(Original Caption) Portrait of American author Edgar Allan Poe (1809-1849). Undated illustration, after a photo by Matthew Brady.

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات)

قصة الظل[1].

إدغار آلان بو

ترجمة: عبد القادر  بوطالب

               أنت الذي تقرأ ما أكتب؛ ما زلت في عداد الأحياء؛ أما أنا الذي أكتب؛ فمند زمن بعيد؛ أنا ذاهب إلى بلاد الظلال، ذلك لأنه؛ في الحقيقة؛ أشياء غريبة ستحدث؛ وستنكشف أخرى كانت مجهولة، وستمضي أزمنة طويلة؛ قبل أن يطلع الناس على هذه الكتابات، عندئذ؛ لن يصدقها البعض؛ وسيشكك البعض الأخر فيها؛ وسيجد القليلون من بينهم؛ في الأحرف التي أنقش بمرقم حديدي على هذه الألواح؛ مادة للتأمل والتفكير.

لقد كانت السنة سنة رعب؛ سنة مليئة بمشاعر الأشد حدة من الرعب ذاته؛ حيث لم يكن للرعب مثيلا على وجه الأرض، ذاك لأن الكثير من المعجزات والعلامات ظهرت للعيان؛ في كل البقاع؛ في البحر كما في البر، وتمددت أجنحة الطاعون السوداء على نطاق واسع، بيد أن أولئك العارفين بعلوم النجوم لم يكونوا يجهلون أن السماوات تخفي وجه المأساة، وبالنسبة لي؛ من بين آخرين؛  أنا وانوس الاغريقي؛  le Grec Oinos  كان واضحا أننا نقترب من عودة السنة الرابعة والتسعين بعد السبعمائة، أي عند بداية برج الحمل؛ حيث يقترن المشتري بالحلقة الحمراء لزحل المرعب، إن لم أكن مخطئا؛ إن روح السماء المتفردة تٌظهر قوتها وجبروتها؛ ليس على المدار المادي للأرض، ولكن أيضا على الأرواح وتأملات وأفكار الناس.

         كان الوقت ليلا، كنا سبعة أشخاص داخل قصر فخم في مدينة كئيبة تدعى بتوليمائيس Ptolémaïs، كنا جالسين نتحلق حول قرورات نبيذ أحمر؛ آت من جزيرة خيوس، لم يكن للغرفة التي تأوينا من مدخل سوى الباب العالي النحاسي.  هذا الباب الذي  صنعه  كورينوس Corinnos؛ ذلك الحرفي البارع، لقد كان فريدا من نوعه، يغلق من الداخل، وكانت الستائر السوداء  التي تحمي غرفتنا الكئيبة؛ تٌبقي لنا مشهد  القمر والنجوم الحزينة والشوارع المهجورة والكئيبة، ولكن لم يكن من السهل نسيان ذكرى الطاعون والإحساس به، فلقد كانت ثمة أشياء قريبة  من حولنا وبالقرب منا،  أشياء  لا يمكنني استيعابها بوضوح؛ ولم أكن اكترث بها، هي أشياء مادية و أخرى  روحية؛ الجو الثقيل، الشعور بالاختناق، والغم والكرب، وقبل هذا وذاك، هذا الوضع الرهيب للوجود؛ والذي يكابده الأشخاص العصبيون، عندما تستيقظ الحواس؛ وتنتعش ملكات العقل الراقدة، وتنتفض بقوة.  يسحقنا ويعتصرنا ثقل مميت، يتمدد على كامل أطرافنا ويسري على أثاث الغرفة؛ كما على الأقداح التي نشرب منها، كل شيء يبدو مظلمًا وحالكا، ويسير نحو الانهيار؛ كل شيء ما عدا لهيب المصابيح الحديدية السبعة؛ التي كانت تضيء عربدتنا.  حيث كان اللهيب يتصاعد في خطوط رقيقة؛ ويبقى على هذا النحو شاحبًا وساكنا. وكان كل منا، نحن الجالسين حول المائدة الآبنوسية، والتي حولها بريق اللهيب إلى مرآة؛ يتأمل فيها اصفرار محياه ووميض العيون القلقة لرفاقه، لكن ومع ذلك؛ كنا نضحك مبتهجين ومسرورين على طريقتنا الخاصة، والتي كانت بشكل هستيري، كنا نغني أغاني الجنون، ونشرب كثيرا، وإن كان النبيذ الأحمر يذكرنا بلون الدم، كان يقاسمنا الغرفة شخص ثامن؛ هو الشاب زوئيلوس Zoïlus، كان هو الميت المكفن والممد على طوله؛ جني هذا المشهد وشيطانه. للأسف؛ لم يكن يشاركنا لهونا وابتهاجنا، سوى أن وجهه الذي شنجه الشر، وعيناه اللتان لم يٌخمِـد الموت فيهما إلا نصف لهيب الطاعون، كانتا تبدوان وكأنهما مهتمتان بفرحنا بالقدر ذاته الذي يستطيع الموتى أن يهتموا بفرح من هم على وشك الموت. غير أنني أنا وانوس Oinos، أحسست أن عيني الميت موجهة نحوي، حاولت أن لا أفهم ملامحها القاسية، وكنت بدل ذلك أحملق في أعماق مرآة الأبنوس، غنيت بصوت عالٍ ورقيق أغاني الشاعر تيوس Téos. لكن تدريجيًا توقف غنائي، وصدى أصداءه، وأصبح يتدحرج بين الستائر السوداء المسدلة إلى أن يتلاشى ضعيفا وغير واضح. لكن ها هو يطلع من بين هذه الستائر السوداء، والتي تلاشى فيها صدى أصداء غنائي، يظهر ظل، داكن لا شكل له؛ ظل أشبه بذاك الذي يمكن للقمر، عندما يكون منخفضًا في السماء، أن يرسمه من جسد الإنسان. لكنه لم يكن ظل إنسان أو ظل إله أو ظل أي كائن آخر معروف. وأخيرا، وبعد أن اهتز لبرهة قصيرة بين الستائر، بقي ظاهرا ومستقيما على سطح الباب النحاسي، لكن الظل كان غامضًا، وبدون شكل، وبلا معالم محددة، لم يكن ظل إنسان، ولا ظل إله، ولا ظلً إله اغريقي، أو كلداني، أو أي إله مصري. واستقر الظل على الباب العالي النحاسي، وبالضبط تحت الإفريز المقوس، ولم يكن يتحرك، ولم يتفوه بكلمة، لكن الظل ما انفك يحملق أكثر فأكثر، وبدون أدنى حركة. إن لم تخني الذاكرة، فالباب الذي استقر عليه الظل كان حيث رجلي الشاب الميت زوئيلوس Zoïlus، لم نجرؤ نحن الرفاق السبعة؛ حينما رأينا الظل؛ وهو يخرج من بين الستائر، أن نحملق فيه، بيد أننا طأطأنا عيوننا وتابعنا التحديق في أعماق مرآة الأبنوس، وفي الأخير؛ غامرت أنا وانوس Oinos بالهمس ببضع كلمات، وسألت الظل عن اسمه ومكان إقامته. فأجاب الظل: أنا الظل وبيتي بجوار مقابر بتوليمائيس Ptolémaïs، والقريبة جدًا من تلك السهول الجهنمية المظلمة التي تحيط بقناة شارون المدنسة.

حينئذ انتفضنا نحن الرفاق السبعة من الهلع والرعب، وقفنا نرتجف مذعورين، ذلك لأن نبرة صوت الظل لم تكن نبرة صوت واحد، بل كانت مزيج نبرات أشخاص عديدون؛ وكان هذا الصوت يتغير بين مقطع لآخر، ويصل آذاننا غامضا ومبهما، ومقلدا نبرات معروفة ومألوفة لآلاف من الأصدقاء كانوا لنا واختفوا.

 

[1] – قصة قصيرة من تأليف الكاتب الأمريكي إدغار آلان بو Edgar Allan Poe

المصدر: https://beq.ebooksgratuits.com/vents/poe-2.pdf

  1. pp. 484 – 484

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *