مجدي دعيبس يغوص في قضايا مجتمعه …بوليسياً
سلمان زين الدين
يتّخذ الروائي الأردني مجدي دعيبس، في روايته الخامسة “الحورانية” (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت) من البوليسي إطاراً للمحتوى الاجتماعي والسياسي والديني.
من خلال التحقيق في جريمة القتل التي تطاول المحامي والناشط السياسي صلاح عثمان، يطرح الكاتب أسئلة الحب العاطفي، والقمع الفكري، والاعتقال السياسي، والفساد الإداري، والخواء الاجتماعي، والجشع المالي، والتشدّد الديني، في العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية.
وبذلك، لا تكون البوليسية غاية بذاتها بل وسيلة إلى غايات أخرى، دون أن يلغي ذلك العلاقة الجدلية بين الإطار والمحتوى، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ويشكّل الأوّل، في بعض تمظهراته، جزءاً من الثاني، في الوقت نفسه.
فضاء ريفي
تدور الأحداث في قرية “الحورانية” من أعمال مدينة إربد الأردنية، خلال ثمانينات القرن الماضي، وبالتحديد بين عامي 1982 و1986، أي أنّنا إزاء فضاء ريفي زراعي شعبي، يؤمن بالدفائن واللقى، ويشغله هاجس العثور على الذهب دون تمييز بين متعلّم وأمّي، وإزاء لحظة تاريخية حبلى بالتحوّلات، تتزامن مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وأحداث حماة السورية، واندلاع الحرب العراقية- الإيرانية، وما أفرزته من انقسامات دينية وسياسية.
غير أنّ تأثير هذه اللحظة على مجرى الأحداث يقتصر على ظاهرة التشدّد الديني في نهايات الرواية التي تنخرط فيها مجموعة من الشخوص، ذوي الأدوار المتفاوتة بين شخص وآخر، دون أن يكون هناك شخصية محورية تتمحور حولها الأحداث، فالرواية هي رواية أسئلة وليست رواية شخصية. وعليه، تجمع بين أبي سليم البقّال، ويمين بحرو الشابّ الوسيم، وأحمد البلزم أستاذ اللغة العربية، وسليمة الشابّة الجميلة المتمرّدة على النظرة التقليدية للمرأة، وصايل الوادي صاحب الابتسامة الماكرة والنظرة المرتابة، ومحمود الساري صاحب القلب الأسود، وصلاح عثمان المحامي والناشط الشيوعي، ومروان سالم الموظّف الفاسد، وكريم الشابّ المتديّن، والشيخ خالد المعاطي إمام المسجد التقليدي، والشيخ الأفغاني الذي ينقل إلى القرية الأفكار الدينية المتشدّدة، وغانم الغانم المحقّق، وعليا الزوجة العاقر، وحسني الشاب المتسرّب من المدرسة والنادم على فعلته، وأخته فادية الجريئة في طرح المسائل النسائية. على أنّ حضور هذه الشخوص في النص يتفاوت من شخص إلى آخر، ويتراوح بين الهامشية والفاعلية. ولعلّ الحضور الأفعل بينها هو الجماعي الذي تمثّله خماسية: بحرو والبلزم وعثمان والوادي والساري، الذين يجمع بينهم اهتمامهم المشترك بالبحث عن الذهب وتُراودهم احلام اليقظة في حال العثور عليه، وهو اهتمام يبلغ حداًّ مَرَضياً عند بعضهم ويتسبّب في مقتل أحدهم، وهو ما يشي به الإطار والمحتوى في تجادلهما الروائي.
الإطار والمحتوى
يشكّل العثور على المحامي صلاح عثمان، ذات صباح، مطعوناً في منزله والتحقيق في الجريمة الإطار الذي تجري فيه الأحداث.
وإذ توحي هذه الواقعة أننا إزاء عمل بوليسي، تأتي مجريات السرد لتبدّد هذا الانطباع، ذلك أنّ حضور الجريمة والتحقيق فيها في النص هو حضور ضئيل ومتقطّع، ولا يشغل حيّزاً كبيراً في المتن الروائي، ما يبقي الواقعة في الحيّز الإطاري. أمّا ما يتعلّق بهذه الشخصية من وقائع النضال والاعتقال فيدخل في المحتوى الروائي، وبذلك، تشكّل حياتها جزءاً من المحتوى، ويشكّل مقتلها الإطار.
فالهمّ الذي يشغل الرواية هو التحوّلات الحاصلة في فضاء ريفي زراعي أردني، في لحظة إقليمية حافلة بالأحداث. وهو ما يتمّ التعبير عنه، على لسان أبي سليم البقّال، مخاطباً المحامي صلاح عثمان بالقول: “الأحوال تغيّرت كثيراً يا أستاذ. الأولاد والبنات يذهبون إلى الجامعة ويدرسون مع بعضهم بعضاً. الزراعة لم تعد كما كانت. الفلاح ترك الأرض وصار يبحث عن مصدر رزق آخر. الناس كثروا، وما في عمل يترزّقون منه. تصوّر يا أستاذ صلاح؛ صار في القرية ناس تنام بالجوع على معدة فارغة. تغيّرت أمور كثيرة. سقى الله تلك الأيام” (ص24).
أسئلة الرواية
هذه التحولات تتمظهر في الرواية من خلال مجموعة من الأسئلة يطرحها المحتوى الروائي، بدءاً من العاطفي، مروراً بالاجتماعي والسياسي، وانتهاءً بالديني.
وهي أسئلة يرتبط بعضها ببعض، ويُفضي أحدها إلى الآخر، وقد أفرزها فضاء ريفي يتماسّ مع فضاء مديني ويتأثّر بآخر إقليمي، وجميعها آخذة بالتحوّل، بشكلٍ أو بآخر. ولعلّ رصد تمظهرات الأسئلة المطروحة من شأنه تفسير هذا التداخل بين الفضاءات الثلاثة.
يتمظهر السؤال العاطفي في علاقة الحب التي تجمع بين يمين بحرو، الشاب اليتيم الوسيم الذي فقد والديه صغيراً وربّته جدّته، وسليمة، الشابّة الجميلة القوية المتمرّدة على النظرة التقليدية للمرأة في مجتمع محافظ؛ وهذه العلاقة تبدأ في الصغر بانجذاب سليمة إلى يمين اللطيف النظيف الذي يحسن معاملتها وتلاحقه مثل ظلّه وتتحوّل إلى قطّته الصغيرة، وتنمو في لقاءات عابرة في دكان أبيها ينتابها فيها الارتباك والخجل، وتبلغ الذروة حين تُقدم على اقتحام النار التي تأكل منزل يمين وتنقذه من موت محتّم وسط ذهول الآخرين الذين لم يجرؤ أيٌّ منهم على إنقاذه، وتُتوَّج بالدعوة إلى حفل زفاف العروسين في نهاية الرواية. وهذا السلك تبدأ به الرواية وتنتهي به، في إشارة روائية إلى أهمّية الحب في حياة الإنسان، وإلى عدم تورّع المحبّ عن التضحية بنفسه من أجل حبيبه، وإلى أنّ الحب بقي بمنأى عن التحوّلات السلبية، ما يطرح واقعية هذا السلك على بساط النقد.
يتمظهر السؤال الاجتماعي في “الحورانية” في اللقاءات الخماسية بين يمين بحرو وصايل الوادي ومحمود الساري وأحمد البلزم وصلاح عثمان، التي تتمحور حول البحث عن الذهب، وفي الحفريات التي يقومون بها للعثور عليه، وفي أحلام اليقظة التي تراود كلاًّ منهم. وهي، إن دلّت على شيء، إنما تدلّ على واقع مسدود، تعتوره أعطاب الفقر المادي والخواء الاجتماعي والإيمان بالخوارق والدفائن واللقى. ولعلّ هذه الأخيرة تشكّل تعويضاً عن انسداد الواقع.
والمفارق أنّ هذه الحالة ينخرط فيها الأمّي والمتعلّم في الوقت نفسه، وأنّها هي التي تدفع محمود الساري الجشع الذي يظن أنّ المحامي قد عثر على الذهب إلى طعن الأخير وإردائه قتيلاً، فيذهب ضحية الجهل والجشع والطمع.
هنا، يُسجّل للكاتب قدرته على المناورة والإيهام، ففي الوقت الذي يوهم فيه القارئ أنّ الجريمة المرتكبة قد حصلت بدوافع سياسية أو دينية، يفاجئه بأنّ الدافع هو مالي ليس إلاّ، ولم تكن الإشارات الخجولة إلى مثل هذا الاحتمال كافية لتجعل القارئ يطرحه في الحسبان.
ولعلّ التمظهرات التي يتخذها السؤال الاجتماعي في الرواية ناجمة عن ترك الزراعة والابتعاد عن الأرض والبطالة، وهي تحولات سلبية بطبيعة الحال.
يتمحور السؤال السياسي في الرواية حول شخصية المحامي صلاح عثمان، وهو الناشط في أوساط الشيوعيين الذين تلاحقهم السلطة. ويتضح في اعتقاله مرّات عدّة، وتنقّله بين السجون، وتعرّضه للتعذيب، ودروس السجن السلبية والإيجابية، وقدرة المؤمن بقضية معيّنة على الصمود والتضحية في سبيلها.
وإذا كانت هذه الوقائع كثيراً ما تتمّ في إطار تقنية الاسترجاع من قبل يمين، لا سيّما خلال مثوله بين يدي المحقّق في قضية مقتل المحامي، فإنّ كمّية الوقائع المسترجعة لا تتناسب أحياناً مع الوقت الذي تتمّ فيه هذه العملية، إذ كيف يتّسع الزمن الفاصل بين سؤالين يطرحهما المحقّق لاسترجاع المحقَّق معه ما يغطّي خمس صفحات من الرواية، على سبيل المثال؟
على أي حال، هذا كله يعكس القمع السياسي والتضييق على حرّية التفكير والانتساب إلى الأحزاب السياسية في العالم المرجعي للرواية. وهي ظاهرة مستشرية في جميع أنحاء العالم العربي.
السؤال الأخير الذي تقتضي الإشارة إليه في الرواية هو السؤال الديني، ويتمّ طرحه من خلال شخصيات ثلاث، هي الشيخ خالد المعاطي والشيخ الأفغاني والشاب كريم؛ يمثّل الأوّل الصورة التقليدية لرجل الدين، ويقوم بتطبيق الشعائر من خلال المسجد الذي يؤمّه، غير أنّ تقليديته لا تحول دون الوقوع في فخّ الشيخ الأفغاني الطارئ على الفضاء الديني بأفكاره المتشدّدة، فيتحوّل الأول إلى أداة له ينفّذ تعليماته، ما يخرج بالممارسة الدينية عن مقاصدها الأصلية ويعرّضها للسقوط في درك الإرهاب، وهو ما يرفضه الشاب المتديّن كريم الذي يصدّر عن وعي ديني متقدّم، على صغر سنّه، ويرفض دعاوى الأفغاني المتشدّد التي ليست هي من الدين في شيء.
خطاب ما بعد حداثي
هذه الأسئلة وغيرها يطرحها دعيبس في خطاب روائي تجريبي، ما بعد حداثي، يطيح فيه بخطّية المسار، وكرونولوجية الزمن، ووحدة الراوي، وهرمية البناء، ممّا نقع عليه في الرواية التقليدية.
ويضعه في 36 وحدة سردية، يعهد بمهمّة رويها إلى راوٍ عليم بوتيرة 17 وحدة، وإلى ثلاثة عشر راوياً مشاركاً بوتيرة تتراوح بين وحدة واحدة، في الحدّ الأدنى، وأربع وحدات، في الحدّ الأقصى.
ومن ثم يروح ينتقّل بين الوحدات المختلفة بحركة مدروسة، يتمّ فيها تقديم الجرعات الحدثية بمقادير محدّدة، ما يجعلنا إزاء نصٍّ متنوّع، بعيد من الإطالة والإملال.
هكذا، يعبّر دعيبس عن فضاء تقليدي بخطاب ما بعد حداثي ما يطرح سؤال الملاءمة بين الحكاية والخطاب، وهي مسألة مشروعة، برأيي، تضيف إلى الرواية ولا تنتقص منها.
على أنّ سؤال الملاءمة يتحقق في اللغة الرشيقة، المتموضعة في منزلة وسطى بين التقرير والإيحاء، المطعّمة بالأمثال الشعبية والتراكيب المحكية، فتشكّل خير حاضنٍ للحكاية، وتتناسب مع الفضاء الروائي المرصود. ذلك كلّه يجعل “الحورانية” نصاًّ مستحقاًّ للقراءة، لن يعود قارئه من الغنيمة بالإياب.
- عن النهار العربي