الفنان التشكيلي حسن الشاعر – فنان جعل من لوحاته بحرا آمنا، تعبر منه قوارب الهجرة –

(ثقافات)

الفنان التشكيلي حسن الشاعر

 – فنان جعل من لوحاته بحرا آمنا، تعبر منه قوارب الهجرة –

محمد كريش

(فنان تشكيلي من المغرب)

” ما من شيء جميل يملأ فراغ وجودنا ويرممه، إلا وقد أبدعه خيال فنان أو فيلسوف “

لم يكن من قدر حسن الشاعر أن يكون شيئا آخر غير فنان تشكيلي. فمنذ أن كان طفلا، شغفه الفطري وافتتانه الكبير المبكر بالإبداع، صرفه عن كل إمكانية لمزاولة مهنة أخرى غير الفن، ليشكل هذا العشق الخالص والمستبد، سبيله الوحيد ليحقق من خلاله الانبعاث الحر الذي يحلم به، كما إيتاد الهوية، والذات في بعدها الروحي والعاطفي، والسيكولوجي والجمالي… يحكي الفنان عن أمر حصل له، يعتبره  بمثابة منعطف تاريخي وحاسم في حياته، أنه، خلال تمدرسه في الصغر، حصل أن اكتشف، ذات يوم،  أن “الورق” سند يمكن الرسم والتلوين عليه، فاغتمرته لحظتها، فرحة عارمة لا توصف… ثم يضيف، إن اكتشافه هذا، كان بمثابة ولادة ثانية ستشكل عالما موازيا، وحياة إشراقية بديلة؛ عبارة عن ورشة جمالية وإبداعية، للتفكير والتبصر والتعبير، سيتعرف فيها إلى أسرار ذاته وأناته وكينونته… ويستشعر، عبرها، مكامن الجمال ولطائفه، الكامنة خلف ما لا تراه العين، جمال تحدسه البصيرة من خلال شفافية ذائقتها الفنية، إنه ذاك العبور الكلي والتلقائي، إلى ملكتي الخلق والابداع، موهبتين من شأنهما بلورة نوع من الحسن والوضاءة، قد يجعلان من الوجود حيزا مؤهلا لاكتناز قدر ما، من السعادة والإشراقية، ليغدو الإنسان فيه، قادرا على مداراة شظف الحياة، بالخيال والحلم والحب، وبذلك السحر الذي لا يهبه سوى الفن وحده…

بقدر من الإسهاب، تحدث الفنان حسن الشاعر في حوار له، عن مفهوم الهجرة السرية، وكذا الخيمة الصحراوية المترحلة، والنزوح واللجوء، والاغتراب والفضاء والتربة، والوجود/الحياة والعدم/الموت، بوصفها تيمات مفاهيمية محورية في عمليته الإبداعية، فضلا عن أخرى موازية، كالظلال والزمنية والأثر، ودلالة الأسود والأبيض والرمادي… كلها مفاهيم تتقاطع وتتواشج في ما بينها لتشكل منظومة دلالية ورمزية متكاملة… وبالتالي سنكون مطالبين دوما، باستحضار هذه المواضيع المرتبطة بالإنسان ونحن نستكشف تمظهراتها البصرية  في تجربة هذا الفنان.

– حسن الشاعر، فنان بسجيتين فنيتين، تعمل  إحداهما بنفَس حداثي، والثانية بيدين عاشقتين، تختبران بشغف وسائط معاصرة، غير أنهما، تنصهران متوحدتين، في عين واحدة، ليتخلق بعدٌ متفردٌ، يجمع ما بين سطحية وانبساطية السند، وخامات ومجسمات مادية، ضمن إنشاءات وتنصيبات ثلاثية ورباعية الأبعاد… مما يمنح مجال إبداعه، شسوعا وتنوعا وثراء. فهي مبادئ فنية متباينة ومتوازية، تغدو بتظافرها، مؤهلة كفاية، لمعالجة تركيبة من مرتكزات تيمية وموضوعاتية مختلفة، جعل منها الفنان قاعدة فكرية وفلسفية أساسية، لبلورة الفعل التشكيلي لديه…

– التربة هي الأخرى تصاب بالغربة

“إنما يهربون من غربة أوطانهم وذواتهم، إلى غربة أخرى مضاعفة، في أوطان لا ترغب فيهم.”

الهجرة (والتهجير) كلمة تنطوي على رمزية الغربة والاغتراب، تحيل على اقتلاع عنيف من “تربة الأصل” صوب “تربة غيرية”، فالمهاجر المغترب إقامته هامشية هشة، كما يحيا كدخيل ضمن وجود مؤقت… وقد أورد أفلاطون في محاوراته (الجمهورية وقوانينها التنظيمية)، كلاما مفصلا عن الغربة، يشير فيه إلى وضعية الغريب الاجتماعية والقانونية… أما الأدب المسرحي اليوناني، فقد عالج – أخلاقيا وسياسيا وإتيقيا – تلك التجربة القاسية المرتبطة بالغربة والغريب، وبخاصة، في نصوص يوريبديس… إن مفهوم الغربة يختلف باختلاف المجالات والتخصصات التي ينتمي إليها الفلاسفة والمفكرين، والأدباء والسوسيولوجيون، والباحثون في علم النفس، الفردي والاجتماعي وغيرهم… أما “ماري جوسفسون” فتعتبر الاغتراب، شكلا من أشكال الانفصال عن الذات، أي انفصال عن المحيط والآخرين والعالم. بينما “سيجموند فرويد”، يرى أن الاغتراب هو شعور بالانفصام، وصراع حاد بين الوعي واللاوعي. أما “لويس فيور” يعتبر الاغتراب حالة من حالات العجز والتشاؤم، وفقدان كل مقومات الذات السليمة، والإيمان بأن الحياة فقدت معناها…

بالنسبة لفلاسفة الإسلام والصوفية، فقد تم تناول، مفهوم الغربة والغريب، والهجرة عموما، في أبعاده، الدينية والروحية، والوجودية والنفسية والعاطفية… وقد تكلم في السياق، كثير من هؤلاء، أمثال: ابن عربي في فتوحاته المكية، ابن باجة في الرسائل الإلهية، السهروردي في رسالته: الغربة الغربية، التوحيدي في الإشارات الإلهية، وآخرون كثر… ولنا في هجرة الرسول والصحابة، صورة من صور اللجوء والاغتراب…

في المتن الصوفي، يأتي معنى الهجرة: أن تهاجر منك إلى الله، متجردا من كليتك وأناتك، وحولك وقوتك وتسير، فارغا منك، إليه. والتجرد – استعدادا للهجرة – على مراتب، وكلها عقبات ومثبطات، ومعاناة ومشاق ومقاساة في الصبر… عقبات شتى من بينها، الشهوة وهوى النفس، وحب الدنيا، إلى غير ذلك… وآخرها وأمضاها: الرياسة…

هناك عطب ما، قد أصاب ما بروح الإنسان المعاصر من إشراقية وبصيرة؛ فاعوج واعوجت الطرقات التي اعتاد أن يسلكها ليصل إلى تلك الحديقة الزاهرة بداخله، ليغدو غير قادر على سلوكها من جديد، وإذ أصبحت كل وجهاته خاطئة، تفضي دوما إلى أماكن مجهولة، مظلمة ومقفرة، تصيره غريبا، مصابا بالخسارات والانفصام والاكتئاب الحاد …

التهجير ملمح من ملامح تجليات العنف الاجتماعي. أمر شاق وأليم… عملية تطبعها المعاناة… كما هي رمز للتضحية الذاتية القصوى، عبر التخلي والترك، والانفصال والحرمان… إن مفهوم الهجرة واسع جامع، حيث إنها تتعدى مجالها الطيني والجغرافي، والتاريخي والبيئي، لتشمل ذاك الكلي، المرتبط بالروحي والسيكولوجي والهوياتي، والذاتي والمعرفي والثقافي واللغوي والإثني… كما أن كلمة الهجرة، الاغتراب، الغربة، اللجوء، الاقتلاع… مصطلحات، بالرغم من تباين واختلاف مفاهيمها، ومعانيها الاصطلاحية، إلا أنها تصب جميعها في التعبير عن الشعور ذاته: القلق والمعاناة والألم، الخوف والفشل، والإحساس بالسأم والضياع، وبالسقوط والافلاس… لذا، في ورقتنا، سنعمد، تجوزا، إلى استعمال هذه المفردات كأنها مرادفات، كونها تفضي إلى نفس المعنى.

– الفن طوق نجاة، الرسام صانعه

من دهاء الفن؛ كفاءته وعبقريته على رسم لحظة غرق قارب نازح، مثلما فعل الفنان الفرنسي ثيودور جيريكو حين رسم “طوف ميدوسا”، لكن للفن كذلك ملكات أخرى، أخص وأعمق وأكثر استثنائية، تفوق قدرته تلك، على تشخيص المعالم لمأساة بحرية، إذ يستطيع، كذلك، أن يعبر عنها بطريقة مغايرة تماما، من خلال مسك حدسي صباغي، مجرد من التشبيه والمحاكاة، هو مسك لذاك الذي يتبقى من الصدى المتلاشي في الفراغ والرذاذ، ولهدير الأمواج، وتلك الصرخات المستنجدة والعويل، وأنات الأجساد المختلجة، وغصة الاختناق بالماء المالح… هاهنا وفقط هاهنا، تصبح مفردات التجريد الخالصة، تلك التي ينطوي عليها الشكل واللون، وفوران حركية اليد، وما يشع من تقاطعاتها وتضادها، من قوة وشاعرية، هي الأوفر كفاءة وتأهيلية، وبامتياز، لاكتناز مأساوية المشهد، بكل ما يطبعه من ألم وعذاب وعنف…

كلما تأملنا أعمال الفنان حسن الشاعر، إلا ويساورنا يقين بأنه قد قرر منذ البداية، أن يقيم جمالية وتعبيرية أعماله، ضمن إطار لوني مقتضب أساس، ثلاثي الأقطاب: الأسود والأبيض والرماديات، لإدراكه التام، أن التيمات التي يشتغل عليها – وهي تيمات، مجملا، تستحضر “تراجيديا” الإنسان المعاصر، الوجودية والروحية- لا يمكنها أن تتبلور محملة بكل ما تنطوي عليه من مأساة وألم، إلا في كنف تلك اللونيات… لأنها ألوان مؤهلة كفاية للإفصاح عن الجانب الخفي والمضطرب والغامض من الإنسان.

– الرمادي سليل خالص لذاكرة الرماد

الرماد، هو ذاك الذي يتبقى من أثر الحياة، بعدما تحترق المعالم وتتفحم الذوات، ويحل مكانها خراب وعدم ونسيان… غبار تلك الأتربة والأزمنة، والكائنات والبشر الذين أقاموا هناك واندثروا، ليستوطنوا، في النهاية، رواية الرماد ذاته، المنثورة في ثنايا ذاكرته… الرمادي لون يحمل في جلده وروحه ما يشبه التأبين، الذكرى والغياب…

الرماديات، أو بالأحرى، الرمادي، له منزلة بينية بين نقيضين: الأسود والأبيض، لكن، له مكنة الجمع بينها في حالة حياد و”لا انتماء… يروقه من الفصول الشتاء، حيث الضباب والغيم وزخ أمطار… الرمادي يضعنا على محك حيرة الانتماء، عالقين ما بين قطبين على طرفي نقيض. فيبقينا، هكذا، في ” لا وجهة ولا استقرار”، مقام علوق وتأرجح…

في نص سالف لي، كنت قد تحدث عن الفنان التشكيلي بشير أمال، كونه شغوفا ببناء وتركيب المعنى وبلورته، من خلال تصفيف وترتيب “أيقونات” معينة، أما حسن الشاعر، فيعمل على صياغة المعنى بمنحه نوعا من رنين ذهني، علينا إطراق السمع مليا لاستشعار صداه، كما يضمخه بماء الملح، نختبر ذوقها كلما توغلنا بروية في ثنايا مصوغته التشكيلية. مما يجعلنا ندرك المعنى والنوايا قبل أن نرى دلالتها. تلك هي ملكة إبداعية استثنائية، لا توجد في المحترفات والأصباغ، وإنما نعثر عليها في الحدس والبصيرة، وفراسة اليد…

– خامات ومواد تحتفظ بذاكرتها خارج اللوحة

 

الفن بجعلنا في مواجهة سؤال الوجود الأساسي، ويذكرنا بهشاشتنا ومحدوديتنا، كما يدعونا للتفكير في طبيعة الواقع، وموقعنا في هذا العالم.” – مارتن هايدجر.

ينتزع الفنان عناصره وخاماته من مواطنها الطبيعية وبيئتها الأصلية، ليقيمها في عوالم مستحدثة موازية، تخضع لسياقات وجودية وجغرافية، ودلالية مخصوصة، وبالتالي، على تلك الأشياء أن تتبلور ضمن حياة جديدة تخضع فيها لما يمليه مزاج القَدَر الإبداعي، وما تقرره يد وسليقة الفنان وخياله، عليها أن تكون مطواعة لرغبته، وأن تتماهى مع نسقية وظيفية سيميائية، تقتضيها سنن ونواظم فضائها الجديد…

الأخشاب والأسلاك والورق المقوى، والأغصان والأحجار المعلقة بالمسامير والحبال والخيوط؛ تشكل توليفات مركبة، يعمد الفنان إلى تبييضها وتسويدها بالطلاء، لتتفحم وتفقد هويتها وتتجرد من التعلق بالانتساب؛ لتبدو وكأنها “كائنات” مجهولة الأصل، مغتربة قد تاهت عن جذورها، تتدلى بين فراغين، أو بالأحرى، بين هاويتين: من علٍّ إلى أسفل، ومن أسفل صوب علّ، كأنها تتوسل جاذبية ما، كي تصل إلى منتهى ما، مما يعني أنها فقدت كل انتماء زمني وجغرافي، وسقطت مباشرة في نوع من عماء سرابي مطلق…

من الحبال والعصي، هناك ما يشبه سلالم لمراكب، أو بالأحرى، أوتادا لخيام بدو، تتقاطع هيئاتها وتتشابك، مرتبكة في حيرتها، كأنها تشي بتلاشي تلك المراكب والخيام الصحراوية المفترضة، حيث لم تعد تقيم سوى في خيال يد الفنان، وذاكرة اللوحة… هو ذاك الفقد الذي طال الملجأ ودفء المعية والتراب… الحبال المشدودة، تشي كذلك بنوع من تقييد لذوات مفترضة، على العين استبصارها في ما أضمره الفنان خلف دواله البصرية.

على غرار ما يشبه ميثاقا ذاتيا فنيا،(وقد سبق ذكره) اختار الفنان حسن الشاعر الاقتصاد في مساحته اللونية، ليختزلها في الأقل ما يمكن، والأكثر قوة في الإشارة المكثفة… وقد فطن الفنان مبكرا لما ينطوي عليه، الأسود والأبيض والرماديات، من نفاذ وقوة في التعبير والتأشير، ودلالة بالغة للإفصاح عن ذاك المزيج من المشاعر الإنسانية الخالصة، المتناقضة والمضطربة، تلك التي تختلط فيها القسوة والمرونة، والحزن والفرح، والمأساة والمعاناة النفسية والرغبة بالرحيل… فهي لونيات، متفردة تتسم بجلالة وسطوة جمالياتها البصرية، وقد لا يجاريها في ذاك، سوى القليل من الألوان، وليس هذا من قبيل غلو في التوصيف… ومن ذلك مثلا، فقد شكلت الثقافة اليابانية بالخصوص، من الأسود والأبيض والرمادي ومشتقاتها، معجم مفرداتها البصرية الجمالية، التشكيلية والبيئية، لخبرتها التقليدية الطويلة بجمالية وشاعرية الظلال، ومدى قدرتها على التأثير وتأطير واختزال أقصى الحالات اللإستطيقية، والنفسية والروحية، لدى الإنسان والكائنات والفضاءات والأشياء والمعمار، مما جعل تلك الطقوس والمظاهر الظلية، ترقى إلى نوع من “الأنطولوجيا للظلال” عند الروائي الياباني جونيتشيرو تانازاكي، في مؤلفه “مديح الظل”… أما الفنون البصرية، والمسرح والسينما والفوتوغرافيا – أي الفنون المرئية – فقد برعت كثيرا في توظيفها للظلال؛ لما تجد فيها من كثافة في تعبيريتها وثراء سيميائي في خطابها، فضلا عن تلك السحرية الفاتنة في غموضها، غموض مسكون بالإحساس بالالتباس والتريب… وهذا يجعلها تتماهى كثيرا مع تلك المشاهد التي تتمحور حول فكرة الرعب، والدراما، والتراجيديا، والإثارة الفانتاستيكية، والخيال العلمي، والأسطورة، والمرائي الحلمية والتخييلية الغرائبية… الظلال أكثر “الأشياء” وأعمقها دلالة عن الوهمية والسرابية، والسحرية الجمالية… وكأنها، بوابة رمزية لنوع من العوالم الموازية، التي تقيم في العتمة حيث لا تُرى، وإنما يَحْدِس وجودَها الخيال…

– هناك بعد رابع كامن، لا تراه عين مجردة

كما اسلفنا الذكر، تبدو أحجار الفنان حسن الشاعر، ضمن تنصيباته، وكأنها قد تعرضت للتهجير والتغريب، حيث فقدت نعوتها الأصلية تحت ما شابها من تسويد وتبييض، فضاع منها ارتباطها بأرض تباثها، وأضحت كأنها سائلة في سقوط معلق، مطلق لا اتصال له… أما الظلال الفيزيائية، للمقطوعات الورقية، والخامات والأحجار… المعلقة على الأسناد والجدران، فتقوم مقام بندول ساعة حائطية، يحرس استرسال الزمن الذي قد تخلل كيانها، متجليا في تأرجح بصري، تابع لحركة الضوء، وبالتالي، فذلك يمنح العمل بعدا رابعا تختزله الظلال في تنقلاتها وتحولاتها البصرية، الناتجة عن اختلاف الزوايا الضوئية، على غرار ما يحدث في العمارة الإسلامية، حيث تشكلات الظلال لا تثبت أبدا، نتيجة لتنقل الضوء، مما ينعكس بالمثل، على أشكال العناصر الزخرفية المنقوشة على الجبس… وهكذا، تداوم الظلال على تكرار دورتها، لتَثْبُت تلك الزمنية المستحدثة الموازية، المخصوصة بتلك الأحجار، وتترسخ في خيال الرائي، وفي ذاكرة فضاء اللوحة، العالق هو الآخر في نوع من “اللازمن”، فضاء تُشكل الرماديات ضبابيته وسرابيته… ليست الظلال سوى مرئيات هشة ووهمية، غير أنها بمثابة أوتاد صلبة، وصلات ذاتية رمزية، تتشبث بها الأحجار والأغصان، لتأتمنها على ما يشبه هوية ووجودا مغتربين… أعلمتنا التجربة، أن ذاكرة الناس لا تنتفي تماما، وإنما دائمة الحضور في غيابها، تفيض بها ذاكرة بيئتهم حيث عاشوا وآثارهم، وتتوغل في الأحجار والأتربة والحصى، والروائح والهواء، وأنفاس الماء، وصدى الأيام والحياة…  وبالمثل، هي كذلك أحجار وخامات الفنان حسن الشاعر، حيث يقيمها على لوحاته وعلى الجدران وعلى شكل إنشاءات وتنصيبات، ليس كمفردة جمالية صرفة، وإنما لتقاسمنا قصتها وذاكرتها، وتعبر بنا، من خلال دلالتها، إلى ما تكتنزه من روايات حميمة، ومشاعر وعواطف من أقاموا معها وأقامت فيهم، حكايات أولئك المهاجرين الذين خاضوا أمواج البحر، بعدما تجردوا من كل انتماء، رغبة في انتماءات ومصائر أفضل…

– للحزن جناحان أسودان

للتذكير، سوف لا نبالغ إذا ما قلنا إن للأسود كفاءة استثنائية للتعبير عن الحزن والحداد، وطقوس الموت والمآتم؛ لما عليه من ظلمة وسخمة، وما يشكله من رمزية للانغلاق والطمر والعمى. فقلما نجد لونا آخر بمؤهلات تفوقه في ذلك. فتلك الفضاءات المأهولة بالموت غالبا ما تتجلل بالسواد… على خلاف الأبيض، “اللون” الذي يبقى الصفة الرامزة بامتياز للصفاء والحرية والتسامي، وكل ما يرتبط بالسلام والأمل والاطمئنان… لكن، رغم ذلك، يحصل أن يتقاسم هذان اللونان سوية، وفي سياقات اجتماعية معينة، نفس التعبير عن الحزن والفرح، فمثلا، في المجتمعات المسلمة العربية، الكفن والقبور بيضاء… أما الأسود فقد يتجلل كذلك بالأناقة والتميز والفرح، في سياقات مجتمعية خاصة، كلباس الأسياد، والصفوة من المجتمع، وبدلة العريس والنجوم… إلخ.

في لوحات بعينها، كثيرا ما تتراتب فيها الخامات، وتتراكب الأشكال الصباغية، أفقيا أو عموديا، ليتخلق عبرها ما يوحي بسماء وأرض، كما بآفاق مائية قصية، تعبرها ما يشبه أطياف قوارب وهمية، مستطيلة في امتداداتها، كأنها مسارب بيضاء وسوداء تترقب أولئك العابرين السريين إلى المجهول… فيما هناك، لوحات تميزت بنوعية تخييلها وصياغتها، لتشكل نمطا فريدا ضمن تجربة الفنان حسن الشاعر، لكنها، لطبيعتها الأسلوبية، تندرج تماما ضمن نسقيته العامة: الإبداعية والفنية والجمالية والتقنية، وتنطوي على نفس تعبيري مكثف: لوحات بإمكاننا أن نطلق عليها  ” أحياز الشرانق ” و” أحياز المشايم “، وهي عبارة عن فضاءات “كوسميكية”، تشبه أوعية مدورة، مسيجة بخطيات سوداء وبيضاء، لكأنما الفنان بذاك، لا يرغب في أن تتمدد وتسيح أسرارها، أو بالأحرى، إنه “يحوطها” بتلك المتاريس الرمزية، بغية حمايتها وصونها، وإبقائها على غموضها، تكريسا لإقامة اللغز والسؤال والارتباك…هي مشيمات طافية هلامية، مثلما تطوف قوارب هائمة، بيضاء وسوداء ورمادية، ورصاصية اللون أحيانا، تتبلور متراكبة ومتقاطعة ومتجاورة، ضمن ما يشبه انسكاب سديم غائم من رماد وجير، أو انهراق سائل رحْمي، منه الشرانق تستمد تماسكها ودلالتها…

فلطالما شكلت الشرانق والمشايم أوعية لصناعة وبلورة الحياة، وتدويرها وتجديدها، وفي ذات اللحظة، يمكنها كذلك، أن تكون مكانا لإقبارها، وإجهاض أقدار ومصائر كان من شأنها أن تخوض غمار الوجود… وبالتالي، فالوضع عبارة عن مغامرة وجودية، تفضي دوما، إما إلى حياة أو إلى موت، إلا أن حتمية القدر؛ تقتضي من اليرقات والأجنة أن تمر من هناك… وذلك على غرار ما تنطوي عليه قوارب الهجرة السرية من مخاطر، فالمراكب أيضا، قد تشكل تجربة مائية قاسية ومميتة، بعكس ما يأمله ويتطلع إليه راكبوها… يدرك حسن الشاعر جيدا، أن للأسود (بالخصوص) من القوة التعبيرية، ما يؤهله لاختزال ذلك الغموض المشوب بالتشاؤم، الملازم دوما، لما قد يعترض سلامة الشرانق والمشايم، والمراكب والقوارب، فتتحول أقدارها فجأة مآسي ومآثم…

– انعطافة ختامية

– الفن يدعونا إلى التفكير في العالم بطريقة مختلفة، والتشكيك في يقينياتنا… يدعونا للانفتاح على زوايا مغايرة، للنظر إلى الأشياء.” – فريدريك نيتشه –

في الوقت الذي يقوم بعض الفنانين أمثال: ويليام تورنر(William Turner)، وفرانسيس بيكون(Francis Bacon، وڨلاديمير ڨيليكوڨيك (Vladimir Velickovic)، وهيرمان نيتش (Hermann Nitsch) بدعوتنا لمعاينة اللحظة الفعلية للكارثة، “الكاووس” (بتعبير دولوز) في ذروة تجليه، على غرار لوحة “جوديت تقطع رأس هولوفيرن” للرسام الإيطالي كراڨاج، أو ذاك الأداء الاستعراضي للفنانة المعاصرة هيرمان نيتش، الذي يقوم على توظيف الأحشاء والأشلاء والدماء الحيوانية.. هناك بعض آخر من الفنانين، كأنسيلم كييفير (Anselm Kiefer) أو كريستيان بولتانسكي (Christian Boltanski) الفنان المعاصر الذي برع في “الأداء التركيمي”… هؤلاء، إنما يقومون بتسجيل اللحظة البعدية التي تعقب الكارثة، أي أثرها، كأن هناك رغبة حثيثة في توثيق ذاكرتها…  أما الفنان حسن الشاعر، فيقودنا، ليس لمباشرة الحدثية الزمنية الآنية للواقعة، أو بالأحرى أثرها، وإنما يوقوفنا، عند تلك  الحدود الزمنية الرفيعة، لتلك اللحظة الحاسمة والخاطفة، قبل اندلاع الفجيعة، وهي حالة استثنائية غائرة في ذاك الترقب النفسي المريع، لحظة تتأجج فيها وبشدة، مشاعر اليأس والاستسلام التام، اللذين ينتهيان بالإنسان، إلى انخرام وتفكك كينونته، وهويته ووجوده وانتمائه… وهكذا يضعنا الفنان، وجها لوجه، أمام أزمة أنطولوجية كبرى أُسقط فيها الإنسان المعاصر، وأمام شبح ما ينطوي عليه مستقبله من غموض وتوجس وتشكك.

ليس هذا الاغتراب الذاتي الحاد، سوى وجه آخر لأزمة الإنسان المعاصر، “الإنسان الإله”، الفرداني المتوحد، الطائش المخرب، حيواني في شهواته وأهوائه، غرائزي ونفعي بإفراط، كائن “تملكي” واحتكاري، جشع ومتسلط، استهلاكي بامتياز، أناني متحير في جوهره، مغال في مفهوم الجندر والتحول الجنسي، تائه في دوامة حياة منمطة طالت الرقمنة روحها وعاطفتها، حياة تحكمها العولمة النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة، الموغلتان في الرقميات والأنترنيت، والذكاء الاصطناعي والروبوتيك… إنسان محتجز في ترف الصورة الرقمية وأنماطها، والعوالم الافتراضية،… بيئة ذكية محمومة، تقوم على تشييء الإنسان…

كان هناك مشروع ثنائي بقصد إنضاج عمل إبداعي مشترك، يفضي إلى مؤلف تتماهى فيه شعرية القصيدة وشاعرية التشكيل وجماليته، بين الفنان حسن الشاعر والأديب والشاعر عبد اللطيف اللعبي، ومن أثمار هذا التصاهر الفني، قصيدة بنفس ترحالي، تتبدى عبرها تيمة الخيمة المتنقلة، وتتصادى صورها الميتافورية مع إشارات وإيماءات تنصيبات الفنان:

القافلة تتوقف،

وفي الرمل الذي مايزال ساخنا

عند المكان المعين

حيث أُلقِيت المرساة

ينفجر الماء

خيمة واحدة، كفيلة بتأثيث الصحراء

– يقول رانبو: ” إن الحياة الحقيقية غائبة ومفقودة “… وفي الكلام إضمار لحقيقة أخرى، كوننا لا نعيش من الحياة سوى وهمها، لا غير…

يبدو وكأن الفنان حسن الشاعر، وهو يجعل من مأساة اغتراب الإنسان وتوحده الوجودي؛ مرتكزا محوريا في معلقاته، ليس من غايته أن يمارس اختبار تراسلية لوقائع الألم، بهدف أن نتأملها ونستكشفها، وإنما يفعل ذلك لأقامة حقيقة تلك المأساة فينا، على نحو تصير تلك المأساة؛ مأساة اغترابنا الخاص… فلكلٍّ نصيبه من تلك الغربة الدفينة المتجذرة فينا، فالشعور بالغربة، قَدَر محتوم نجلبه معنا من الأرحام كجزء من حقيقتنا، ووجودنا… كذلك، والفنان يؤكد دوام إقامته في ظلال تلك الصرخة المائية، للمهاجرين والمغتربين، المثقلة بالفواجع والأوجاع، كأنما ليقاسمنا قناعته وإيمانه بأن الحياة، حتى حين تبدو مفرطة في القساوة، بإجهازها على ما تبقى لدينا من أنفاس المقاومة، إنما تفعل ذلك رغبة في تخصيب تربتنا التي أسرفنا في جعلها مبتذلة وفاسدة، ورغبة في ترميم ما اعتل بأرواحنا؛ لتعيد استصلاح الوجود، وتعبيده مرة أخرى، بما لا يقوض إمكانية تجلينا من جديد، ضمن آفاق زرقاء آمنة، وبشكل مشبع بصفاء الرؤية والبصيرة، وبما يؤهلنا لتهذيب اليد والمعنى والدلالة. ذلك، لنصنع حلمنا الخاص، من بياض تلك الحدائق الغضة التي هي منحة أخرى، من نسياننا السخي…

– إشارة لا بد منها

جاءت هذه الورقة على خلفية زيارة لي، لمحترف الفنان حسن الشاعر، بمدينة تطوان، وقد شكلت مناسبة للتعرف إلى هذا المبدع بشكل أعمق، كإنسان وكفنان… مر الوقت سريعا أثناء حديثنا عن التشكيل ومستجداته، وعن الثقافة بشكل عام… مما تاح لي تبين شخصية هذا الفنان الخلوق، عفوي الروح، صادق في كلامه وتصرفاته، هي صفات راقية قلما تتوافر عند مبدعين آخرين… استعرضنا سوية الكثير من أعماله: تنصيبات ورسومات ولوحات وصور… شكلت أرضية لنقاش مسهب وعميق، شرح خلاله الفنان، وبشكل تفصيلي، منهجية اشتغاله، والأسس الفكرية والفلسفية، الفنية والتقنية، التي يقوم عليها منجزه، إبداعيا وأسلوبيا…

شاهد أيضاً

قراءة في رواية ( قناع بلون السماء ) لباسم خندقجي

(ثقافات) قراءة في رواية ( قناع بلون السماء ) لباسم خندقجي ( ثيمة الملامح) زينب …

تعليق واحد

  1. الشكر الجزيل لطاقم ثقافات. وموصول كذلك إلى الأخ الأديب الأستاذ يحيى القيسي، على نشركم مقالتي، متنيا للموقع مزيدا من العطاء والنجاح. مرة أخرى أجدد شكري وامتناني الدائم. محبات خالصات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *