الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة

(ثقافات)

الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة

حاتم السروي

لا نبعد كثيرًا عن الحقيقة ولا نقع في شَرَك المبالغة لو قلنا إن الفيلسوف الكبير “إبن رشد” حظي بشهرة عالمية في مجال الفكر الإنساني لم ينلها مفكر عربي أو فيلسوف إسلامي سواه؛ فرغم عظمة ما أنتجه “الفارابي” و”ابن سينا” و”ابن باجة” و”ابن طفيل” وغيرهم من الفلاسفة المسلمين إلا أن الشهرة كانت من نصيب “ابن رشد” وذلك لأنه أثر في الغرب الذي نهل من علمه ونتاجه الفكري على مدى قرون؛ بينما أهين في الشرق وكفره الفقهاء ورُمِيَ بالإلحاد والزندقة كما أُحرِقَت كتبُه ونُفِيَ، كل ذلك لأنه قدم فكرًا مستنيرًا في عصر مظلم وأراد أن ينهض بأمة كانت تتجه إلى التأخر رغم أنها لم تكن قد فقدت بعد مقومات الحضارة إلا أنها كانت قد بدأت في طريق التراجع، فجاء “ابن رشد” معاكسًا لطبيعة زمنه، ومختلفًا عن الروح التي بدأت تسود في أيامه.

  • تأثير “ابن رشد” على الفلسفة الحديثة:

لقد أخذ الغرب من “ابن رشد” الكثير، ونظرة عامة إلى فلاسفة عصر النهضة تجعلنا نعرف أنهم أخذوا منه فكرة “العقلانية” وما كلام “رينيه ديكارت” عن استقلالية العقل ووجوب تحرره من كل فكرة مسبقة ومن كل سلطة ما عداه وأنه أعدل الأشياء قسمةً بين الناس وهو الطريق الآمن والوحيد للمعرفة الحقيقية، ما كان هذا كله إلا بتأثير فلسفة “ابن رشد” التي منحت الأولوية للعقل حتى أن الغرب أطلق على فيلسوفنا لقب “سلطان العقول والأفكار”.

ولقد عمل “ابن رشد” على التوفيق بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة، وهذه الفكرة تحديدًا لم تلق قبولًا من كثيرٍ من علماء الدين والعامة، وحتى الآن تبقى الفلسفة عند الكثيرين في البلاد العربية والإسلامية مرادفة للكفر، ولا يجد الباحث في فلسفة “ابن رشد” وغيره من الفلاسفة المسلمين أي أثر للكفر أو الإلحاد؛ بل يجد العكس تمامًا فقد وضعوا البراهين على وجود الله وعلى صحة الدين الإسلامي الذي دافعوا عنه؛ أما قولهم بقدم العالم فهو قولٌ لم يُفهَم على وجهه الصحيح كما يوضح “ابن رشد” لأنهم قالوا بقدم العالم من ناحية الزمن، بمعنى أن العالم الذي لم يُحدِث نفسه بالتأكيد جاء قبل الزمان المحسوب بالسنين والأيام والشهور، وبهذا المعنى يمكن أن نفهم قدم العالم عند الفلاسفة المسلمين الموحدين؛ لأنه من المحال أن يكون العالم لا بداية له لأن كل معلول لابد له من علة، وكل موجود لابد له من موجد، والموجد بلا شك هو الله عز وجل، وطالما أن الله أوجد الكون بقدرته فالكون حادث مخلوق ما في ذلك شك، والحقيقة أن مبحث قدم العالم عند الفلاسفة المسلمين فيه شيء من التعقيد فلا يمكن تلخيصه في هذه المقالة، غير أن ما يمكن أخذه بارتياح من أقوالهم أن الله عز وجل في اعتقادهم واعتقاد كل مسلم هو الذي اخترع العالم أي أوجده على غير مثالٍ سَبَق، وهو عز وجل واحد وله الكمال المطلق والقدرة التي لا يعجزها شيء وهو مصدر الخير.

إن نظرة واحدة متعمقة غير متسرعة إلى فلسفة “ابن رشد” ستجلو صدأ الأذهان وستمحو الفكرة الغوغائية المنتشرة عند الناس حول كفر الفلاسفة المزعوم، وهي فكرة بائسة تدل على انعدام الوعي الحقيقي الناجم عن قلة القراءة أو انعدامها لدى الكثيرين في بلادنا العربية المنكوبة حضاريًا.

  • تجدد نكبة “ابن رشد” أو محنة الفلسفة حتى اليوم:

حين نطالع المناخ الثقافي العام في بلادنا نجد بوضوح أن نكبة “ابن رشد” لا تزال تتجدد؛ فحتى الآن لا يحظى هذا الفيلسوف بالتقدير الذي يليق به، ولا زلنا نتجاهل دعوته إلى إصلاح العقل المسلم، وفي المقابل تسود نزعة غوغائية تهتم بالمنامات وما يسمى بعلوم الكشف والإلهام التي لا يحتاج معها المؤمن إلى التلقي من أفواه المعلمين أو القراءة في الكتب، فحسبه أن يقرأ بعض الأوراد وأن يجاهد نفسه في الصوم والعبادة وسوف تأتيه العلوم دون أن يفتح كتابًا أو يسمع أستاذًا، والحق أن العبادة حين تقربنا إلى الله فإنها ليست سببًا لحصول العلم في ذاتها، لأن الله عز وجل اقتضت حكمته أن يكون سبب العلم هو التعلم، والتعلم يكون بالكتب والأساتذة وإلا فما الداعي لإقامة المدارس والمعاهد العلمية والجامعات؟! وأما قوله تعالى :”واتقوا الله ويعلمكم الله” فليس معناه أن التقوى تغني عن التعلم وأنها سبب حصول العلم بمعناه الشامل؛ وإنما المعنى كما في كتب التفسير أن تقوى الله تثمر التوفيق والهداية إلى الحق ومعرفة الصواب، ومع هذا فإنه لابد للمسلم حتى يعلم دينه جيدًا أن يتلقى العلم الشرعي من الشيوخ، فلكل علم أساتذته والشيوخ هم أساتذة العلوم الدينية.

ولقد دافع “ابن رشد” عن المعرفة العلمية المكتسبة من الكتب، شأنه في ذلك شأن كل فلاسفة المسلمين الذين دعوا إلى التعلم من خلال المطالعة وأكدوا أنه يؤدي بصاحبه إلى المتعة الذهنية والنضج العقلي والكمال الإنساني ويرتقي به في السلوك والحضارة، كما أكد أن كل ما لا يقبله العقل فهو غير مقبول على وجه اليقين لأن التفكير العقلي هو طريق الوصول إلى الحقائق، والبحث العلمي المبني على ارتباط الأسباب والمسَبَّبات هو الوسيلة الوحيدة لفهم الطبيعة والحياة الإنسانية أيضًا، فلا يوجد شيء بدون سبب والوجود لا يسير خبط عشواء.

  • نهاية الفلسفة الإسلامية وسطوع نجم التصوف الطُرُقِي:

لكل ما سبق نعتقد أن موت “ابن رشد” كان علامة على موت التفكير الفلسفي عند المسلمين، فلقد كان هذا الرجل هو شعاع النور الأخير لحضارة راحت تحتضر من بعده، فقد جاء القرن السابع الهجري بعد وفاة ابن رشد بخمسة أعوام وحمل معه في المشرق العربي الكثير من الفواجع والكوارث والحروب الصليبية والهجمة المغولية وحكم المماليك وثقل وطأة الضرائب والحكم المستبد على الرعية المغلوبة على أمرها، واستمر حكم المماليك الذين كانوا يتآمرون على بعضهم ويدخلون في معارك على السلطة والناس يتفرجون وأيديهم مغلولة وإرادتهم مشلولة حتى أصبح الرجل يقول لجاره “من سيركب اليوم؟!” أي: من الذي سيستولي على كرسي الحكم اليوم؟! في إشارة إلى العجز التام والبقاء في وضعية المشاهدة مع عدم القدرة على تحديد المصير.

 أما في مجال الفكر فقد انتشرت الطرق الصوفية بكل ما تحمله من أفكار لا علاقة لها بالعقل من جهة ولا بالدين من جهة أخرى، وفي غياب الأمان يلجأ الناس عادةً إلى الخيالات مستأنسين براحة الوهم، مطمئنين إلى أفكار غنوصية مفارقة للواقع، وانتشر القول بعدمية الإنسان والموجودات وأنه لا موجود إلا الله، والمعروف من الدين أنه لا موجود إلا بالله، أي أن الموجودات تكتسب وجودها من الله، لكن عند المتصوفة فإن البشر في حقيقتهم عدم متحرك! ثم راح المتصوفة يتكلمون فيما يسمونه بالحقائق وهي أمور لا تجد عليها دليلًا في الدين ولا يؤيدها العقل ورغم ذلك فهي عندهم العلم الحقيقي القادم من الله مباشرةً لأوليائه بلا واسطة، وأصبحت العلوم الشرعية من فقه وعقائد وتفسير وحديث مجرد علوم ظاهرية غير متعمقة – في نظرهم- والعلم الحقيقي الجدير بالأخذ والتلقي عندهم هو علم الباطن الذي يعلمه القطب ويمد به الأولياء في زمانه، وحين نفكر في ماهية هذا القطب المزعوم نجد أنه هو نفسه “الإمام” عند الشيعة؛ بمعنى أن خصائص “الإمام” عند الشيعة هي نفسها خصائص القطب عند الصوفية؛ مما يدل على الترابط الواضح بين الفكر الشيعي من جهة والفكر الصوفي من جهة أخرى؛ بل إنك إذا تمعنت في منظومة العقائد الصوفية ستجد أن هناك تأثير مسيحي واضح، وخذ مثالًا على ذلك فكرة “النور المحمدي” وخلاصتها أن أول ما خلق الله هو نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ الله قبضة من نور وجهه الأزلي وقال لها “كوني محمدًا” فكانت كما أمر سبحانه، ثم إن الله – في اعتقاد الصوفية- خلق من هذا النور أرواح الأنبياء والأولياء وخلق العالم كله، فالعالم مخلوق من الرسول ومخلوق له في نفس الوقت، أي أنه عليه الصلاة والسلام أصل العالم وعلة وجوده! وإذا قارنت بين هذا الكلام وبين ما ورد في المقطع الأول من إنجيل “يوحنا” عن المسيح، فسوف تجد أنه لا فرق بين الاثنين إلا أن ما يعتقده رجال الدين في المسيحي في المسيح يعتقده الصوفية في نبي الإسلام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام!

هذا ما كان في الشرق العربي؛ أما في الأندلس فقد انهزمت دولة الموحدين وأخذ الأسبان الكثير من المدن الأندلسية حتى لم يبق إلا جيب صغير في جنوب الأندلس هو مقاطعة غرناطة وتوابعها ثم سقطت الأندلس تمامًا وسقطت معها حضارة عربية عظيمة بكل أسف، وفي نفس التوقيت كان الغرب يبدأ نهضته بعد اختراع المطبعة على يد “يوهان جوتنبرج” والكشوفات الجغرافية على يد “كريستوفر كولومبوس” و”فاسكو دي جاما” و”ماجلان” وظهر في الغرب في القرن التالي على سقوط الأندلس فيلسوف التجريب “فرنسيس بيكون” ثم ظهر بعد منه فيلسوف العقلانية الكبير “رينيه ديكارت” الذي توفي في القرن السابع عشر الميلادي، وتتابع ظهور الفلاسفة المحدثين الذين تمردوا على تراث القرون الوسطى وقادوا نهضة علمية كبرى بالتوازي مع علماء الفيزياء والفلك أمثال “جاليليو” و”كوبرنيكوس” و”نيوتن” كل هذا والشرق يدخل في سُبَات عميق وتنطمس هويته الحضارية شيئًا فشيئًا حتى إذا دخل العصر الحديث وجد الفرق بينه وبين الغرب شاسعًا، وحين حاول أن ينهض وجد الاستعمار من ناحية ودعاة التخلف من ناحية أخرى، وأصبح التقدم الحضاري حتى الآن حلمًا جميلًا لا يجد من يحققه.

  • دعوة “ابن رشد” إلى إنشاء علم الاجتماع:

هكذا أصبح الحال بعد وفاة “ابن رشد” الذي نؤمن بأنه ظُلِمَ حيًّا وميتًا؛ حيث إن آفة شعوبنا العربية هي أنها لا تقدم التقدير المناسب للعلماء والفلاسفة، في حين أنها تقدمه لرواد التسلية من الممثلين ولاعبي الكرة، وهي ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى دراسة علمية تضع أيدينا على سر انتشار التفاهة وازدهارها في البلاد العربية، والشيء بالشيء يذكر، فلقد كان “ابن رشد” أول أو من أول الداعين إلى النظر العلمي للمجتمعات والبحث في أشكال وضعيات الاجتماع الإنساني، ويعني هذا بوضوح أنه فكر في إنشاء علم الاجتماع، وهو الأمر الذي تم على يد “ابن خلدون” بعد “ابن رشد” بثلاثة قرون.

  • دعوة “ابن رشد” إلى إعطاء المرأة حقوقها:

وليست الدعوة إلى إنشاء “علم الاجتماع” هي نقطة النور الوحيدة في فلسفة “ابن رشد” فهناك نقاط أخرى كثيرة، ولعله من المناسب أن نختم هذا المقال بذكر موقفه من حقوق المرأة، وقد كان من النادر جدًا في زمانه أن يتحدث رجل عن حقوق المرأة، أو حتى أن تتحدث امرأة عن هذه الحقوق؛ إلا أن ابن رشد كان سابقًا لزمانه حين قال إن النساء والرجال نوع واحد ولا فرق بينهم في الغاية الإنسانية، مع وجود فروق جسمانية تتمثل في قدرة الرجل على تحمل الكد الجسدي أو المشقة في بعض الأعمال تبعًا لوجود القوة العضلية في الرجال، وفي الوقت نفسه فإن كثيرًا من الأعمال التي يقدر عليها الرجل تقدر عليها المرأة أيضًا؛ بل إنها تتفوق عليه مثلًا في فن الغناء، وفن الغناء إذا جاءنا بصوتٍ حسن ولحن جيد وكلمات جميلة فهو من أسمى الفنون التي ترتقي بالإنسان.

ويبني “ابن رشد” على عدم التفرقة بين الرجال والنساء أن النساء يجب أن يكون حظهن من التربية والتعليم مساويًا لحظ الرجال، وأن لهن الحق في مشاركة الرجل بسائر الأعمال، وهي دعوة تقدمية سبقت دعوة “قاسم أمين” بثمانية قرون، وهي دعوة تنبئ عن أفق واسع وتسامح كبير لدى هذا الفيلسوف الذي كان يقبل على الحكمة أيًا كان مصدرها، وقد أفتى وهو الفقيه المبرز بإباحة الاطِّلاع على أفكار الآخرين المغايرين لنا في الملة والأخذ منها فيما لا يخالف العقيدة الإسلامية.

  • الخاتمة:

وفي الختام نقول إن موت “ابن رشد” كان في مرحلة تمثل بداية النهاية للحضارة الإسلامية التي أنارت العصر الوسيط، ونحن الآن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة العقل العربي بناءً على رؤية “ابن رشد” وغيره من رواد العقلانية في الحضارة الإسلامية أو في الفلسفة الغربية؛ لأننا حتى الآن ومع كل أسف لا ننظر إلى الأمور بواقعية ولا نستطيع حل مشاكلنا العامة وأحيانًا الخاصة، ولا نحسن الإدارة، وهذا واضح تمامًا في المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية وفي المرافق والخدمات وحتى في تفاصيل حياتنا اليومية؛ لأن عقولنا غير منظمة ولا نعرف منهج الاستنباط العقلي وهو استخلاص نتائج يقينية من مقدمات واضحة بديهية في عمل عقلي مرن يخرج من حقيقة إلى أخرى بواسطة التحليل والاستنتاج؛ كما أننا لا نعرف المنهج الاستقرائي وهو ملاحظة الظواهر وتجميع المعلومات التي تحيط بالموضوع محل الدراسة وترتيبها ترتيبًا منطقيًا ثم استخراج النتائج التي تكون بمثابة قوانين عامة نفهم من خلالها الظواهر التي حولنا ونتعامل بها مع الطبيعة لنستطيع تطويعها لصالحنا ونتنبأ من خلالها ببعض الكوارث مثل – الزلازل والعواصف- حتى نتفاداها.

ونحن حين ننظر إلى بعض الظواهر الاجتماعية عندنا لا نفهمها ولا نعرف بالتحديد متى نشأت ولا كيف نشأت ولا كيف نتخلص منها إذا كانت ظواهر سيئة، وكل ذلك لأننا لا نعطي الأهمية لعلم الاجتماع وأدواته في فهم الظواهر الاجتماعية، مع أن “ابن رشد” العربي المسلم دعا إلى النظر العلمي للمجتمع، فكان أن تفوق علينا الغرب فيما سبقناه نحن بالدعوة إليه، فليتنا ننتهي من عادة الافتخار بالماضي وننظر إلى الحاضر بهدوء وتعمق وتفكير عقلي مثمر حتى نستطيع أن نفهم سبب فشلنا ثم بالإرادة والعزيمة والعمل المتقن المبني على أسس علمية نتخلص من هذا الفشل ويصبح لنا مكان على خريطة العالم الذي لا يحترم إلا الأقوياء الناجحين المتقدمين.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *