“مسامرات في الحياة الثانية”: استشراف حياة ثانية بالشعر
ليندا نصار
يعيش الشاعر حياة تولد منها حياة موازية، إنها الثنائية التي تنطلق منها الكتابة المنفتحة على كل الاحتمالات. وتتشكل الكتابة من الزمن المعاش واللحظات المستعادة لتكون بمنزلة كنوز تحتفظ بها الذاكرة وتسعفها الأحاسيس والأفكار تضاف إليها رؤى الشاعر وتجاربه لتتجلى في القصيدة. هكذا يسكن المبدع في المسافة الفاصلة بين اللحظة الماضية واللحظة الحاضرة للحياة. وهو أمام حدود تشكل حاجزًا بينه وبين الموت، فيلجأ إلى منطقة من الاحتماء بالكتابة، والشعر يدفعه إلى تقبل المصير.
في ديوانه الأحدث المعنون بـ “مسامرات في الحياة الثانية”، الصادر عن دار الأدهم للتوزيع والنشر، يضع الشاعر المصري محمود قرني قارئَه أمام اللحظة الحقيقية للكتابة، حيث الانطلاق من عبارة العنوان “مسامرات في الحياة الثانية”، ويفتح آفاق قصائده على احتمالات العالم الميتافيزيقي، لعله يقف في مواجهة ذلك الزمن الذي تحدث عنه إرنست همنغواي، والذي يحتوي على الدافع القوي للجلوس والبدء ولو بجملة واحدة لتستمر العملية الكتابية بصدق. ومن هذه الأحاديث الليلية، تبدأ مساءلة النفس والكتابة، حيث يطرح الشاعر إشكالية قصيدة النثر، واختلاف الآراء حولها، كما يضعنا أمام ثنائيات متكاملة تتجلى من خلال الليل والنهار، الحياة والموت… فيصوّر الإنسان وتمثّلات حياته، وهشاشته أمام المواقف العظيمة والأسئلة الكبرى، بأسلوب سلس، وبين المجاز والحقيقة. ربما هي الرغبة في حياة ثانية، أو محاولة للبحث عن إمكانات الحياة من خلال الشعر، وكأن هذا المبدع سار بالشعر انطلاقًا من رغبات لاواعية ما لبثت أن استقرت في عالم الوعي لتنتج العمل الإبداعي.
الموت عنده هو الذي يلحق بالإنسان، ويحاول أن يباغته بعد المرض، فيواجهه بحكمة، وهذا لا يمنعه من أن يعيش صراعات وسط تساؤلات تدعوه إلى كتابة مسامراته عن الحياة الثانية.
إذًا، تمثّل الكتابة عنده فعل قوة، وهي التي تأخذ الأديب المبدع إلى الأماكن الآمنة، بل هي حالة من المحافظة على الذات وسط كل ما قد يصيبها من خوف وحزن ومعاناة وقلق. والأكثر من ذلك هناك القرار والإصرار على الكتابة التي ينطلق منها معظم الشعراء؛ ففرانز كافكا، مثلًا، أراد أن يكتب برغم كل شيء، أن يكتب في جميع الأحوال، من أجل المحافظة على الذات. أَوَليس الشاعر الحقيقي هو الذي يعيش الكتابة كفعل صلاة، ولا يطمئن إلى ما يكتبه، بل يقضي حياته في البحث عن القصيدة المشتهاة؟
قلبي ينبض مرتين في العام/ مرة لأنني ما زلت حيًّا/ ومرة لأنني ما زلت منتشيًا بقصيدة/ لم أكتبها بعد.
يحاول الشاعر من خلال الشعر أن يعيش لحظات تجاوزية يتخطى فيها اللحظة الحاضرة، لمساءلة نفسه، وتأمّل الأحداث، فتمتزج قصائده بالسرد الشعري، إنه التعبير عن المناطق الغامضة التي اكتشفها بنفسه من خلال تجاربه مدى العمر، فنسج كلمات استمدها من جماليات الحياة وتشوهاتها.
تمثّل هذه المسامرات دعوة إلى مشاركة الشاعر وحدته، حيث يتساءل ويتفكّر حول الروح في داخله، وتتشكّل القصائد من خلال الطابع الساخر الذي يعدّ نسقًا رافضًا للظلم والأحكام الخاطئة، بل هي إصرار لمواصلة الحياة على نحو آخر في مواجهة الموت. فتجتمع الانزياحات والصور، وتنصب عالمًا من الجمال المتعدد الوجهات.
إذًا، يكتب الشاعر محمود قرني منطلقًا من ليل يعيد فيه حساباته مع الحياة والإنسان والموت، وهو يعمل على تفكيك اليومي متحدّثًا عن ذاته والعالم الخارجيّ، وصياغة القيم الجمالية منه لتنفتح القصيدة على بلاغة اللغة، هذه اللغة التي لا تسعف جميع الكتاب إلا بعد تطويعها. ويستمد الشاعر منها أسلوبه الساخر، ويحولّها إلى قوة رمزية، تحمل رسائل تغييرية، كما يفتح المتخيل على تمثلات العالم، ويقيم في مسافة قريبة تفصل بين الحياة والموت. إنه الأسلوب الساخر خصوصًا من الثقافات الموجهة والأفكار الجاهزة المتعلقة بالمجتمع والسلطة، وهذه الأفكار نفسها هي التي يظنها الإنسان حقيقية ليدركه الوعي ويعيد التفكير فيها وينقدها ويكتشف أصلها وحقيقتها.
لعلنا أمام استشراف زمن ما بعد الموت، ففي قصائده يحكي بأسلوبه “الشعري السردي” عن التحولات التي برزت من خلال الاعترافات والتراكمات التي رصدتها الذاكرة، فما لبثت أن تحولت إلى طاقات إبداعية.
هذا التخييل للحياة وللعملية الكتابية التي جاءت كنوع من الحوار المتخيل مع بعض ملامح السيرة الذاتية، يأخذ الشاعر إلى زوايا تتحول إلى نوع من المطهر الكتابي، إذا اصطلحت تسميته، وكأنّ الشاعر يكفّر بالشعر عن ذنوبه، وهو الشاهد على الحقائق من خلال الشعر أيضًا.
فلسفة الموت التي تجلت في قصائد محمود قرني وردت عند عديد الشعراء، فالموت هاجس يسكن الشاعر، ويضعه في حالة من الترقب. بالنسبة إليه، إنها لحظة شديدة الخوف، لكنه يذكرها في القصيدة وكأنها تمهيد لحياة ثانية سيبدع فيها شعرًا. وقد برز الموت الذي يعد ثيمة، أو قضية، أساسية، لدى الشاعر، من خلال حقل معجمي وافر هيمن على نصه، فتحول هذا الموت معه إلى نوع من المحاكاة، إذ نجده يعبر عمّا فعله في الحياة الدنيا، ويعد نفسه بريئًا في أعماله التي لا تعرضه للمحاسبة، فمن هذه الفكرة يصوغ إبداعه ليصبح الموت مادة في حد ذاتها.
يقول في قصيدة “زارا” في صورة أخوية مع الموت:
لا تصدقوا الذاهبين إلى الموت/ فهم لاعبو نرد/ تغش يدهم اليمنى/ يدهم اليسرى/ علماء الأنساب يعرفون ذلك/ لكنهم قساة/ كنخاسين حمقى/ يدعوننا دائمًا لوضع أكتافنا/ تحت رؤوسنا.
وفي مكان آخر، يكتب صاحب “قصائد الغرقى” محاكيًا المبدعين وتعلقهم بالحياة الأولى:
أيها المبدعون/ ستكون حياتكم/ مليئة بمرير الميتات/ لتصبحوا مدافعين/ عن جميع ما يزول/ فليكذب الشعراء كما يشاؤون/ فهم نقائض مترفعة/ لفتنة الزوال.
كان الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا يرى أنّ العيش في حد ذاته عبارة عن موت، لأننا لا نملك يومًا يضاف إلى حياتنا من دون أن نفقد فيها يومًا آخر أقل يلتهم هذه الحياة. فالإنسان يعيش موتًا يوميًّا، وهو أمر محتّم، أو كأنّه في سباق مع الزمن الذي لن يستطيع تجاوزه. هذا الشاعر الذي يشاكس الموت ويغلبه بالشعر كفعل تخفيف من وطأة الألم أبى أن يستسلم.
نختم بجزء من قصيدة “مسامرات في الحياة الثانية”، وهي تشكل عتبة العنوان نفسه، إذ يتبدى لنا حوار ينطلق من اللحظات المتخيَّلة، واستشراف الحياة الثانية التي تضمّ أصدقاءه الذين سبقوه:
قالوا لي وأنا أموت/ إنني سأذهب إلى قبري/ متوجًا كملك على الآلهة/ وأنّ الجيل الغربي ينتظرني/ قالوا أيضًا: لتكن مطمئنًا/ فسوف يكون مقامك بجوار مسكن أوزوريس/ هكذا قال محاسب الأرواح المقدسة.
من ناحيتي/ تعرفت على أطرافي من تلك القيامة المجيدة/ رغم أنّ هول المفاجأة مزّق أحشائي/ لكنني سرعان ما أفقت من تلك السكرة/ وقلت لهم/ محاسبكم هذا رجل مضلل/ فقد أخذ ثلة من أصدقائي إلى هناك/ لكن أحدًا منهم لم يعد مرة أخرى/ كما لم تصلنا من أحدهم أية رسائل/ تقول إنه قد حصل على جعة أو حنطة أو لحم/ من قرابين الآلهة/ وربما كانوا الآن بين متشردي الآخرة.
الموت يخطف منا أصدقاءنا، في الإطار نفسه، وعن صديقه الشاعر أمجد ناصر الذي أصابه المرض ثم لحق به الموت، يكتب قرني “عشرة أبواب للسعادة”: أعرف كم هو جائر يا رفيقي/ أن تتساقط أسنانك/ على عتبة المشفى/ فتقذفها بيديك/ في وجه غيوم لندن/ لكن لا بأس/ فلم يعد لديك أعداء تحتاج إلى قضمهم.
-
عن ضفة ثالثة