(ثقافات)
أحمد مطر… شاعر السخرية والمرارة!!
زياد أحمد سلامة
مقدمة
“كيسٌ من الجلدِ أنا
فيه عظامٌ ونَكَدْ
فوهتهُ شُدت بحبلٍ من مَسـَدْ
معلقٌ بين السماءِ والثرى
في بلدٍ أغفو
وأصحو في بلـدْ! ”[1]
****
بهذه الأسطر الشعرية القصيرة والقليلة من قصيدة بعنوان “مواطن نموذجي” يُعَرِّف أحمد مطر نفسه، وبها يُقدِّم نفسه للقراء!
شاعر نسيج وحده، حمل هموم الأمة حيثما رَحَلَ ورُحِّل، وحيثما هاجَر وهُجِّر، مزج السخرية من الواقع المر الذي تحياه هذه الأمة بمرارة هذا الواقع!
وماذا في هذا الواقع سوى الاستبداد والقمع والظلم وكتم الأنفاس والفساد والإفساد والانبطاح أمام الأعداء.
حقاً إن “أحمد مطر” هو ضمير هذا الأمة والشاهد على فجائعها وآلامها وآمالها، وإن كان صديقُه وزميله في القهر والحسرة والتهجير والمنفى (حنظلة) قد أدار ظهره للناس محتجاً على كل شيء، فإنه ظل يواجه هذا العالم بلسان حادٍّ يقول الحق الذي يقطر بالألم.
أحمد مطر غدا شاعر القضية الواحدة، قضية الحرية ومحاربة الاستبداد، وشاعر المقهورين، وغدا شوكة في حلوق الفاسدين بشتى أشكالهم وصورهم.
أحمد مطر، غدا شاعر “الإبيجرام” أي شاعر (القصيدة الموجزة)، التي في أسطر قليلة تلخص قضية قائمة بذاتها، فصار هذا الأسلوب في صياغة قصائده عَلَمَاً عليه، حتى إن القارئ الذي قرأ بعضاً من قصائد مطر سيعرف أي قصيدة تُعرض عليه أنها لأحمد مطر من خلال أسلوبها ونظمها ونكهتها المليئة بالتهكم والمرارة.
لقد تقاسم أحمد مطر مع صديقه ناجي العلي الغرفة ذاتها في جريدة القبس، كما تقاسما محاربة ومقاومة الظلم والعسف والتهجير والقهر والاضطهاد والقتل تلو القتل… مات ناجي واقفاً وبقي شوكة في حلوق أعداء الآمة… وبقي أحمد مطر يحمل القضايا نفسها ويقارع الطغاة وينشد يوماً مشرقاً تعم شمسه أرجاء هذا العالم المظلم.
أحمد مطر؛ إنسان حقيقي أم قناع”!
“نظرًا لحياته المحفوفة بالغموض واختفائه عن الأعين حتى في البلاد التي اغترب فيها؛ إلى جانب سُبُل الخفية والسريّة التي تمت بها نشر وانتشار شعره وأعماله فـ تارة يعتقد البعض أن اسم «أحمد مطر» هو اسم مُستعار؛ وتارة ينسبونه إلى جنسياتٍ عربية مختلفة؛ فـقد كان شعر أحمد مطر مُطاردًا منفيًا كـ قائله. إلا أن الشاعر قد أكد أن اسمه ليس مستعارًا في أكثر من مناسبة، وبيَّن حقيقة جنسيته -وفق بطاقة الهوية والجنسية-وأنه ينتمي إلى العراق، الذي يمثل جزءًا من وطنه الكبير الممتد من المحيط إلي الخليج”.[2]
“أحمد حسن مطر”، شاعر عراقي ولد يوم (1/1/1954) في قرية “التنومة”، إحدى نواحي قضاء شط العرب في البصرة، وهو الابن الرابع بين عشرة أخوة من البنين والبنات، وهي كما يصورها تنضج بساطة ورقة وطيبة وفقراً، مطرزة بالأنهار والجداول وبيوت الطين والقصب والبساتين وأشجار النخيل التي لا تكتفي بالإحاطة بالقرية، بل تقتحم بيوتها، وتدلي سعفها الأخضر واليابس ظلالاً ومراوح، وقد عاش طفولته بالقرب من “بستان صفية”، و “نهر الشعيبي”، وغابات نخيل “كرولان”، التي تشكل أهم عناصر القرية في وجدانه، ثم انتقل في صباه عبر النهر ليقيم في محلة الأصمعي أن تنتقل أسرته وهو في مرحلة الصبا، لتقيم بمسكن عبر النهر في محلة الأصمعي.[3] وكانت تسمى في بداية إنشائها بـمحلة “الومبي” نسبة إلى اسم الشركة البريطانية التي بنت منازلها، ووزعتها على العمال، ولعل من طريف القول هنا أن أحمد مطر غالبا ما كان يردد: “من الومبي للومب لي” في إشارة إلى اسم المكان الذي حل به من بريطانيا.[4] وتتميز البصرة بغابات النخيل الواسعة، التي تُقدر بثلاثة وثلاثين مليون نخلة، وتحتوي المدينة على مصانع تعليب التمور الصالحة للتصدير، وقراها ذات مظهر فقير، يعتمد سكانها في الغالب علي صيد الأسماك وزراعة الرز، ويعيشون في بيوت من قصب المستنقعات، ويربون الجاموس.
[تبدلت هذه الصورة كليَّاً منذ أن غادر أحمد مطر هذه الأجواء، لا سيما بعد الاحتلال الأمريكي وحلفائه عام 1991 وأصبحت البصرة تبكي نخيلها ودجلتها وأبناءها وآثارها وسيَّابها ومكتباتها وتاريخها … ولسان حال البصرة، بل والعراق، بل والعالم العربي، ومن ورائه العالم الإسلامي يقول ما قال السياب:
“ما مرَّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوعْ.
مطرْ…
مطرْ…
مطرْ…”[5]
***
فلا نامت أعين الجبناء].
أمضى “مطر” طفولته وصباه في أحضان الفقر المدقع والحرمان والتعثر بالدراسة، فلجأ إلى مطالعة الكتب ليهرب من مطاردة الفاقة، ويُكون من خلالها سلاح الكتابة والإبداع دفاعاً عن نفسه.[6]
أكمل أحمد دراسته الابتدائية في مدرسة العدنانية، ولشدة سطوة الفقر عليه قرر تغيير نمط حياته لعل فيه راحة أو خلاصا من ذلك الحرمان، فسارع للانتقال إلى بغداد، وبالتحديد إلى منطقة الزعفرانية ليعيش في كنف أخيه الأكبر علي”.[7]
وفي بغداد “وجد مكتبة أدبية فيها كم كبير من كتب الأدب الشعر والروايات والمحلات، وكان يشتري من مصروفه اليومي مجلات (سمير) و (ميكي ماوس) التي تأتي من مصر، كان أحمد يقرأها حتى إنه عمل لنفسه مجلة أدبية هو مصممها وخطاطها ورسامها وكاتبها وشاعرها”.[8]
أحمد مطر متزوج وله بنت واحدة وثلاثة أولاد ذكور”. [9] وهم: علي، دكتوراه مونتاج سينما ومسرح، حسن، ماجستير مونتاج سينما ومسرح، زكي، مازال طالبا في الثانوية، وفاطمة، تدرس الأدب المقارن في إحدى الجامعات البريطانية.
الخروج من العراق
لم تكن الأسرة على وفاق أو ولاء لحزب البعث،[10] فقد تعرضت سيارة أخيه (زكي) لحادث سير قال عنه بعد ذلك بأنه مدبر للتخلص منه، وفي ذلك الوقت شُنِقَ أخوه الآخر (خالد) ظلماً بسبب قضية سياسية”. [11]
انخرط أحمد في خدمة الجيش العراقي في محافظة واسط لمدة سنتين، وفي الجيش عرفوا به شاعراً في زمن المحافظ “محمد محجوب” الذي أعدمه صدام لاحقاً، طلبوا منه أن يكتب في ذكرى ثورة الثامن من شباط عام ١٩٦٣ ثورة البعث ضد عبد الكريم قاسم، لكن أحمد رفض فسجنوه في معسكر واسط في “بنكله” أو كرفان من “الجينكو / الزينكو”، وزاره في السجن أخوه على وقد كتب قصيدة في السجن نشرت بعد ذلك في مجلة “رسالة الإسلام” في بغداد وهذه بعض أبياتها:
“ويك عني لا تلمني
فأنا اللوم غريمي
وغريم الدهر بأسي
وأنا الثابت عزمي واعتزاري
وأنا كل الرزايا جاثمات فوق صدري
فدع اللوم ودعني
فأنا أعرف نفسي
وضع الأغلال في رسغيَ
فالأغلال ليست من نصيب الجبناء
وإذا الأصفاد في رسغيَ
فالفكر بعقلي يتحدى كل صنف وبلاء
وأنا من عوَّد النفس على الصبر
وذاقت نفسُه كل داء
إن للجرح غناء”
وبعد أن أنهى الخدمة العسكرية تحول إلى المشاركة في الاحتفالات والمناسبات الدينية في البصرة والمعقل ومحلة الهادي، مما تنبه إليه رجال الأمن البعثي وبدأوا يراقبونه ويضايقونه، خصوصاً أنه كان يكتب لافتاته الثورية لمواكب الطلبة ومسيراتهم في ذكرى استشهاد الحسين بن علي، وفي عام ١٩٧٠ أقيم احتفال في جامع الآبُلَّة الكبير بمناسبة تخريج دورة تقوية لطلاب المتوسطة والإعدادية المكملين، ويقول الكاتب والصحفي العراقي: فالح القرشي “وكنتُ عريفَ الاحتفال آنذاك وقدمتُ أحمد مطر شاعراً في قصيدة ثورية هذه بعض أبياتها:
“قيِّد يدي وجد في إرغامي
وأحبس لساني وأرتهن أقلامي
وأخنق قصائدي التي أبت الركوع
لفكرك المنقوع بالإجرام
زُمَرٌ من اللقطاء والأقزام
تدعى ـ ويا للذل ـ بالحكام”
وأخذ رجال الأمن يحومون لإلقاء القبض على الشاعر أحمد مطر، وكان نقيب الأمن (سامي المياح) قد أمر رجاله بإلقاء القبض على أحمد مطر ـ ويقول القرشي ـ وجاءني الخبر وعبَّرته إلى أحمد وهو في المنصة الشعرية، وقلت له غادر المنصة من الباب الخلفي حيث هناك سيارة تنتظرك، وفعلا أنهى القصيدة وبسرعة خرج من الباب الخلفي للمسرح وركب سيارة أخيه وأفلت من أنظار جلاوزة الأمن. ثم دبر شقيقه ظاهر أمر هروبه إلى الكويت ليستقبله الشيخ (باقر خريبط) صاحب جريدة “صوت الخليج” وعمل في هذه الجريدة محرراً ورساماً وكاتباً وشاعراً ومصمماً، وكانت الجريدة هي محل عمله ومسكنه.
في الكويت واجه حياة اللاجئ، الذي لا يسهل عليه أن يثبت هويته، فقد عاش هناك عدة سنوات لا يستطيع الحصول علي رخصة القيادة، لأنه يرفض التنازل عن مواقف مبدئية كثمن للحصول على حقه الطبيعي في الحصول علي أوراق رسمية تثبت هويته، وتُسهل عليه الحصول على رخصة القيادة، ولذلك راح يسير علي قدميه في بلد يمكن لأفقر كادح فيه أن يمتلك سيارة، وقد عاش في بيت متواضع يكلفه إيجاره نصف مرتبه في بلد القصور والعمارات الفارهة.”[12]
بعد عمله في جريدة “صوت الخليج” انتقل للعمل في جريدة “القبس” الكويتية محرراً وأخذ ينشر فيها قصائده تحت عنوان “لافتات”، وعاش في الكويت ولم يتنازل عن مبادئه ولم يمدح حاكماً أو شيخاً، وأخذت لافتاته الشعرية ينتبه إليها الناس لجرأتها وثوريتها وبدأ الناس والأدباء يلتفتون لولادة شاعر ثوري قريب من لغة الجماهير الفقيرة والمضطهدة، وكان معه في الجريدة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي وهو الآخر رسام ساخر يسخر من حكام العرب والواقع العربي”.[13]
عمــــــــــــــــــــــــــــــــــله
بعد أن ضاقت عليه العراق بما رحبت، غادرها أحمد مطر إلى الكويت لعله يجد فيها فرجة يتنفس فيها حريَّة يستطيع التعبير من خلالها، وهناك وكما يقول صديقه الكاتب الدكتور فالح القريشي: عمل “مطر” في صحيفة “الخليج العربي”، ثم انتقل إلى صحيفة “القبس”[14] حيث عمل محررًا ثقافيًا وفي الوقت نفسه عمل معلماً للصفوف الابتدائية في مدرسةٍ خاصة وكان في منتصف العشرينات من عمره، ومضى يُدوّن قصائده، وسرعان ما أخذت طريقها إلى النشر، فكانت “القبس” الثغرة التي أخرج منها رأسه، وباركت انطلاقته الشعرية الانتحارية، وسجّلت لافتاته دون خوف، وساهمت في نشرها بين القرّاء”. [15]
استمر أحمد مطر في نشر شعره ولافتاته الساخرة والساخنة، وطُبع ديوانه ‘لافنات 1″ في الكويت (عام 1984) وتلقفته الأيدي لأن صوته الشعري جديد، غير مألوف فهو أول من أدخل اللافتات في الشعر العربي واللافتات قصائد تشبه الإعلانات وبيانات الاتهام للحكام والطغاة، وقد أعيد طبع ديوانه الأول في تونس والمغرب واستقبله القراء العرب كشاعر شاب متمرد ورافض وساخر مما يجري في الساحة العربية، من هزائم وطغيان واستبداد وكثرة السجون والمعتقلات للأحرار”.[16]
ظل أحمد مطر وصديقه الرسام ناجي العلي ينشران في “القبس” ما يجيش في نفسيهما تعبيراً عن هموم الأمة كلها، إلى أن ضاقت الصحيفة بما ينشرانه من قصائد ورسومات يسخران فيها من الكثير من حكام العرب، لا سيما بعد أن ازدادت الضغوط على الصحيفة وأسرة تحريرها، فتم إخراجهما من الصحيفة في الكويت، ومن الكويت نفسها، وقد تدخل النائبات الكويتيان آنذاك (عبد المحسن جمال وعبد الصمد).[17] ولكن الإبعاد تم.
انتقل الصديقان أحمد مطر وناجي العلي إلى لندن عام 1986 بسبب عدم نزولهما عن مبادئهما ومواقفهما ورفضهما التقليل من الحدة في الشعر وفي الرسم في «القبس»، [18]وهو أمر لا تستسيغه الكويت، وكانت المنطقة تمر بحرب طاحنة، إلا أنه بقي يعمل في مكاتب القبس الدولية، ومن لندن سافر أحمد مطر إلى تونس ليجري فيها اتصالات مع كتابها وأدبائها، فرجع قافلاً إلى لندن ليلقي فيها عصا الترحال ويستقر فيها بعيدًا عن وطنه، وسرعان ما تسوء علاقته مع القبس، ولا سيما بعد (أن فتحت القبس له قوس الخيبة مع قصيدة «أعد عيني» وقصيدة «الراحلة») فصارت «الراية» القطرية متنفسه علي العالم بعد أن نحرت الرقيب على أعتاب لافتاته كما يقول أحمد مطر إكراما للحرية، وعن هذا الموضوع يكتب أحمد مطر لافتة بعنوان (حيثيات الاستقالة) جاء فيها:
“أيتها الصحيفة
الصدق عندي ثورة.
وكذبتي
إذا كذبت مرة
ليست سوي قذيفه!
فلتأكلي ما شئت، لكني أنا
مهما استبد الجوع بي
أرفض أكل الجيفة.
أيتها الصحيفة
تمسحي بذلة
وانطرحي برهبة
وانبطحي بخيفه.
أما أنا..
فهذه رجلي بأم هذه الوظيفة!” [19]
في لندن أخذا يعملان في مكاتب القبس، ثم عمل أحمد مطر في جريدة “الراية” القطرية. وهناك راح يكتب تحت عنوان “لافتات” و “حديقة الإنسان” بالإضافة إلى مقالات في “استراحة الجمعة”.[20]
أعماله الشعرية والنثرية:
أصدر الشاعر أحمد مطر عدداً من الأعمال الشعرية منها:
لافتات (1)، 1984م.
لافتات (2)،1987م.
ما أصعب الكلام، 1987 (قصيدة إلى ناجي العلي)
لافتات (3)،1989م.
إني المشنوق أعلاه، 1989
ديوان الساعة، 1989
العشاء الأخير لصاحب الجلالة إبليس الأول، 1990
لافتات (4)،1992م.
لافتات (5)،1994م
لافتات (6)، 1996م
لافتات (7)،1999م
إني مشنوق أعلاه -1989م
ديوان الساعة 1989م
لافتات متفرقة لم تُنشر في ديوان بعد.[21]
ديوان شعره: لأحمد مطر ديوان كبير مطبوع؛ طبعه الشاعر في لندن على نفقته الخاصة ونشره في مكتبتيْ الساقي والأهرام، تضم المجموعة الكاملة سبع دواوين بعنوان لافتات (لافتات 1 لافتات 2 لافتات 3 …)، وتضم بعض الدواوين الشعرية الأخرى، مثل: (إني المشنوق أعلاه، ديوان الساعة)، فضلا عن بعض القصائد المتفرقة التي لم يجمعها عنوان محدد، مثل: (ما أصعب الكلام، العشاء الأخير، لصاحب الجلالة، إبليس الأول)، بالإضافة إلى قصائد أخرى نشرها وما زال ينشرها الشاعر على صفحات جريدة الراية القطرية.[22]
وهناك طبعة من الأعمال الشعرية لمطر بعنوان “الأعمال الشعرية” صادرة عن دار العروبة في بيروت، عام (2011)، وهناك مجموعة أخرى بعنوان “ديوان أحمد مطر” قام أحد الهواة والمعجبين بجمع عدد كبير من قصائد الشاعر وطبعها.
عندما أُعيد طباعة ديوانه الأول في المغرب، وُزِّع منه مليون ومئتا ألف نسخة، ثم انتشرت شهرته وقصائده في كافة الدول العربية.[23]
أدبيات أحمد مطر غير الشعرية؛ مجموعة من المقالات المتنوعة للكاتب الكبير أحمد مطر، يتحدث فيها عن أمور متعددة منها النفط مقابل البغاء، مفتى الهلال، اسلام أباد، لا عزاء للسيئات، الحكيم الأخضر، أصدقاء رائعون، فالمقالات متنوعة ومعظم قراءتها لا تخلو من السخرية اللاذعة التى يجيدها الكاتب ويحترفها، حيث يتميز الكاتب بحميته على حال البلدان العربية والأمة الاسلامية، وما يتميز به أيضاً هو أن أغلب أدبيات الكاتب غالباً ما تكون قصيرة ولكنها تؤدى إلى المعنى الذى يريد الوصول إليه.
البحث عن “موهبة”!
كتب أحمد الشعر في الصف السادس الابتدائي وهو بعد لم يعرف بحور الشعر العربي وعلم العروض وقد كتب قصيدة وبعثها إلى الأديب مزهر حسن، وهو خريج الدفعة الأولى من جامعة البصرة / قسم اللغة العربية، وتتكون من (17) بيتاً شعرياً من بحر الرمل وعندما سأل من كتب هذه القصيدة، فقيل له طالب عمره (14) عاماً لم يصدق وقال هذه قصيدة متكاملة من حيث الوزن والقافية والصورة الشعرية ومنها:
مرقت كالسهم لا تلوي خطاها *** ليت شعري ما الذي اليوم دهاها
أطرقت للأرض ماذا تبتـــغي *** هل دلالٌ أم حيــــــــاءٌ قد طواها
كذلك تأثر “أحمد” بوالدته، فقد كانت شاعرة شعبية فطرية تنعى لفقد الأهل والأحبة وكانت تؤلف كلاماً وقصائد رثاء في أهلها وموتاها، وتقول شعراً حزيناً على مأساة أهل البيت وأحزان كربلاء واستشهاد الامام الحسين ومعاناة زينب وأم البنين (رضي الله عنهم).”[24]
في سن الرابعة عشرة، بدأ أحمد مطر كتابة الشعر، ولم تخرج قصائده الأولى عن نطاق الغزل والرومانسية. وظهرت موهبته الشعرية في أول قصيدةٍ كتبها حين كان في الصف الثالث من الدراسة المتوسطة، وكانت تتألف من سبعة عشر بيتًا.[25]
ثم راح أحمد مطر يكتب القصائد في ذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه [26]
في هذه الأثناء راح “مطر” يبحث عن موهبته الأصيلة والكبرى أين تكون؟ فتولع بالنصوص المسرحية والتمثيل المسرحي، واشتغل بالصحافة، وجرَب كتابة القصة القصيرة، التي تظهر شروطها قائمة في العديد من قصائده، بالإضافة إلى ممارسته لرسم الكاريكاتير، الذي مارسه من خلال عمله في الصحافة، ثم تركه فترة من الزمن، ليختبئ في أعماقه، ويضع بصماته على قصائده، ومن الجدير بالذكر أن الشاعر ـ وإن لم يعلن عن ذلك صراحة ـ قد عاد إلي ممارسة هذا الفن، إذ إن العديد من لوحاته ورسوماته تحمل تعليقات على أحداث سياسية ووقائع عربية حديثة العهد”.[27]
وإجابة على سؤال: هل يكتب أحمد مطر القصة أو الرواية؟ هل له فيهما نتاج مطبوع، وتحت أي عنوان؟ أجاب بقوله:
-كنت في بداياتي قد جرّبت كتابة القصة القصيرة، ولا أزال أكتب ما يشبهها، بين الحين والآخر. لكن لم يعد في حوزتي شيء مما كتبته في البدايات، كما لم أفكّر في جمع ما كتبته بعد ذلك في مطبوع مستقل. أمّا الرواية فهي فنّ أحسب أنني قد خلقت لأكون واحداً من أخلص قرائه، أمّا الخوض فيه كتابةً، فهذا ما أشكّ في أنني أهل له. وقال: لا أدري.. ربما سأجرّبه يوماً، إذا وجدت في نفسي الدافع والاستعداد”.[28]
وأخيراً عرف أن ميدانه الفسيح الوحيد هو الشعر، وغير ذلك فهو من باب الشبابيك والنوافذ التي تُفتح على هذا الميدان الذي أجاد فيه وأبدع.
الخلفية الفكرية، وكيف يرى التدين؟
ولد الشاعر في أسرة مسلمة متدينة، وبدأ مشواره الشعري بكتابة قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي “الشاعر يعلن في أكثر من مناسبة انتماءه إلى الحضارة الإسلامية، حيث يقول: “أنا ابن بيئة عربية وربيب حضارة إسلامية، وفي وجداني من آثارها فيض لا يغيض”، وهو يعتز بهذه الحضارة التي يرى أنها ذات فضل على الدنيا ولا سابقة لها في الاستجداء، وهو يعبر في شعره عن هذا التصور من خلال توظيفه لنصوص التراث الإسلامي، وعلى رأسها النص القرآني الذي يمثل في وجدانه المثل الأعلى في البلاغة، والمنهاج الأسمى للحياة، وهو يميل إلى صف الحركات الإسلامية المضطهدة في العالم العربي ويدافع عنها في الكثير من قصائده”.[29]
وتبدو ثقافة الشاعر عريضة واسعة من خلال غزارة إنتاجه الشعري وخصوبته، وهو قد قرأ للعديد من الشعراء القدامى، ومنهم الحسن بن حبيب النيسابوري، (المُفَسِّرُ الوَاعِظُ، صَاحِبُ كِتَاب: “عُقلاَء المجَانين”، المتوفى في ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَع مئَة للهجرة) والمتنبي، والمعري، وأبو تمام، وأبو فراس الحمداني، كما أنه قرأ للعديد من الشعراء العرب المحدثين، مثل: أدونيس، والبياتي، وهو يرى أن الشعر العربي الحديث لم يفقد روح الإبداع والتواصل مع الجماهير، طالما وَجَد الناسُ شعراء مثل نزار قباني، والجواهري، وبدوي الجبل، والسيَّاب، وأمل دنقل، والبردوني، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومظفر النواب. كذلك قرأ للقاص السوري الساخر “زكريا تامر” الذي ينقد الواقع بسخرية مريرة لاذعة.[30] وتكاد تكون سخرية تامر ومطر متماثلتان تكمل أحدهما الأخرى.
كيف يرى التدين؟
في إجابة على سؤال: لماذا يبدو في بعض قصائدك إيمان قوي وفي بعضها الآخر تهكّم على الشرع؟ أجاب: كلاّ، هذا لا يبدو أبداً. لكنه قد يبدو لك إذا وضعت الرجال في موضع الشرع نفسه، وأنا – لإيماني القوي – لا أضعهم هذا الموضع.
وتابع فقال: إنني بدافع غيرتي على الشرع المبتلى، أتهكّم على من يمتطون الآخرة للوصول إلى الدنيا، أولئك الذين يفتحون ألف عين على قِصَرِ الجلابيب، لكنهم لا يلقون حتى نظرة خاطفة على طول ” الأوزار”!
أتهكّم على من يشوّهون جمال دين العدل والرحمة، إذ يقطعون يد سارق الدرهم، ثمّ لا يجدون حرجاً من أن يقبضوا رواتبهم من يد سارق البلاد والعباد!
أتهكّم على من يطالبونني بالسمع والطاعة لأيّ أفّاق لم أبايعه على حكمي، ولأيّ لص لم أبايعه على سلبي، ولأيّ مجرم لم أبايعه على قتلي، ثمّ يحاولون تجميل القباحة بقبح أكبر، حين يباركون لي بعظيم المكسب لأنه لم يمنعني من الصلاة!
وأيّ صلاة بعد هذا ؟!
أيتفق عقلاً أو شرعاً أن أدين للمنكر بالسمع والطاعة، ثم أقوم لأقرأ في صلاتي: {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ؟!
لكلّ فرعون هامانه وقارونه، وفي زماننا هذا، استأثر فرعون بخزائن قارون، وأوقف (الهامانات) بوّابين على أعتاب ظلمه وجوره وفساده، ليعتصروا “الشرع” سوائل قابلة لأخذ أيّ شكل من أشكال أوانيه المستطرقة!
هؤلاء، ليسوا الشرع. هؤلاء هم أعداء الشرع. وأنا، في الواقع، لا أكتفي بالتهكم عليهم، بل أجلد وجوههم بسوط الإدانة، بأقسى مما أجلد الطغاة أنفسهم، ذلك لأن الطغاة إنّما يرتكبون جرائمهم عاريةً، أمّا هؤلاء فإنهم يأتون بما يُعجز إبليس من فنون التفصيل والخياطة، من أجل إلباس تلك الجرائم ثوب الدين”![31]
وعن رؤيته لواقع المسلمين السياسي الحالي وتلاعبه بالإسلام، قال: أما الواقع السياسي الإسلامي فهو مَحْكَمَةٌ تضع القرآنَ في قفص الاتهام وتطلب منه أن يقسم على القرآن أن يقول الحق ولا شيء غير الحق![32]
وحقاً ما قال.
لماذا نكتب الشعر؟!
يقول أحمد مطر: إن الشعر ليس نظاما عربيا يسقط بموت الحاكم، كما أنه ليس بديلا عن الفعل، بل هو قرين له، إنه نوع من أنواع الفنون من مهماته التحريض والكشف والشهادة على الواقع والنظر إلى الأبعد، وهو بذلك يسبق الفعل ويواكبه ويضيء له الطريق ويحرسه من غوائل التضليل، وقديما قال نصر بن سيار[33]: إن الحرب أولها كلام، والواقع إن الكلام محيط بالحرب من أولها إلى آخرها، توعية وتحريضا وتمجيدا، وهذا ما مثله ابن سيار نفسه.
ويتابع قائلاً: لا غني للفعل عن الكلام الصادق المؤثر، لأن غيابه يعني امتلاء الفراغ بالكلام النقيض، ونحن نعلم أن هذا النقيض موجود وفاعل حتى بوجود الصدق، فما بالك إذا خلا الجو تماما؟ وما من مقاومة علي وجه الأرض استغنت بالمقاتل عن الشاعر، كل مقاومة حية تدرك أن لا غني للدم عن الضمير، وتاريخ أمتنا نفسه أكبر شاهد علي أهمية دور الشاعر في الحرب، بل إن المقاتل نفسه طالما شحذ سيفه ولسانه معا، فهو يخوض غمرات الوغي:
وكر مرتجزاً أو طعنه راجزاً ***أو هوىً صريعاً وهو يرتجز
وإذا كان أبو تمام قد قال:
بيض الصفائح لا سود الصحائف *** في متونهن جلاء الشك والريب
فهو قد جعل رأي الشاعر أولا إذ أكد ضمنا أن سود الصحائف هي الدليل المبصر لبيض الصحائف العمياء، وما قاله أبو تمام مواربا قاله أبو الطيب من دون مواربة:
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني
فالشعر مهم لنا نحن العرب، ولولا ذلك لما حفيت أقدام المخابرات المركزية الأمريكية في سعيها من أجل تدميره بأيدي المغول الجدد، وعلى أية حال، فان أحمد مطر ما كان يتوقع أن يحصل التغيير بالشعر فقط، وفي هذا الصدد يقول في لافتة بعنوان (دور):
“أعلم أن القافية
لا تستطيع وحدها إسقاط عرش الطاغية.
لكنني أدبغ جلده بها
دبغ جلود الماشية!
حتى إذا ما حانت الساعة
وانقضت عليه القاضية
واستلمته من يدي أيدي الجموع الحافية
يكون جلدا جاهزا
تصنع منه الأحذية”!
لم يكتف الشاعر بتوجيه سهام نقده ورصاصاته تجاه طبقة الحكام والمسؤولين، بل وجهها كذلك لعامة الناس، وإجابة عن سؤال يقول: لماذا لا يكتب الشاعر لافتات تعرّي الضعف العربي من خلال المواطن والخلل الذي يعيشه، بعيداً عن الحاكم الذي نال النصيب الأكبر من اللافتات؟ بمعنى آخر: أتمنى أن نقرأ لافتات جديدة تعالج سلبيات المواطن العربي حضارياً وفكرياً، والأهم انسلاخه من تراثه المجيد الذي كان العربي بدونه لا يحلم أن يغادر أصنامه وأزلامه. أجاب:
منذ البداية، كنت أُلقي نظرة على الحاكم ونظرة علينا، ولو اطّلعت على جميع قصائدي لوجدت ما تطلبه متحققاً بالفعل.. وإليك مثلاً هذه اللافتات: طبيعة صامتة، يقظة، رقّاص الساعة، الذنب، سواسية، إضراب، المنتحرون، آمنت بالأقوى، السيدة والكلب، خيبة، أوصاف ناقصة، الناس للناس، قانون الأسماك، وردة على مزبلة، تمرّد، شروط الاستيقاظ، بحث في معنى الأيدي، السفينة، نحن بالخدمة، دود الخل، الواحد في الكل، مصائر، الحائط يحتج، شيطان الأثير، أولويات، الحافز، بيت الدّاء.. وغيرها كثير”.[34]
أحمد مطر وقصائد الغزل:
قال في لقاء معه: ” قبل أربعة عشر عاماً، حين واجهت هذا السؤال بكثافة عاتية، نشرت قصيدة (أعرف الحبّ .. ولكن) في مجلة (الناقد) اللندنية،[35] في محاولة مني لتعميق الردّ على السؤال بكتابة شعرية، تبدي حججي واضحةً، وتثبت، في الوقت نفسه، أنني لست عاجزاً عن الطراد في هذا الميدان. وقد مهّدت لتلك القصيدة بمقدمة نثرية قلت فيها:” إنّ كثيراً من الناس الذين يقرؤون شعري، والقارئات بصفة خاصة، يسألني عن أسباب أزمة شعر الحب عندي، أو أزمة نشره، ولا أنسى أنّ نزار قبّاني قد أخذ عليّ، أكثر من مرّة، أن أدفن نفسي حياً، وأنشغل بالحرب دون الحب. وقد أزعجه أن يذهب شبابي دون أن أخوض في هذا اليم الساحر، فأستحضر في النفس الأمّارة.. كلّ شياطين وملائكة الشعر.[36]
دواوين أحمد مطر جميعها تخلو من قصيدة غزل واحدة!!، وعندما سُئل الشاعر عن إمكانية قوله قصيدة الحب وترك الدوران حول موضوع واحد هو الموضوع السياسي أجاب: (إن الأرض تكرر دورانها حول الشمس كل يوم، لكنها لا تكرر نفسها حتى في لحظتين متتاليتين، والشعر العربي يكرر موضوع الحب منذ الجاهلية، والقضية برمتها هي عبارة عن رجل يعشق امرأة، وامرأة تحب رجلا، فهل تستطيع القول إن الموضوع قد اختلف عن هذا يومًا ما؟ إن هذا الموضوع لم ينته بالتكرار، لأن هناك دائما زاوية جديدة للنظر ونبرة جديدة للبوح وثوبا جديدا للمعنى… إني أتساءل ألا يكون الحب حبا إلا إذا قام بين رجل وامرأة؟! أليس حبا حنينك إلى مسقط رأسك؟ .. أليس حبا أن تستميت لاسترداد الوطن من اللصوص؟ أليس حبا أن تحاول هدم السجن وبناء مدرسة؟… إن البكاء على الأهل والغضب على المقاول، هما أرفع أنواع الحب في مثل هذا الموقف).[37]
مقاطع من قصيدة “أعرف الحب ولكن”
“هَـتَـفَـتْ بي إنني مت انتظارا
شفتي جفّت …وروحي ذبلت ….و الجسم غارا
وبغاباتي جراح لا تداوى….و بصحرائي لهيب لا يدارى
فمتى يا شاعري
تطفئ صحرائي احتراقا…ومتى تُدْمِل غاباتي انفجارا
إنني أعددت قلبي لك مهدا…ومن الحب دثارا
وتأملت مرارا… وتألمت مرارا
فإذا نبضك إطلاق رصاص
وأغانيك عويل… وأحاسيسك قتلى… وأمانيك أسارى
وإذا أنت بقايا من رماد وشظايا
تعصف الريح بها عصفا وتذروها نثارا
أنت لا تعرف ما الحب… وإني عبثا مِتُّ انتظارا
**********
رحمة الله على قلبك يا أنثى…ولا أبدي اعتذارا
أعرف الحب ولكن
لم أكن أملك في الأمر اختيارا
كان طوفان الأسى يهدر في صدري
وكان الحب نارا ….. فتوارى
كان شمسا
واختفى لما طوى الليلُ النهارا
كان عصفورا يغني فوق أهدابي
فلما أقبل الصياد طارا
آه لو لم يطلق الحكام
في جلدي كلابا تتبارى
آه لو لم يملؤوا مجرى دمي زيتا
وأنفاسي غبارا
آه لو لم يزرعوا الدمع
جواسيس على عيني
آه لو لم يطبقوا حولي الحصارا
لتنزَّلْتُ بأشعاري على وجد الحيارى
مثلما ينحَلُّ غيم في الصحاري
ولأغمدت يراع السحر في النحر
وفي الثغر، وفي الصدر، وفي كل بقاع البرد والحر”
المواضيع والسمات الفنية لشعر “مطر”!
(أ): الشعر حرٌ أم مقيد:
ابتدأ الشاعر كتابة قصائده بالشكل العمودي المعروف، ولكنه انتقل للكتابة وفق أسلوب “الشعر الحر” ولكن عندما تم اغتيال صديقه الحميم المرحوم “ناجي العلي كتب قصيدة طويلة عمودية هي: “ما أصعب الكلام” وكتب قصيدة “العشاء الأخير لصاحب الجلالة إبليس الأول ” وقصيدة “معلقة القدس في كف بغداد”. وفق الأسلوب العمودي التقليدي، وفي ذلك يقول: أمّا العلاقة بيني وبين القصيدة العمودية فلا أعتقد أنها مشوبة بالجفاء، ذلك لأن قصيدة التفعيلة التي أكتبها هي ابنتها الشرعية التي لا تعدم الوزن ولا القافية، وما دمت ملتزماً بأصول ” العائلة ” فأنا حر في أن أسلك الكلام في ثوب أيّ منهما، حيثما أجد الثوب مناسباً لمقتضى الحال”.[38]
(ب) مطر يبدع في اختراع بحر شعري جديد:
قال الشاعر أحمد مطر عن هذا الأمر: كتبت قصيدة ” ميلاد الموت ” في اليوم الأخير من سنة 1980، على وزن زاوجت فيه بين ” مجزوء الخفيف ” [ﻓَﺎْﻋِﻼﺗُﻦْ ﻣُﺴْﺘَﻔْﻊِ ﻟُﻦ …. ﻓَﺎْﻋِﻼﺗُﻦْ ﻣُﺴْﺘَﻔْﻊِ ﻟُﻦ] و ” المجتث [مستفع لن فاعلاتن ***مستفع لن فاعلاتن] ” وهو معكوس الأول.
وعندما شرعت في الكتابة لم أكن قاصداً إلى ابتكار هذه النغمة، بل كنت أكتب بتوافق موسيقي عفوي، لم أشعر في أثنائه بأي خروج على البحور المألوفة، فلمّا اكتشفت ذلك بعد كتابة البيت الخامس عشر، لم أتوقف، بل مضيت حتى نهاية القصيدة، ممعناً في استمطار هذه النغمة للتعبير عن حالتي النفسية في ليلة رأس السنة الجديدة، حيث عنائي من مرارة الوحدة. وبعد إتمامها تأملتها، فوجدت في اجتماع “مجزوء الخفيف” و”المجتث” إمكانية لاحتواء الشعر بتلقائية، مما يضيف قالباً جديداً لتفاعيل الأبيات مبنياً على التخالف بين الصدر والعجز، على عكس التوافق في البحور المعروفة، فهو:
(فاعلاتن مستفعلن .. مستفعلن فاعلاتن (.
وقد أشرت عند نشرها في الأسبوع الأول من سنة 1981، إلى أنه نظراً لتركيبة التفاعيل في هذا البحر، لا يمكن للشاعر أن يقفّي الصدر والعجز معاً، وذلك لاختلاف تفعيلة “الضرب” عن تفعيلة “العروض”، كما يستحب أن يصيب “الخبن” تفعيلة “مستفعلن” لتكون “مفاعلن”، فذلك يُطرّي النغمة أكثر بحيث لا يحسّ القارئ وقوفاً أو حِدّة في البيت.
ثمّ أنني أسلمت الأمر، بعد هذا، لمقدار قبول أذن القارئ لموسيقى هذه التركيبة، وتركت الحكم للمختصين، فكان الأستاذ الدكتور عبده بدوي أوّل المبادرين إلى عرضها والإشادة بها في مجلة (الشعر) المصرية.
وهذا المقطع الأخير منها:
أهـوَ الحـبُّ أن أرى *** مَنيـّتي في الأمـــــاني؟
كتـمَ الليــــــلُ هَمَّـــهُ ***وهَمَّـهُ أن أُعانــــــــي
ومضى دونَ بضـعةٍ ***مِن لونهِ في كيانــــــي
تتهـجّى وصيَّـتـــــي *** قبلَ انتهاء الثوانــــــي:
رَقصَتْ ساعة الرّدى *** إذ التقـى العقـربــــانِ
وذَوَتْ زهرةُ الصِّـبا *** في القلبِ قبلَ الأوانِ
يافـتاتـي .. فرحــمةً*** بالأمنيـــــاتِ الحســانِ
لم تَعُـد دوحةُ المنـى *** معروشـــــةً بالأمــانِ
وبِحـاري تَرنَّـقـــــتْ *** فجـرّبـــي قلبَ ثـانِ”.[39]
*****
(ج / 1). القصيدة المختصرة:
القصيدة هنا لا تتعدى بضعة أسطر وبكلمات قليلة، دالة ومؤثرة ومثيرة، مثل قوله:
ــ ما تهمتي؟
ــ تهمتك العروبة
ــ قلتُ لكم: ما تهمتي؟
ــ قلنا لك العروبة
ــ يا ناس قولوا غيرها
أسألكم عن تهتمي. . .
ليس عن العقوبة!![40]
وقوله في قصيدة “هوية”:
“في مطارٍ أجنبي حدق الشرطي بي
– قبل أن يطلب أوراقي –
ولما لم يجد عندي لساناً أو شفه
زم عينيه وأبدى أسفه
قائلاً: أهلاً وسهلاً
.. يا صديقي العربي.. [41]
(ج / 2) شاعر القصيدة المختصرة (الإبيجرام):
الإبيجرام (The Epigram): مصطلح أطلقه اللاتينيون حيث كانت نشأته الأولى وعنوا به : النقش، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى تخليداً لذكراهم، وفي معابد الآلهة وعلى التماثيل والانية ؛ البيتَ أو الأبيات من الشعر، ومن ثَمَّ فإن الإبيجرام (القصيدة الموجز) نوع أدبي كتبه الشعراء اللاتينيون، وعَظُمَ شأنه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أي في عصر الإمبراطورية الرومانية، وإجمالاً فقد تطور على يد شعراء القصور في الإسكندرية وروما في العصر الهلنستي حيث إنه تحول على يدهم من مجرد أبيات منقوشة على شواهد القبور إلى قصائد وصفية مركزة تدور حول موضوعات شتى؛ وهو يشبه في بعض سماته السوناته (Sonnet) أو الهايكو الياباني، وأصبح هذا الفن يُطلق ويُطبَّقُ على كل بيت قصير ومليء بالمعاني الخاصة إذا كان قوياً وذا معنى معين ويشير إلى مبدأ معيَّن، وقد يُضاف إلى ذلك أنه لا يتعين أن يكون الإبيجرام أبياتاً أو سطوراً شعرية مستقلة من البداية، بل يمكن أن تكون جزءاً من نص أكبر يجوز أن نقتطفه فيصبح نصاً مستقلاً حينئذ. “[42]
ومن أعلام هذا الفن في الأدب العربي: علي أحمد سعيد (أدونيس) وعز الدين المناصرة وسميح القاسم ومحمد العزي (من تونس) وكمال نشأت وعز الدين إسماعيل حسن فتح الباب وعبد المنعم عواد يوسف وغيرهم.[43]
ومن خصائص هذا النوع من الأدب:
شعر قصير قد يصور نزعة من النزعات في أغراض المديح أو الغزل، ثم غلب عليه الهجاء.
التأنق الشديد في اختيار الألفاظ، بحيث يرتفع عن الألفاظ المبتذلة دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يقصد إليه الشعراء الفحول والقصائد الكبرى.[44]
ومن مزايا هذا النوع الأدبي في شعر أحمد مطر:
يتسم بالقِصَر، ويُحسب الاقتضاب فضيلة ومطلباً لهذا الجنس الأدبي بوجه عام.
(ج / 3) اللافتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات:
كتب “أحمد مطر” قصائه الموجزة المختصرة (الإبيجرام)، على شكل (لافتات)، فماذا يعني باللافتات؟
اتخذت القصائد التي بدأ بنشرها في القبس منذ عام 1980 شكلاً مكثفاً للمعاني، ففي أسطر قليلة معدودة يعطي “مطر” موضعاً واحداً مليئاً بالدهشة والتوتر وخلاصة الحكمة. اتخذ هذا الشكل عنوان “لافتات”، ومثلما تلخص اللافتة المرفوعة في المظاهرة كلاماً كثيراً، أو مطلباً جماهيرياً في كلمات معدودة محددة، جاءت لافتات أحمد مطر على طريقة:” خير الكلام ما قل ودل”، كلمات قليلة تلخص كلاماً كثيراً.
لفتت لافتات أحمد مطر نظر الناس سريعاً إلى الشعر والشاعر، فكان الناس ينتظرون صدور جريدة القبس كل صباح ليتابعوا ما يكتبه أحمد مطر وما يرسمه ناجي العلي. يقول حمزة عليان -مدير مركز المعلومات والدراسات بجريدة القبس-عن ذلك: “كانت لافتات مطر تتصدر الصفحة الأولى من القبس، وأصبحت بمثابة افتتاحية يومية للصحيفة، وصار الناس يترقبون موعد صدورها، ويتداولون اللافتة اليومية بشغف، حتى صار السؤال المتداول على شفاههم: “هل قرأت اللافتة اليوم؟”.
انظر إلى لافتته الأولى التي أشارت إليه بسرعة وهي قصيدته الشهيرة “عباس خلف المتراس” التي نشرها في “القبس” في 17 آب/أغسطس 1980″فهذه اللافتة “جسدت خنوع الحكومات العربية أمام الاحتلال والتدخلات الأجنبية، وهي لافتة كاريكاتورية تسخر أيضاً من المواطن العربي.[45] وهي ساخرة حد البكاء، وتصف وجودا اجتماعيا لا يملك شيئا غير المفردات، يدّخر أسلحته ليوم الشّدة ولكنه لا يستخدمها أبدا، على الرغم من أنه يعيش الشّدة يوميا:
عباس وراء المتراس … يقظ منتبهٌ حسّاس
منذ سنين الفتح يلمِّع سيفه،
ويلمِّع شاربه أيضا،
منتظرا محتضنا دُفَّه.
****
بلع السارق ضَفَّهْ
قلّب عباس القرطاس
ضرب الأخماس لأسداس:
بقيت ضفة..
لملم عباس ذخيرته والمتراس،
ومضى يصقل سيفه!
***
عبر اللص إليه . . وحل ببيته،
أصبح ضيفه
قدم عباس له القهوة،
ومضى يصقل سيفه
***
صرخت زوجته: عباس
أبناؤك قتلى، عباس
ضيفك راودني، عباس،
قم أنقذني يا عباس،
***
عباس، وراء المتراس،
منتبه … لم يسمع شيئا،
زوجته تغتاب الناس!
***
صرخت زوجته: “عباس،
الضيف سيسرق نعجتنا
عباس اليقظ الحساس
قلب أوراق القرطاس،
ضرب الأخماس لأسداس،
أرسل برقية تهديد..!
***
فلمن تصقل سيفك يا عباس؟
لوقت الشدة..
اصْقُلْ سيفك يا عباس.[46]
يُلخص أحمد مطر قصة لافتاته وفلسفتها بهذه الأسطر التي قالها في مقابلة معه مع مجلة “العالم” جاء فيها: “قصيدتي هي “لافتة” تحمل صوت التمرد، وتحدد موقفها السياسي بغير مواربة، وهي بذلك عمل إنساني يصطبغ بالضجة والثبات على المبدأ، وعليه فإنني لا أهتم بصورة هذه المظاهرة وكيف تبدو بقدر اهتمامي بجدية الأثر الذي تتركه، والنتائج التي تحققها. أما كيف انتهيت إلى هذه الصياغة، فينبغي أن أذكر أنني ابتدأت أولاً بالقصيدة العمودية، من حيث الشكل، ودخلت المعترك السياسي من حيث المضمون، من خلال مشاركتي في الاحتفالات العامة بإلقاء قصائدي من على المنصة، الأمر الذي يقتضي الإطالة وشحن القصيدة بقوة عالية من التحريض. وتلك الإطالة، كانت تتطلب، بالطبع، الانتقال من موضوع إلى آخر، من خلال محور عام واسع هو موقف المواطن مما يعيشه إزاء سلطة لا تتركه ليعيش. إذ ليس من المعقول أن يكتب الشاعر موضوعاً واحداً بتلقائية وعفوية خلال أكثر من مائة بيت.
وهذه الحالة كانت بالنسبة لي عبئاً ثقيلاً، برغم ما تثيره تلك الإطالة من انفعال الناس وحماسهم وتصفيقهم. فعزمت على أخذ نفسي بالشدة، بحيث لا أتعدى في القصيدة موضوعاً واحداً، وإن جاءت القصيدة كلها في بيت واحد، وذلك لكي أخدمه جيداً من ناحية الصياغة، ولكي أشحنه بكل ما لدي من طاقة فنية، تجعله سريع الوصول، سريع التأثير، دائم الحضور في الأذهان. وترافق هذا المسعى لدي مع تحولي إلى قصيدة التفعيلة .. لكنني لم أفرط في كنوز القصيدة العمودية، بل حملتها معي، وأعني بذلك القافية واتساق النفس الشعري، وسلامة الميزان، كما لم أتحلل من انتقاء اللفظة السهلة الدالة، والابتعاد، ما أمكنني، عن الألفاظ الصعبة الغريبة، والتعبير الغامض. ولا أعتقد أن هذا كان بسبب اشتغالي في الصحافة، فقد بدأ قبل ذلك، لكن يمكن القول بأن عملي في الصحافة قد أعطى هذه الصياغة ثباتاً واستقراراً، ومهّد لها أرضية صالحة للنمو.
وأعتقد أن هذه المواصفات التي تحملها قصيدتي، هي بصورة ما، نفس مواصفات “اللافتة” التي يحملها المتظاهرون، من حيث الإيجاز والسهولة والموقف المحدد والحاد، والهدف التحريضي. لكنها عندي تتخذ رداءها الفني.
تتميز لافتات مطر بالضربة الموجعة الأخيرة، فهو يجر القارئ من حيث لا يدري إلى البيت الأخير الصادم دائما، ليرسل من خلاله رسالته التي أعدها مسبقا مع بداية القصيدة.
كانت لافتاته قصيرة موجعة ساخرة بكوميديا سوداء لم يسلم منها سياسي ولا حاكم، وكانت لسان حال الإنسان البسيط، ونبض كل شريف، يتندر فيها على الحكام الذين يقولون ما لا يفعلون، أو أنهم لا يفعلون أبدا.
لنقرأ هذه قصيدة “الثور والحظيرة”. التي كتبها أحمد مطر في ذم الرئيس المصري أنور السادات الذي صالح اليهود وعقد اتفاقيات كامب ديفيد، وفيها يقول:
الثور فر من حظيرة البقر،
الثور فر،
فثارت العجول في الحظيرة،
تبكي فرار قائد المسيرة،
وشكلت على الأثر،
محكمة … ومؤتمر،
فقائل قال: قضاء وقدر،
وقائل: لقد كفر
وقائل: إلى سقـر،
وبعضهم قال: امنحوه فرصة أخيرة،
لعله يعود للحظيرة؛
وفي ختام المؤتمر،
تقاسموا مَرْبَطَه، وجمدوا شعيره
***
وبعد عام، وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور،
ولكن
ذهبت وراءه الحظيرة
*****
احتفى الشعراء والنقاد بلافتات أحمد مطر، ومنهم الأستاذ الدكتور عبده بدوي، الذي رأى في اللافتات دقة الصور وحدة الإيقاعات .. وفي الاتجاه ذاته ذهب الناقد رجاء النقاش… ولعل الأمر الذي له دلالة في هذا الشأن أن الجواهري -وهو العمودي الصارم الذي لا يتعاطى الشعر الحر -قد أعلن، في مقابلة اجريت معه عام 1993، إعجابه باللافتات موقفاً وفنـاً”.
هل ألقى مطر سلاحه ولافتتاته؟!!
المرض وخذلان الأصدقاء وموت صديقه ناجي العلي والخيبات من الواقع العربي دفعت أحمد مطر للاعتزال والانزواء عن المشهد العام، وقال في أحد لقاءاته: “لقد أُثقلتُ باستشهاد ناجي العلي”، وقد تكون هذه الحادثة إحدى أهم الأمور التي قرر على إثرها اعتزال الناس والأضواء والإعلام،
يقول الأستاذ حسن العدم: انعزل أحمد مطر جسدا لكن روحه كانت غير بعيدة، وأحاطت بكل أوجاع المواطن العربي المسحوق، وقد عانى من انتكاسات الربيع العربي، وتفرّغ لكتابة لافتاته لكنه لم ينشر أكثرها خوفا من مقص الرقيب أحيانا، وخوفا من تلك الصحف التي لم تجرؤ أن تنشرها لما فيها من نقد لاذع وصريح للحكام.
استمر في كتابة القصائد إلا أنه أصبح مقلاً في النشر بسبب غياب حرية النشر في العالم العربي، وكانت قصيدة (فرعون ذو الأوتاد) آخر ما نشره في جريدة القبس، وكان ذلك عام 2014، وفيها يقول:
“ما دُقت الأوتادُ فينا صــــــــــــــدفةً *** بل دقها فرعون ذو الأوتـــــــادِ
وله سوابقه بتصديــــــــــــر الأذى *** ليصده.. ويعود بالإيـــــــــــرادِ!
وله عبيد ســـــــــــــــادةً قد سودوا *** أيامنا.. من قبل هذا الســـــــادي
أم أن ثورات الشبـــــــاب تفجرت *** قللًا من التدليل والإســــــــعادِ؟!
كانوا على مر الزمـــــــان يُروننا *** فعل اللصوص .. ومنطق الزهادِ
ويفصلون الدين حســــب مقاسهم *** ثوبًا .. على جســــــدٍ من الإلحادِ
رصدوا السلاح فما ترصد غازيًا *** ولقتلنا .. قد كان بالمرصــــــــادِ”
وربما كانت قصيدته “لم يصل” آخر قصيدة نشرها، كما قال الدكتور “فائق منيف” في برنامج “خارج النص” الذي بثته قناة الجزيرة
قال في لافتة.. “تلك هي القضية!” وربما تلخص هذه القصيدة مقدار الضيق والحنق والقهر الذي وصل إليه أحمد مطر جعلته يفقد الأمل، فقال في هذه القصيدة:
“أذكرُ ذاتَ مرة
أن فمي كانَ بهِ لسانْ
وكانَ يا ما كانْ
يشكو غيابَ العدلِ والحُرية
ويُعلنُ احتقارهُ للشرطةِ
السريةِ
لكنهُ حينَ شكا
أجرى لهُ السلطان
جراحةُ رَسميةً
من بعد ما
أثبتَ بالأدلةِ القطعية
أنّ لساني في فمي
زائدةٌ دودية!
* * *
لا تسألوا كيف اختفتْ
لافتتي الشعريَةُ
لا تسألوا.. فهذه الأوطانْ
تعتقلُ الفأسَ
إذا ما حلّت الأوثانْ
وهذه الأوطانْ
تودّعْ الملاك دوماً
عندما تستقبلُ الشيطانْ
وهذه الأوطانْ
إذا أتاها ظالمٌ
تذبحُ كلّ طائرٍ مغرْدٍ
وزهرةٍ بريّة
لأنها تخشى على شعورِهِ
من منظرِ الحريّة!
* * *
حلّفتكم بالله ألا تلمسوا
أوتاري الصوتية
يا ناسُ إني صامتٌ
وأحمد الله إذا لم أُعتقلْ
بتهمة الكتمانْ
فالشاعرُ الشريفُ في أوطننا
يُدانُ أو يُدانْ
يا سادتي…
(د). أهم السمات الفنية في شعر “أحمد مطر”:
-
يعتبر الشاعر “أحمد مطر” شاعراً وحيد الغرض، إذ قصر شعره على موضوع واحد هو الشعر السياسي الذي ينتقد أوضاع الشعوب العربية وحكامها بغرض استنهاض الأمة، لترتشف أمته ومنها بلده العراق فيض الحرية.[47]
-
عندما بدأت شخصية أ حمد مطر الشعرية بالتشكل اتخذ شعرُه سَمتاً محدداً وواضحاً يكاد يقتصر عليه ويشكل بصمة منفردة له. يقول الشاعر راضي صدُّوق: “أكثر شعره في السياسة، ينطوي على نقد جريء حادٍّ، قصائده تتسم بالقصر وتجمع بين السخرية والإدهاش ومفاجأة القارئ بالصور التي تصدمه”.[48]
-
وهو شاعر يحذف بجدارة الفواصل بين شعره وشخصيته التي يلتقي فيها الشاعر والإنسان في آن واحد. [49]ومن الأمثلة على ذلك قصيدة “تفاهم”:
” علاقتي بحاكمي
ليس لها نظير
تبدأ ثم تنتهي.. براحة الضمير
متفقان دائماً
لكننا
لو وقع الخلاف فيما بيننا
نحسمه في جدل قصير
أنا أقول كلمة
وهو يقول كلمة
وإنه من بعد أن يقولها…
يسير
وإنني من بعد أن أقولها…
أسير”[50]
-
أخذ “مطر نفسه بالشدّة من أجل ألاّ تتعدى اللافتة موضوعاً واحداً، وإن جاءت القصيدة كلّها في بيت واحد. [51] وانظر إلى هذه القصيدة التي عنوانها “خَلق”:
“في الأرض مخلوقان:
إنْسٌ ..
وأمريكان![52]
-
تميَّزَ شعر أحمد مطر بالسهولة والبساطة اللغوية وهو ما يسمَّى بالسهل الممتنع، وهي نفس المدرسة الشعرية التي كان عليها نزار قباني وغيره، فالشاعر أحمد مطر يكتب مشاعر قومية وطنية ثورية يوجِّه أشعاره إلى كل طبقات المجتمع فكان شعره بسيطًا يستطيع كل إنسان أن يفهم معنى أشعاره وتعلق بها، ومن الأمثلة على ذلك هذا المقطع من قصيدة (حوار على باب المنفى):
“أجَلْ أدري
بأنِّي في حِسابِ الخانعين اليومَ مُنتَحِـرُ
ولكنْ أيُّهُم حيٌّ
وهُمْ في دوُرِهِـمْ قُبِـروا؟”[53]
-
من خصائص شعر أحمد مطر: “السخرية ممن هو موضع ذم في شعره”:
اتخذ أحمد مطر من السخرية أداة للنقد اللاذع والإضحاك وأحياناً النصح، يقول “مطر” في مقابلة معه: لكنني من خلال مطالعاتي ومعايشتي لشرائح من المجتمع، وجدت أن من يحسنون السخرية والإضحاك هم أكثر الناس امتلاء بالأحزان. أنا بالطبع لا أرمي إلى إضحاك الناس، بل أكتب على سجيتي من خلال مخزون كلي، فأستعرض شر بليتنا، وشرُ البلية ما يضحك أحياناً، لكنه ضحك مر، لأن النكتة مرة سوداء، فهو ضحك من شدة البكاء.
لم يكن الغرض من سخرية أحمد مطر الضحك والهزل، إنما كانت هادفة، وتحمل قضية إنسانية عامة بأبعادها المختلفة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب العربي بمختلف طبقاته، وهو يعرض هذه القضايا بأسلوبٍ ساخرٍ يختلف عن أساليب الشعراء الساخرين الذين عرفناهم في العصور الأدبية الماضية.[54]
لنقرأ قصيدة “مسألة مبدأ”:
“قــال لزوجـته: اســكتي.
وقــال لابنه: انكــتم.
صوتكمــتا يجعلنـي مشـــو ش التفكـير.
لا تنبســا بكلمه.
أر يــد أن أكتــب عـــن
حرية التعبير”
لنقرأ هذه القصيدة التي قالها في الشاعر السوري “علي أحمد سعيد” المعروف بـ “أدونيس” الذي يعرف عنه شعره المطلسم والمبهم، والتي عنوانها: “عقوبة إبليس”:
“طمأن إبليس خليلته:
لا تنزعجي يا باريس.
إن عذابي غير بئيس.
ماذا يفعل بي ربي في تلك الدار؟
هل يدخلني ربي ناراً؟
أنا من نار!
هل يبلسني؟
أنا إبليس!
قالت: دع عنك التدليس
أعرف أن هراء ك هذا للتنفيس.
هل يعجز ربك عن شيء؟!
ماذا لو علمك الذوق،
وأعطاك براءة قديسْ
وحباك أرقّ أحاسيسْ
ثم دعاك بلا إنذارٍ …
أن تقرأ شعر أودنيس ؟![55]
وانظر مثلاً إلى هذه القصيدة الجميلة المختصرة التي تلخص مفهوم الحداثيين وعبثهم في تفسير النصوص، يقول في قصيدة “مسألة”:
“ـــ مائةٌ ناقصُ تسعة؟
ــ عاشقٌ إلا ثلاثةْ.
ـــ كيف هذا الحلُّ يا هذا؟!
ـــ على كَيْفي . . حداثة![56]
-
ينتمي نمطه الشعري إلى شعر المواقف الواضحة، تلك المواقف التي لا يجد القارئ صعوبة في فهمها وتعرف ملامحها، وهو أمر يكاد يشترك فيه معظم الشعراء السياسيين من شعراء المقاومة الفلسطينية مثل محمود درويش (في اعماله الأولى على الأقل).
-
تميز مطر بالجد والبراعة في اختيار مواضيعه وعرضها بصورة متفردة، معتمداً في ذلك على حصيلته اللغوية، فترى أن شعره ذو غرض واحد وليس متعدد الأغراض، فكان يتناول كل مرة موضوعاً واحداً محدداً في كل قصيدة من قصائده.
-
نظم أحمد مطر معظم شعره على البحور الصافية: الرجز، الرمل، الكامل، المتدارك والمتقارب.[57]
قال أحمد مطر: إن غايتي الكبرى هي أن أهزكم بعنف لا أن أطربكم .. أما لماذا أركز على البحور الصافية، فلأنها ذات تفعيلة واحدة يمكن تكرارها بيسر، أما البحور المركبة فهي ذات وحدات يقتضي تكرارها كسر ظهر الشاعر والقارئ معاً.. وعلى أية حال، فإن تفاعيلها كلها موجودة في البحور الصافية”.[58]
-
القافية: تقول الباحثة رشدة ديار: التزم أحمد مطر في معظم فصائده بالعناية بالقافية التزاماً تاماً، حيث يذهب إلى ضرورة الاستفادة من القافية بأنواعها كلما أمكنه، ومن نماذج ذلك قوله في قصيدة “بلاد العرب”:
بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب،
نبذة عن وطن مغترب،
تاه في أرض الحضارات من المشرق حتى المغرب،
باحثا عن دوحة الصدق ولكن عندما كاد يراها حية مدفونة وسط بحار اللهب،
قرب جثمان النبي،
مات مشنوقا عليها بحبال الكذب،
وطن لم يبق من آثاره غير جدار خرب،
لم تزل لاصقة فيه بقايا من نفايات الشعارات وروث الخطب،
عاش حزب ال…، يسقط الخا…، عائدو…، والموت للمغتصب،
وعلى الهامش سطر،
أثر ليس له اسم”
وتقول الكاتبة: أتت القافية في هذه القصيدة مطلقة، وهي ما كان رويها متحركاً، فحرف الروي في هذه القصيدة هو “الباء المكسورة”.[59]
-
التناص في شعر “مطر”:
مفهوم التناص: يمكن القول وباختصار شديد بأن التناص هو تأثر النص بنص آخر أو أكثر، ويمكن أن ترى أثر ذلك النص واضحاً في جُمل الكاتب (المتأثر) بالنصوص الأخرى. لجأ مطر في شعره إلى التناص الذي تميَّزَ عنده بتعدد روافده التراثية والتاريخية والأدبية والدينية، ومكَّنه من محاكاة الحاضر بأحداث الماضي لمعالجة النقائص.
التناص والنص القرآني:
إجابة على سؤال يقول: “ما هي الحدود التي يوظف فيها أحمد مطر النصوص القرآنية في شعره؟ أم أن الحرية مفتوحة في ذلك؟ وكيف ينظر إلى قدسية النص القرآني؟” فقال:
أمّا قدسية النص القرآني فهي عندي محفوظة بالتنصيص، وفيما عدا ذلك فأنا شاعر أستلهم روح النص، أو أتأثّر بصدى اللفظ، أو أستهدي بعناصر القصّ، وأوظفها فنيّاً لإظهار المفارقة، أو تحقيق الصدمة، أو إبداء الاحتجاج. وقال: وأحسب أنني، في كل ذلك، لم أصدر إلاّ عن نفس مؤمنة، تتصدّى للإشارة إلى البون الشاسع بين ما أراده الله وبين ما تصنعه الأوثان البشريّة”.[60]
يقول الدكتور هشام الكساسبة في أطروحته للدكتوراه عن التناص في شعر أحمد مطر:” وأحمد مطر كغيره من شعراء الحداثة الذين فتنهم هذا النموذج من التنـاص، ومن يدرس أعماله لا بد أن يلمح النفس الديني في الغالبية العظمى منها، انظر إليه إذ يقول:
: “ولما آوى الفتية المؤمنون
إلى كهفهم
كان في الكهف من قبلهم مخبرون
ظننتم إذن، أننا غافلون
كذلك ظن الذين أتوا قبلكم
فاستجبنا
ولو تعلمون
بما قد أُعد لهم من قوارير
كانت قوارير منصوبة
فوقها يقعدون”[61]
ويقول الكساسبة: من الواضح أن التناص ينبثق من قوله: “ولما أوى الفتيـة المؤمنـون إلـى كهفهم” وهو إشارة إلى قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * الكهف 10}
فأصحاب الكهف –في القرآن الكريم- لجأوا إليه لسنين طوال فـراراً مـن المشركين، فناموا فيه، لكن اليوم يعيش أصحاب الكهف -في عصر التكنولوجيـا- والأجهزة التجسسية بشكل يتيح المجال لرصد حركاتهم وسكناتهم، حتـى تكـاد أن تكون أقرب إليهم من حبل الوريد، وهذا دلالة تضييق الخناق على الشعوب باستخدام أدق أساليب الرصد، حتى بات المواطن العربي لا يعلم أين المفر ،ويمضي الشاعر في تناصه مع الذكر الحكيم، يقول
: هو إبليس فلا تندهشوا
لو أن إبليس تمادى في الضلال
نحن بالدهشة أولى من سوانا
فدمانا
صبغت راية فرعون
وموسى فلق البحر بأشلاء العيال
ولدى فرعون قد حطّ الرحال
ثم ألقى الآية الكبرى
يداً بيضاء من ذُلّ السؤال
أفلح السحر
فها نحن بيافا نزرع القات
ومن صنعاء نجني البرتقال” [62]
أمامنا أسطر شعرية بنيت بأكملها على التناص، فقد تعالقت مع قصة موسى عليه السلام وفرعون، في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى ٱلْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَٰفُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ * طه 77}. [63]
يشتط “أحمد مطر” في تناصه مع النص القرآني حتى إنه ليقترب من النص المقدس بشكل كبير مما يجعل فريقاً من الناس يقول بأنه الأمر أكثر من تناص أدبي بل يقترب من تحريف الآيات وتبديل كلماتها، وفي هذا على الأقل امتهان للنص الكريم، انظر لقصيدة: ” إذَا الضَّحايَا سُئِلَتْ:
– إذَا الضَّحايا سُئِلَتْ
– بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ؟
– لانتفضتْ أشلاؤها وجَلْجَلَتْ
– بذنبِ شَعبٍ مُخلصٍ
– لِقائدٍ عَمِيلْ[64]
ويقول في قصيدة عَنونَ لها -مُتعمِّداً – بآية قرآنية، وهي ” لا أقسم بهذا البلد ” متجاوزا حدَّ التقديس والتنزيه، ليس هذا فحسب بل يعنون لها بآية من سورة (البلد)، ويتلاعب بألفاظ من سورة (الطور)، بصورة تحمل من الخلط والعبث ما يدعو الدَّاعي إلى الغضب الديني، قائلاً:
والطُّورْ
والمخْبرِ المسعُورْ
والحَبْلِ والسَّاطورْ
ونَحْرِنَا المشنُوقِ والمنحُورْ
خُطَى المنايا في البَرايا دائِرةْ
….
والزُّور
والحاكمينَ العور
وشعبنا المغدور
إنَّ المنايا في البَرايا دائِرةْ
…….
والسور
والوطن المأسور
والدم والدِّيْجور
إنَّ المنايا في البَرايا دائِرةْ [65]
التناص مع السنة النبوية الشريفة:
يقول الكساسبة: ولم يقتصر التناص عند مطر على القرآن الكريم، بل انسحب ليطول السـنة النبوية الشريفة، التي رأى فيها منبعاً خصباً لإثراء تجربته، يقول:
“زعموا أن لنا
أرضاً، وعِرضاً، وحمية
وسيوفاً لا تباريها المنية
زعموا….
فالأرض زالت
ودماء العرض سالت
وولاة الأمر لا أمر لهم
خارج نص المسرحية
كلهم راع ومسؤول
عن التفريط في حق الرعية
وعن الإرهاب والكبت
وتقطيع أيادي الناس
من أجل القضية”[66]
ينبثق التناص عبر قوله: (كلهم راع ومسؤول عن التفريط في حق الرعيـة) وهذا إشارة إلى حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم): “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عـن رعيتـه، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهـو مسـؤول عـن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مـال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته”.[67]
ويقول الكساسبة: والحق أن هذا النمط من التناص في التجربة المطرية جاء بشـكل مكثـف، وترجح الدراسة أن هذا التوظيف المكثف لهذا النمط يكاد يتمحور حول دلالة بعينها وهي حجم الكارثة وعظم المأساة التي يحياها العالم العربي المعاصـر فـي ظـل السلطات الدكتاتورية التي قتلت معالم الحياة، وأجهضت أحلام الأمة، وكانت السبب في تخلفها وجهلها وفقرها.[68]
ولم يقتصر التناص على النص (الديني)، بل كان هناك التناص التاريخي، يقول في قصيدة ” هذا هو السبب”:
“هاك سلاطين العرب
دزينتان من أبي جهل
ومن أبي لهب
نماذج من القرب
أسفلها رأس وأعلاها ذنب”. [69]
أراد الشاعر أن يوضح حدة القسوة والبطش اللتين ينعت بهما الحكام العرب، لذا نجده قد استلهم من التاريخ أسماء لشخصيات اتّسمت بالقسوة والصلابة والجهـل والتخلف جاعلاً منها رموزا لحكام هذا العصر، انظر إليه كيف يستحضر شخصيتي أبي جهل وأبي لهب ليلبس حكام هذا العصر صفاتهما، ولا يخفى على المتلقي ما يوحي به هذان الاسمان، فأبو جهل رمز التخلف والجحود، وأبو لهب فتواه مؤداهـا إلى النار”.[70]
يكتب الشاعر أحياناً قصائده بأسلوب قصصي، من ذلك قصيدته “قلم” وفيها يقول:
“جسَّ الطبيبُ خافقي
وقالَ لي:
هلْ ها هُنا الألَمْ؟
قُلتُ له: نعَمْ
فَشقَّ بالمِشرَطِ جيبَ معطَفي
وأخرَجَ القَلَمْ!
***
هَزَّ الطّبيبُ رأسَهُ .. ومالَ وابتَسمْ
وَقالَ لي:
ليسَ سوى قَلَمْ
فقُلتُ: لا يا سَيّدي
هذا يَدٌ .. وَفَمْ
رَصاصةٌ .. وَدَمْ
وَتُهمةٌ سافِرةٌ .. تَمشي بِلا قَدَمْ !”[71]
-
شعرية المفارقَة:
شقّ مصطلح المفارقَة طريقه إلى البلاغة العربية القديمة تحت مسـميات شتّى: كالتهكم والتورية، وفي عكس الظاهر، وتجاهل العـارف، وبـاب المقلـوب، ومخالفة الظاهر، والمدح في معرض الذم والعكس. يرى الدكتور هشام الكساسبة أنه يمكن تقسيم المفارقة على النحو التالي:
المفارقَة اللفظية، وهي “نمط كلامي أو طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى المقصود فيها مناقضاً للمعنى الظاهر” ومن الشواهد على ذلك من قصيدة “رماد”:
مشرعةٌ نوافذ الفساد
مقفلةٌ مخازن العتاد
والوضع في صالحنا
والخير في ازدياد”! [72]
من الملاحظ أن المفارقَة انبعثت عبر توظيف الشاعر لـ(مشرعة، مقفلـة)، وهما لفظان تقف الاستحالة عائقاً في التأليف بينهما، فإن واقع الأمة العربية الراهن بما يمثله من فساد في كل جوانب الحياة، والهزائم المتلاحقة التي لحقت بها، وتعطيل دور السلاح في الذود عن كرامتها وحماية مقدراتها، هي التي أغرت مطراً بتوظيف مثل هاتين اللفظتين اللتين أدتا دورهما –على أكمل وجه- في الكشف عن واقع الأمة المتردي المهزوم، ففي الوقت الذي يجب أن تكون فيه (مخـازن العتـاد) مشـرعة الأبواب نجدها قد أقفلت من قبل أصحاب القرار؛ ليعم بذلك الفساد الـذي أصـبحت أبوابه مشرعةً؛ مما جعل الشاعر ينهي المقطوعة بلهجة ساخرة، يبـدو ذلـك فـي قوله:(والوضع في صالحنا، والخير في إزدياد).[73]
المفارقَة الهزلية: وهي مفارقَة تقوم على “موقف يناقض فعله تماماً، إذ يأتي الفعل مغايراً تماماً للوجهة التي يجدر بالإنسان أن يقوم بها”، ومن شـواهدها الدالـة فـي التجربـة المطرية، قوله في قصيدة “أمير المخبرين”:
“تهتُ عنْ بيتِ صديقي
فسألتُ العابرين
قيلَ لي امشِ يَساراً
سترى خلفكَ بعضَ المخبرينْ
حِدْ لدى أولهمْ
سوفَ تُلاقي مُخبراً
يَعملُ في نصبِ كمينْ
اتَّجِهْ للمخبرِ البادي أمامَ المخبرِ الكامنِ
واحسبْ سبعة، ثم توقفْ
تجدِ البيتَ وراءَ المخبرِ الثامنِ
في أقصى اليمينْ
حفِظَ اللهُ أميرَ المخبرينْ
فلقدْ أتخمَ بالأمنِ بلادَ المسلمينْ
أيها النّاسُ اطمئنوا
هذه أبوابكمْ محروسة في كلِّ حينْ
فادخلوها بسلامٍ آمنينْ.”
أمامنا أسطر شعرية مبنية بأكملها على المفارقَة الهزلية، لأنّ ألفاظها لا تمت إلى الواقع بصلة، فأمير المخبرين الذي أتخم بالأمن بلاد المسلمين إنما هـو دلالـة كثرة المخبرين بشتى أشكالهم، الذين يرصدون حركة أبناء الوطن، مقيـدين بـذلك حرياتهم ومكبلين آمالهم وطموحاتهم، وعبر هذا التفسير يتولد معنى آخر للأسـطر الشعرية، ويقول د. كساسبة: يمكن للدراسة أن تعده المعنى الذي بنيت على أساسه المفارقَة، وهو بـثّ الخوف والرعب في نفوس أبناء الوطن، وهو ما ألفته الذاكرة الإنسانية في أوطاننـا العربية، والفرق واضح ما بين الأمن والرعب، ولأن مطراً يعـي –تمامـاً- هـذا الرعب الذي يصنعه أولئك المخبرون، فقد جاءت ألفاظه –في النص- كاشفة مفارقَة كبيرة.[74]
المفارقَة التصويرية: تُعَرَّف على أنها: “-تكنيك فني، يستخدمه الشاعر المعاصر لإظهـار عنصـر التضاد بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض، وقد يمتد هذا التناقض ليشـمل القصيدة بأكملها، ليس في جملة أو بيت كما في الطباق والمقابلة، وهناك من يرى أن التناقض في المفارقَة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل” والمفارقة التصويرية أنواع منها:
مفارقة الأحداث: تقوم هذه المفارقَة على تعبير الضحية عن اعتماده على المستقبل، لكن تطوراً في الأحداث يقلب خططه، ويسير في خطوات تبتعد به عن الهدف، وتكون الوسيلة التي يتجنب بها شيئاً هي الوسيلة التي توصله إلى ذلك الشيء، انظر إليه إذ يقول في قصيدة الهارب:
“هربتُ للصحراء من مدينتي
وفي الفضاء الرحب
صرخت ملء القلب
الطف بنا يا ربنا من عملاء الغربِ
الطف بنا يا رب
سكتّ فارتد الصدى:
خسأت يا ابن الكلب”.[75]
هنا يهرب شاعرنا إلى الصحراء التي رأى فيها خلاً وفياً يكتم سره وشكواه، لكـن حدسه قد خانه، عندما ارتد صدى صوته: (خسأت يا ابن الكلب)، فإن كان قد فر من المخبرين في مدينته، فها هو صوته يتحول إلى مخبر يشي به، فهل أراد مطر مـن خلال هذه المفارقَة أن يغرس في أذهاننا أن المخبرين في العالم العربي يمشون مشي الدم في جسم الإنسان؟؟
“نبح الكلب بمسؤول شؤون العاملين:
سيدي إني حزين
هاك… خذ طالع ملفي
قذر من تحت رجلي إلى ما فوق كتفي
ليس عندي أي دين
لاهثٌ في كلّ حين
بارع في الشم والنبح وعقر الغافلين
بطلٌ في سرعة العدوِ
خبير في اقتفاء الهاربين
فلماذا يا ترى لم يقبلوني
في صفوف المخبرين
هتف المسؤول: لكن
فيك عيبان يسيئان إليهم
أنت يا هذا وفي وأمين”.[76]
ها هو الكلب يسأل عن عدم قبوله في صفوف المخبرين، بالرغم من أنه يمتلك صفات تؤهله لذلك، فهو قذر لا دين له، لاهث باستمرار، ذو براعة فائقة في الشّـم والنبح وعقر الغافلين، بطلٌ في العدو، ذو مهارة ودراية في كشف الهاربين، إلا أن مسؤول العاملين يكشف له سبب عدم قبوله في صفوف المخبرين، إذ إنه يمتلك صفة منبوذة لدى صفوف المخبرين، وهي الوفاء والأمانـة، ولا يخفـى -فـي الـذاكرة الإنسانية-ما لهذه الصفة من أثر لصيق وجنس هذا الحيوان.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه المفارقَة قد كشفت عن واقع المخبرين السلبي في الوطن العربي الكبير.[77]
مفارقَة التشويه.
وهذا النوع من المفارقة يقوم على السخرية المتمثلة بـ”موقف يناقض فعله تماماً”، إذ يأتي الفعل مغايراً تمامـاً للوجهـة التـي يجـدر بالإنسان أن يقوم بها، ومنها-على سبيل المثال-قوله في قصيدة “وصايا البغل المستنير”:
“يا فتى…. احفظ وصاياي
تعش بغلاً
وإلا..
ربما يمسخك الله… رئيساً عربياً!”[78]
الصورة الهزلية: استخدم الشاعر الصورة الشعرية بأشكالها المختلفة ومن ذلك الصورة الهزلية، التي تمثلها هذه القصيدة:
“رأيتُ ما أذهلني في المركزِ الحدودي
دخلتُ، فاستقبلني الشُّرطةُ بالورود
وأهلُّوا وسهلوا.. وقبلوا خدودي
قالوا بمنتهى الأدب:
(شرفتَ يا أخا العرب)
يا للعجب
لم يأنفوا منِّي
ولم يستثقلوا وجودي
لم يحجزوا أمتعتي
لم يسلبوا نقودي
لم يطلبوا هويتي
لم يلعنوا جدودي
كنتُ لفرط لطفهم
أختالُ حراً آمناً كأنّني يهودي
أفقتُ من غيبوبتي
في المركز الحدودي
ولم يكن في حوزتي
شيء
سوى.. قيودي”
يقول الدكتور الكساسبة: ” أمامنا نص أشعر المتلقي ببؤسه وفقدان الهوية التي تمثل كيان المواطن فـي وطنه، وليس أدل على ذلك حين أخذ يتعجب من سلوك الشرطة العربية الحدوديـة تجاهه، ذاك السلوك المليء بالأدب والاحترام، فقد رحبوا به ولم يستثقلوا وجـوده، ولم يحجزوا أمتعته، ولم يسلبوا نقوده، ولم يطلبوا هويته، ولم يزدروا جدوده، الأمر الذي أثار دهشة الشاعر واستغرابه، لأن هذا الاحترام – وفقاً للشاعر – لا يسـتخدم إِلا تجاه الصهاينة الذين يجولون في البلاد العربية دون معوقات، كـل هـذا جعـلَ الشاعر يشبه نفسه باليهودي جراء هذه المعاملة. لقد كشفت الصورة عن معاناة المواطن العربي داخل وطنـه، فهـو مكبـل الخطوات، مضطهد الفكر، يخضع لقانون الرقابة الزائف، في الوقت الذي يجول فيه ألد أعداء الأمة فوق تراب الوطن، ينعمون بالحرية والاحترام بفعل أولئـك الحكـام الذين رضخوا للأمر الواقع، فلم يبدوا أي استياء، مكتفين باضطهاد شعوبهم والتنكيل بهم”.[79]
سبب تجاهل وسائل الإعلام له
يقول في ذلك: إنني لم أتجاهل وسائل الإعلام، بل تجاهلت وسائل الإعدام. تلك التي تكتب بالممحاة، وتقدم للناس فراغاً خالياً محشواً بكمية هائلة من الخواء، وللإعلاميين أقول: احذروا أن تعبثوا بالحقائق، واحذروا بلع أطراف الحروف، فالكلمة حساسة جداً، يمكن تحويلها بلمسة بسيطة غير مسؤولة، من أداة إحياء إلى أداة قتل. إن عبثاً هيناً بكلمة “إعلام” يحولها ببساطة إلى “إعدام”.[80]
مــــــــــــــــــــــــآخذ:
لا يخلو كمال من نقص، ولا يفلت جواد من كبوة ولا ينجو سيف من نبوة، وهكذا كان أحمد مطر أيضا، إذ يقول فاضل ثامر، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقي السابق: ربما من المؤاخذات على شعر مطر، أنه لم يتأنق بالصور والمفردات الشعرية، بل جاءت لافتاته بسيطة مباشِرة دون تزيين، فقد كان يسكنه هم المواطن العربي البسيط، وكان يريد أن يوصل لافتاته إليه بأبسط صورة، فكانت قصيرة تحمل كل لافتة منها رسالة واحدة غالبا.[81]
اعتبر ناقد [لم يشأ ذكر اسمه] شعر أحمد مطر ساذجاً وبسيطاً ويتسم بالمباشرة ويخلو من القيم الشعرية الفنية العميقة. وقد شاع بين عامة الناس لا لقيمته الفنية ولكن لأنه يخاطب مراراتهم السياسية.
كذلك هناك نوع من النثرية في بعض قصائده وأسطره الشعرية مثل قوله في قصيدة “الأصوليون”:
“آه منهم!!
يستفزون الحكومات
وإن فزّت عليهم
جعلوا الحبّة قبة!!
فإذا ألقت بهم في الحبس
قالوا أصبح الموطن علبة!
وإذا ماضربتهم مرةً
ردوا على الضرب بسبة!!
وإذا ما حصلوا في الانتخابات على أعظم نسبة
زعموا أنّ لهم حقاً
بأن يستلموا الحكم
كأنّ الحكم لعبة!!”
مواضيع الشعر عند أحمد مطر:
يقول الشاعر “راضي صدُّوق” بأن “القضية الأساس في شعر “مطر” هي حرية التعبير عن النفس بلا خوف، ولهذا فإن شعره يقوم على رفض كل القيود التي تحول دون استقلال الإنسان العربي وحقه في أن يقول كلمته بحرية”[82]
أحمد مطر يحارب الطائفية المذهبية
يقول في قصيدة عنوانها “طائفيون”:
طائفيوّنَ إلى حَدِّ النُّخاعْ
نَرتدي أقنعةَ الإنسِ … وفي أعماقِنا طبْعُ السِّباعْ
وَنُساقي بعضَنا بعضاً
دَعاوى (سِعَةِ الأُفْقِ فإن مَرّتْ على آفاقِنا ضاقَ عليها الاتساع)
أُمميّونَ
وحادينا لجمْعِ الأُمَمِ المُختلفَهْ
طائفيٌّ يحشرُ الدُّنيا وما فيها
بِثُقْبِ الطّائفه
وعُروبيّونَ
نَفري جُثَّةَ (الفَرّاءِ إن لم يَلتزِمْ نَحْوَ وَصَرْفَ الطائِفه)
وأُصوليّونَ
والأصْلُ لَدَينا أن يُساقَ الدِّينُ لِلذّبحِ
فِداءً لِدنايا الطائِفَهْ
وَحَّدَ العالَمُ أديانَ وأعراقَ بَني الإنسانِ
في ظِلِّ بُنى الأوطانِ
حَيثُ الغُنْمُ والغُرْمُ مَشاعْ
واختلافُ الرّأْيِ
لا يَنْضو سِنانَ السَّيفِ
بل سِنَّ اليَراعْ
وسِباقُ الحُكْمِ لا يُحسَمُ بالطّلْقةِ
في سُوحِ القِراعْ
بل بصوتِ الاقتراع
غَيْرَ أَنّا قد تفرَّدْنا بشَطْرِ الجَسَدِ الواحدِ أعراقاً وأدياناً
وَوَحَّدْنا لَهُ أجزاءَهُ بالإنتزاعْ
كُلُّ جُزءٍ وَحْدَهُ الكامِلُ
والباقي، على أغلَبهِ، سَقْطُ مَتاعْ
حَيثُ رِجْلٌ تَستبيحُ الرّأسَ عِرْقيّاً
وبَطنٌ يُصدِرُ الفَتوى
بتكفيرِ الذِّراعْ
لَيستِ الدّهشةُ أَنّا
لَمْ نَزَلْ نَقبَعُ في أسفلِ قاعْ
بَل لأِنّا
نَحسَبُ العالَمَ لا يَرقى إلى (وَهْدَتِنا خَوْفَ دُوارِ الارتفاع).[83]
وينقم على الفساد
كان قديمًا يُدعَى (فساد)
تركوه حتى كبر وترعرع في بلادي.. فـ ساد !
ويقول في قصيدة “لص بلادي”
بالتمادي . . . يصبح اللص بأوربا مديراً للنوادي، |
وبأمريكا، زعيماً للعصابات وأوكار الفساد، |
وبأوطاني اللتي من شرعها قطع الأيادي، |
.يصبح اللص . . . زعيماً للبلاد |