(ثقافات)
عن جينات الزواحف والنسور*
-
جهاد الرنتيسي
بعض الكتابة ايغال في التخلص من جينات الزواحف، واذكاء الجينات النسورية، ارى فيه ارقى اشكال التعبير عن رفض الانسان لتنميط سلوكه ومكننته، وكبح جموح خياله، وانحيازه للحرية، التي يترك بعضها بصيص ضوء يتسرب لعتمة الذات، ويفتح نافذة لرؤية العالم، جرأة البحث في التفاصيل، والحديث عن زوايا معتمة تفضح الصورة.
لم تكن هذه الاعتقادات قاعدة لكتابة “خبايا الرماد” وقبلها “بقايا رغوة” بقدر ما تكونت خلال انشغالي بهما، واظنها مفتاح مشروع لم يبدأ ليكون مشروعا، تستوقفني في بعض الاحيان حقيقة ان التعلم مما نكتبه لا يقل عما نصل اليه من خلال الاطلاع على ما يكتبه غيرنا، وتتشكل منه بعض قناعاتنا.
بدأت الفكرة من مناخات التقطها الرائي غسان كنفاني مبكرا في رائعته “رجال في الشمس”، وتعثر حضورها في كتابات السبعينات والثمانينات، لاعتبارات بينها الخوف الدفين على رغيف خبز في مجتمع استهلاكي شكل انماط تفكير البشر، لكنها لم تغب، ظهرت بعض شذراتها في رواية “ذئب الماء الابيض” لابراهيم زعرور خلال التسعينيات، واخذت مدى اوسع في رواية “اصوات الصمت” لمحمد الاسعد التي لامست تحولات المكان من خلال تغيرات ديموغرافيته، وجاءت رواية سوداد لفاروق وادي فيما بعد، لتغوص في ارتدادات نمط الحياة في تلك البلاد على شخصية الفرد.
كانت قد مضت سنوات على دخول اشباه حمولة صهريج ابو الخيزران الى المصيدة، بعد نجاتهم من الموت عطشا في الصحراء، او الغرق في بحر شط العرب، غدر الدليل، ودوريات الحدود، حين استمعت لاحاديثهم المثقلة بحنين الى زمن مضى، قادر على نقلهم من حالة نفسية الى اخرى، قابل لاعادة الصياغة بين حين وآخر، ومن شخص لآخر.
تعددت قراءات ما سمعه الطفل الذي كنت مع مرور الزمن، لتتسع الرؤية، علقت في الذهن اسئلة شغلتنا عنها تفاصيل الحياة اليومية، لتبقى دون اجابة، بينها المتعلق بنقمة ذلك الجيل على جينات السحالي، او رغباته الدفينة في الاحتفاء بالخلايا النسورية المستعصية على القهر اليومي في صحراء ادمنت محو ملامح البشر، وربما مقاومة تشييء مبرمج على افقادهم الفضاءات القروية التي اختمرت في ذاكرة ظلت مستنفرة، وفلاّحيّتهم التي فطروا عليها.
ظهرت تلك الرغبات بخجل في تداولهم لمخزون الذاكرة، مع اكواب الشاي بالميرمية، خلال جلسات مسائية في الاحواش وعلى اسطحها، كانت تلك الكائنات الحية المنتزعة من تربتها تتحدث بزهو عن مشاركة اهل البلدة في معركة “قولة”، وبحسرة على فقدان الارض مع النكبة، مستخفة بشيطنات المستعرب كلوب باشا حين نصحهم بزراعة الصبار على الاطراف الجديدة لمنع هجمات عصابات المستوطنين.
يبلغ ايقاع التحدي في نبراتهم اوجه حين يتوقفون عند ابطالهم، تنفض ارواحهم المثقلة بالاذلال اليومي غبار بؤسها عند حديثهم عن اسطورتهم الشيخ حسن سلامة الهابط بالبراشوت من طائرة المانية لاشعال الثورة والملاحق حتى اللحظة الاخيرة من حياته ، ومصطفى الرنتيسي المبعد عن الامارة في نهايات الخمسينيات لانتمائه الشيوعي، سائق الرافعة نمر صالح الذي تحول الى زعيم وطني.
نادرا ما كان بينهم حزبيون او فصائليون، لكنهم لم يعدموا التشدد، والوعي الفطري، كنت المس تحليق ارواحهم في الفضاء، حين يتحدثون عن متمردين دسوا انوفهم في السياسة وصاروا اندادا للمسؤولين عن نكباتهم المتلاحقة.
كانوا يتناسلون مثل كل الكائنات على الكوكب، وكان نسلهم يفر من اعشاشه مثل العصافير، لاهثا بنسورية جينية وراء الرجال والبنادق، لا يغفل عن التندر عليهم، والاستخفاف بوعيهم، وتحميلهم مسؤولية نكباته.
رأينا وسمعنا الكثير، واكتفينا بما يدور على السطح، فاتنا ما هو اعمق، لم نفكر طويلا في حاجات ذلك النسل للإفلات من قبضة الزمن والتحليق بعيدا عن الاعشاش دون النظر الى الوراء، في محاولة لاعادة تشكيل اللحظة، او التقاط ما فاتهم منها، خدعتنا بوصلة البنادق، وتقاذفتنا ارتدادات النكبة الاولى.
ما غادروا لحظة التأرجح بين جينات الزواحف وجينات النسور حين هبت الزوابع على الصحارى القصية، اخلت الاولى مكانها للاخرى على وقع الصدمة الاول، ولم تحل عودتها دون تفرّق القبيلة في مشارق الارض ومغاربها، توطئة لاعادة تأثيث ذلك المكان بعابرين جدد، يجترون العذاب في حلهم وترحلهم.
هي واحدة من قصص تيه القبائل الهاربة من بؤسها الى بؤس المجهول، استحقت ان ترى من زوايا الخيبات، ان تبقى ناقصة رغم تعدد السرديات، ظامئة كتربة تلك البلاد، مالحة كبحرها، تنتظر راغبا في التخفف من ثقل الذاكرة، الاضاءة على تاريخ مثقل بالاسرار، عله يضيف لها شيئا، ويواصل رحلة بؤسه في دهاليز هرم يقف على رأسه.
مثلما هو الحال مع هويات التشظّي والتذرّي، كان لا بد من شكل قادر على الاحتفاظ بتوازن ايقاع يجمع ما بعثرته ريح ازمنة متلاحقة، يتفق مع مضمون يجمع بين انغلاق قسري على ذات غريبة، ولهاث وراء عوالم اخرى، دون فقدان مفاتيح الصندوق الاسود.
اقتضى ضبط التوازن بين الجمالي والمعرفي في الروايتين مجاراة الحقائق بحثا عن سياق لائق لمخزون ذاكرة مترنحة بين مشاهدات وحكايات الهامشيين والاصلاء المهمشين الذين تلح عليّ عوالمهم منذ زمن، علني اصحح بعض ما روي عنها، انفض زيفا علق بها، واكشف عبث الصور المتوارثة، التي ظلت بعيدة عن سياقاتها.
اي اثر تتركه الكتابة عن الخيبات، يحيرني السؤال الذي يصر الاصدقاء على اقحامه، الا تخشى على القارئ من الاحباط، يستوقفني آخر يحملني مسؤولية دمار الكوكب، ما كتبته دون ما رأيت، اجيب في بعض الاحيان، لن اكون شريكا في الخداع، احمّل الاجابة بعدا اخلاقيا لدى محاولتي الدفاع عما كتبت، وقد ارفع الصوت اعلى للتعبير عن رفض المقامرة بالكتابة والقناعة بانحيازها للحياة، تعلمنا ان الكتابة تأسيس لما بعدها، وان الاعتراف بالقبح شرط الوصول الى الجمال.
-
كاتب من الاردن