخره بابا صغيرا لا يتلائم مع حجم المخزن” ص24 

 “تنظر إلى الباب. لا تحب أن تحول بصرها عنه. تتمنى لو يفتح الباب ويدخل ولدها”. 

سبب عدم الخروج الانهيار بعد الإصابات وانسداد الآفاق

 “في غرفة رقم 216 ملقاة كغصن كسرته الريح، النافذة الوحيدة مغلقة وهذا يشعرها أن الغرفة صغيرة وضيقة مثل البلاد”. ص11

 “وجد نفسه داخل قبو رطب سكنته رصاصة على ما يبدو مثل عقله الذي أصبح يفكر عائدا للماضي.” ص69 

روائح لاذعة في الإطار المتعفن: « وخزتها رائحة لاذعة ، فتحت ثريا عينيها وترى لها البياض يخيم على المكان فأغمضت عينيها من جديد » . 

كأن ذاكرته اصابها عطب أيضا، واضطر أن يستسلم لهذا الليل الرطب المتعفن. ص15 

تمطط الزمن: 

“كم مر عليه من الوقت في هذا المستشفى الميداني الذي يبدو قبوا قديما يشرف عليه بعض المسعفين من المقاتلين بلحاهم الطويلة”. 

ظلام المكان: 

“فوقع بصره على سقف منخفض انعكس عليه ضوء باهت فاطمئن إلى إنه يرى” ص15.

 الكاتبة وضعت الشخصيات المصابة في غرف مظلمة، تغزوها روائح قذرة مما يدل على أنها في وضع حرج يطبق عليها. لايمان الأم ثريا أن من يذهب لسوريا لن يعود، وبطلب ربيع الشهادة لغياب من ينقذه ويخرج الرصاصة من جسده. ووسط هذه الأطر المغلقة تسرد الشخصيات حكاياتها.

 المشاهد التصويرية في الرواية: 

     رسمت الكاتبة صورها الأدبية من خلال وصف مقتضب وبدقة لتجعل القارئ يشارك الشخصيات لحظاتها وما يكتنفها من مشكلات معقدة، تسعى لعرضها الشخصيات من خلال انفجار الذاكرة. وتبدو الصور نقلية دلالتها واضحة، ولكنها تصويرية معانيها الضمنية لا تخفى. لتعبر الكاتبة عن رؤيتها لوضعية الشخصيات والمجتمع. فهي لا تنظر للمجتمع من الخارج فحسب بل من الداخل. فالمجتمع المتوتر كسر الشخصيات والأزمة أصابتها بالإحباط التام. وهذه الصور جعلت القارئ يرى ما يحصل في البيوت والساحات والشوارع. وما يدور من أحاديث. وإعادة تثبيتها بعدما ركنتها الذاكرة في تجاويفها لمحاربة النسيان. إن التركيز على اضاءة الصورة أو عتمتها والتركيز على الإطار أو فضاء المشهد وبعض فتحاته له صلة بالفنون البصرية.

الأسلوب:

 أسلوب السرد والتوثيق يقترن بحالة مزاجية يطغى عليها الضيق والاشمئزاز. وعرض الأحداث، ووجهات النظر، والاستشهاد بآيات قرآنية وعبارات من قاموس السلفيين. طريقة الحكي وتناول الأحداث تنم على التنبيه من المخاطر لذلك تتفقد الكاتبة ابنها وعلاقته بالقيثارة والفنون. استعملت بعض الهوامش التفسيرية. والكتابة الوصفية للأمكنة التي تحاصر الشخصيات لإكساب الأمكنة دلالات الضيق و التبعية والضعف.

 الخاتمة:

 عشر سنوات مرت على أحداث الرواية عند صدورها. وكان بإمكان الكاتبة أن تصدرها منذ سنوات. ولكن يبدو أن مهمتها التذكير بما يقع تناسيه. مجرد تذكر تلك الأيام يشحن النفس بالأوجاع. فالقارئ تقيأها من ذاكرته ولكن المؤلفة تصر على استرجاع ما حصل، لعله الخوف من تكرره مرة أخرى أو ترك بعض الفجوات لينفذوا منها من جديد. لذلك تتخذ الرواية صبغتها التأريخية لتنتبه لها الأجيال القادمة خاصة وأن الذاكرة سرعان ما تركن ما يؤلمها من خبرات وتجارب في أركان سرية بعيدة متجاهلة اياها لكن الكاتبة لا تنسى…أي كل ما يعنيها أن تبقى الرواية مرجعا جيدا. فيذهب السرد لصالح الحكاية وتكتب الأحداث محاكية الواقع.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *