من مجموعة “نساء من بلاد الشرق”

(ثقافات)
من مجموعة “نساء من بلاد الشرق”

أحمد غانم عبد الجليل – العراق

جولات فتاة مغتربة

تعلمت ركوب الدراجة الهوائية وأنا في سن السادسة، انطلقت بها سريعاً، وكان أبي يقف أمام عتية البيت يراقبني، صوته يعلو، يوصيني ألا أبتعد، لكني تجاوزت الحد الذي سمح لي به، تهت عن رقابة عينيه في الفروع الجانبية لشارعنا، ملتذة بفرحة الانطلاق الحر، أوزِع ابتساماتي الجذلى عل الدروب التي أمر بها، رغم معرفتي بشدة التأنيب الذي سينالني لدى العودة، لكني كنت أعرف أيضاً أن دلع توَسلي سيذهب بغضبه وأنا أسأله عن رأيه في طريقة قيادتي رغم سرعتها، وفعلاً، لم يستطع اخفاء فرحة أمحت تقطيب حاجبيه بجرأة طفلته المدللة التي استمرت في تسكعها حتى سن الخامسة عشرة، وكأغلب الفتيات، حرمت بصرامة من متعة الانطلاق الحر تلك، كرهت مرحلة عمري الجديدة التي أفقدتني براءة الطفولة وعفويتها، حلّ محلها زهو الأنوثة، وكذلك تعقيداتها، لم أفرح بها كسائر البنات، وتساءلت في وقتها:
(لمّ لا يبقى كل شيء على ما هو عليه؟).
الآن، وبعد عقود مضت كمروق الآمال في بلادنا، يتكرر ذات السؤال في داخلي، وبشكل أكثر إلحاحاً، رغم إدراكي الإجابة جيداً، وأنا أقود دراجتي، صفراء اللون، في شوارع مدينة صغيرة ذات طابع عتيق (كلاسيكي) تبعد بحوراً والعديد من البلاد عن شارع بيتنا القديم، والذي ناله من التغيير ما نال كل دنيانا، شأنه شأن حياتي التي تحولت إلى حيوات متجزئة هنا وهناك، مع كل ولد من أولادي وعوائلهم، والأحفاد أيضاَ، أكثر تواصلنا يتم عبر الهاتف وخباياه، يصدر مختلف الرنات، طنينها يصدِع رأسي أحياناً لدى تتابعه كدوران العجلتين، أخفيه في حقيبتي الصغيرة، المعلقة إلى كتفي بشكل مائل نحو خصري، السير الجلدي يمر علي نهديّ اللذين أتركهما حرين تحت ثيابي، بلا حمّالة صدر، يستنشقان، وكل مسام جسدي، نسائم الهواء الحر، ولو كان قارس البرودة، وأصابني بالزكام لأيام لا أغادر خلالها الشقة الصغيرة التي أعيش فيها بمفردي بعد وفاة زوجي، مات مختنقاً بالذكريات والحنين ولعنات السخط من غربة لم يمكنه التكيف معها، رغم عدو السنين، وأخرى لم يقوَ أن يعود إلى جديد مواجعها الصارخة فينا عبر الفضائيات ليل نهار، كان من النوع البكّاء، بينما أنا اعتدت التخفي عن الأحزان ما استطعت، ربما كان قراراً في بادئ الأمر، اتخذته بعد فترة من مغادرتنا (المضطرة) لوطن الذكريات، ثم تحول إلى طبيعة أعانتني على تجاوز الكثير من الأزمات التي واجهتنا، وما أكثرها، كادت توصلنا إلى جنون الانفصال، ولم يعد بيننا شيء كما كان.
أسندتُ الدراجة إلى جذع شجرة في متنزه صغير يقع عند مفترق طرق، ملجأ نفوري، يمر منها أولادي بسياراتهم لدى زياراتهم لي كل حين، استلقيت على ظهري فوق الحشيش الناعم والمعتنى بتهذيبه من قبل “كارل” العامل الأشيب الودود، يحييني دوماَ بابتسامة تغني عن أي كلام يبحث عنه غريبين وجدا نفسيهما في ذات المكان وكل منهما في أمس الحاجة للكلام، أي كلام، وإن كان بلا معنى للآخر، عن قصد أو غير قصد، مجرد ثرثرة تزيح عن الصدر بعض حسراته، صداقة مخفية، لعلها سبقت أغلب صداقاتي التي اكتسبتها بسرعة وتلقائية تلك الطفلة الكامنة داخلي، تتحدى مسحات الشيب المتراكمة في خصل شعري دون أن أعيرها اهتماماً، ذات الأمر بالنسبة لصفارات الإنذار القارعة في صدري، تنهك أنفاسي وأنا أبحلِق في السماء الواسعة ما بين إغماضٍ وفتحِ، سماء صافية لا تلوثها الأدخنة المنسابة في سحب بلدي، لعله لا يكون الإنذار الأخير لسكون نبضي، لكن حتى لو كان كذلك، ماذا يهم؟ لأخبر “”كارل” أن يزرع مكان رقدتي شتلة ورد فوّاحة العطر، عسى أن يصل عبقها عبر دراجة الريح إلى… إلى أين؟ لا أدري بالضبط، فعمري مدحرَج بين كل المدن التي عبرتها، والمقوَد يتفلت من بين يديّ، ذات اليمين مرة وذات اليسار أخرى ودون اتجاهات محددة مرات ومرات، لكني لم أستسلم للدوران في حلقات مفرغة، مهما كانت صعوبة ذلك، كما أني لم ألتفت إلى الوراء، ما دامت الاستدارة مستحيلة، إلا أن هذا الصباح بالذات انتابني حنين غريب لمدينتي، حنين غلب حنين زوجي الذي ألجأه إلى الصمت المستسلم، صمت أقرب إلى الخرس، تذمرت منه كثيراً، حتى عند محاولات التخفيف من حدة ذلك الانكسار الذي لم يغادر مقلتيه إلى أن أدركته المنية، لكني لست مثله، لن أترك عبث الهواجس الحيرى يسوقني إلى حتفي في عجز المشلول وسط الرمال المتحركة، حجزت في الصباح تذكرة السفر، سأرسل رسالة نصية إلى أولادي وأنا في طريقي إلى المطار، ليس قبل ذلك، كي لا يجدون الفرصة لإحباطي عن مواصلة قراري، إن لم أفعل أنا ذلك في أي لحظة جنونية، وربما تكون متعقلة؟
من الأفضل ألا أصغي إلى أي تفكير متلجلج، فقد اتخذت الخطوة الأولى والسفر بعد ثلاث أيام، ثلاث أيام تعيدني إلى وطن فارقته منذ عمر، ولا أجد مكان إقامة ينتظرني هناك، لأنتشل جسدي من وهنه وأنهض، الدراجة ترمقني، تدعوني لركوبها، علَّ خفقات القلب المجهدة تعينني على المضي، بتمهل عكس ما اعتدت، في أواخر جولاتي عبر شوارع مدينة كنت أظن، حتى يوم أمس فقط، إنها ستكون أرض مثوايّ الأخير، قبل الرجوع إلى غصون الرفرفة الأولى، لكني عاجزة عن الوقوف، فالخدر يستولي على جسدي، وطنين سؤال الفتاة المغتربة عن مرحلتها العمرية يصم أذنيّ:
(لمّ لا يبقى كل شيء على ما هو عليه؟)

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *