العالم د.علي مصطفى مشرفة «آينشتاين العرب

العالم د.علي مصطفى مشرفة «آينشتاين العرب

فتحي أبو المجد

 

الدكتور مصطفى مشرفة، قامة علمية مرموقة في علوم الذرة، وهو ميدانه المؤكد، الذي زاول فيه قدراته العلمية واشتهر بها، لكن إلى جانب فتوحاته العلمية، وجدنا له إسهامات أدبية ملموسة، لا تقل أهميةً عن نبوغه العلمي في مجال علوم الذرة.

فالعالم الدكتور مصطفى مشرفة، له أكثر من كتاب علمي، طوّف فيها، إلى معارف وعلوم شتى، من الثقافة العلمية، ودور العلم في نهضة الأمم، وحث الحكومات على الاهتمام بالتعليم والأبحاث العلمية، وكل هذه الأفكار قد ضمّنها صراحة في فصول كتابه (نحن والعلم)، وجملة من الكتب العلمية الأخرى، منها: (مطالعات علمية، الذرة والقنابل الذرية، العلم والحياة، النظرية النسبية الخاصة)، لكن اللافت أن العالم الدكتور مصطفى مشرفة، على قدر ذلك الاهتمام العلمي الذي أبداه واضحاً في كتاباته العلمية، رأيناه قد مارس الكتابة الأدبية والصحافية، بل ازدانت مقالاته في كبريات المجلات الصادرة في مصر آنذاك، مثل (الثقـافة)، و(طباعة الألوان المتحدة)..

وذلك إبان الأربعينيات من القرن الماضي، وعالج عالمنا مشرفة في مقالاته كثيراً من الموضوعات المتنوعة، كما كتب عن زواج المصريين بأجانب، والمقارنة بين الأساليب الأدبية للدكتور طه حسين وأحمد أمين، أيضاً ضمّن في بعض مقالاته، رؤيته في الصراع الدائر بين القوتين العظميين في العالم، وأثر ذلك التوتر في مستقبل البلدان الساعية إلى التحرر، لكن اللافت أكثر لعالمنا (مشرفة)، أن يعرّج إلى عالم الآداب، ليكتب مجموعته القصصية (هذيان)، والتي نلمس في أقاصيصها اتساق نبض السرد مع تناغم لغة الحوار، فقد اختار الكاتب بعض المفردات العامية في السياق السردي، لتكون ترجماناً صادقاً لمشاعر الشخصيات الاجتماعية المقدمة.

كما أشارت أقاصيص (مشرفة)، إلى امتلاك كاتبها عمقاً فنياً ظلل جوهرها جميعاً، في حرصه على بسط روح الحكمة، بحشد عبارات الدعابة، أو ذكر بعض الأمثال الشعبية المؤيدة لسياق الخاتمة، مع تقريب الملامح الإنسانية، التي تقرب الشخوص إلى ذهن القارئ. والملاحظ أن جميع قصص المجموعة، جاءت على لسان الراوي، الذي ظل بطلاً لكل أحداث قصصه، لذا رأيناه منطلقاً شديد الحضور، من كل الزوايا الإنسانية والاجتماعية.. وفي قصة المجموعة المركزية (هذيان)، تتصارع في جوانح البطل أحاسيس متفاوتة، ما بين هذيان الضجر وعدم الرضا من جدوى الحياة بلا سعادة، ليفسح البطل لذاته منطقاً لعلاقة الأديان بأوضاع الإنسان، فهو أمر خدمه بأن يتبرعوا بالطعام لمستشفيات الأطفال، ليعود البطل من رحلة هذيانه، متمنياً أن يكون روحاً بلا ألم، ليصب فلسفته للحياة، بأن مآسي الدنيا وآلامها، ما هي إلا وسيلة تعلم الإنسان قيمة الإنسانية من حوله.

يشرح إحدى نظرياته

وتصور قصة (بورسعيد) حكاية جرّاح مصري، متزوج بسيدة فرنسية، ويعيشان معاً عيشة هانئة في فرنسا، وبعد اندلاع العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)، يقرر الزوج السفر إلى مصر، ويتنازل عن جنسيته الفرنسية، وترك زوجته وابنته هناك، مع وعد بأن يكتب لهما عن الأحوال.. وعند العودة؛  هاله ما رآه من بشاعة العدوان الوحشي على مدينة (بورسعيد)، فيقرر التطوع في الهلال الأحمر.. لتنتهي الحرب وآثارها البغيضة، فيدعو أسرته للعودة إلى مصر للعيش معه، ومراعاة ابنته التي كبرت، ويقرر وزوجته إرسال ابنتهما في بعثة تعليمية إلى روسيا، لتصبح (بالرينا) حسب رغبتها.. وبعد مضي وقت من الزمن، يفكر الزوجان بزيارة ابنتهما في الخارج، إلا أن مفاجأة تمنعهما من السفر، وصول تلغراف من ابنتهما تأخذ رأيهما في الزواج بأجنبي، وما بين مفاجأة الأب وحزن الأم، يقرر الاثنان الموافقة على مضض، ليعيش الزوجان مع بعضهما على بقايا الذكريات، فتحاول الزوجة إنعاش ذاكرة زوجها، بتذكيره بالحب الذي ربط بينهما كسيدة فرنسية اقترنت بمصري، بينما زوجها الطبيب الجراح، يحاول التماسك بعدم الضحك من أقدار الحياة، مردداً المثل الشعبي (من فات قديمه تاه)، وكأنه يشير إلى ذاته، باقترانه هو نفسه بزوجة أجنبية الجنسية، وتلك هي القناعة التي ساقها الطبيب لذاته ولزوجته، والملمح الإنساني الذي أيده بالمثل الشعبي نهاية القصة.

د. مصطفى مشرفة

ومن القصص التي تحاول إشاعة أجواء التسامح داخل المجتمع، نرى هذه المعاني مجسدة في قصة (عندما يشرد الفكر)، وكيف للإنسان أن يحول ضعفه إلى قوةٍ، يحارب بها أمة، بل إمبراطورية بأسرها، كما فعل (غاندي)، الذي أعطى للبشرية مثالاً للقوة من باطن الضعف، وقد صفعه عامل الإشارات بجنوب إفريقيا، حينما أراد ركوب عربة البيض في القطار، ولكنه قام ثانية وحاول الدخول، وتكررت الصفعات أكثر من مرة على وجه غاندي، وحينما شاهد عامل الإشارة، أن الدماء تنساب من فم غاندي، عجز عن إيذائه أكثر، وهكذا صمد غاندي، وحول ضعفه إلى قوة، بتغاضيه عن الإساءة وتحمله الآلام، برغم تكرار محاولات الإيذاء، وكأنما يحاول الكاتب بقصته أن يجعلنا أكثر قوة وأعمق سماحة، في مجابهة ضغوط المجتمع وقسوة البشر، وتلك هي رسالة الكاتب الخفية، في السياق الأدبي. ومن القصص ذات المضامين الرومانسية، تأتي قصص: (نجوى)، (إيمان)، (عندما تخبو نيران الحب)، (اللي مكتوب على الجبين).. وهي قصص تسبر أغوار النفس البشرية بما فيها من أحاسيس متباينة، وما يعتريها في معترك الحياة الملتهب، ما بين طفولة بائسة معذبة، تصارع الحرمان، إلى بشر كبار لهم أحلامهم التي لا ترى النور.

ومن القصص التي تصور جانباً من أجواء البهجة والمرح: (الحاوي- دائرة مفرغة- حسن الضعيف وحسن المخيف- منطق الشيخ عمارة- حكاية من فلسطين)، فالأولى تصور (سفروت) رجلاً يمتهن مهنة (حاوي)، فيمارس بعض الألعاب أمام جمهور المصطافين، ومن جملة ألعابه التي يمارسها، إخفاء زوجته في صندوق خشبي ثم يحكم إغلاقه، ويظهر أمام الجمهور بعد فتح الصندوق، أن الزوجة غير موجودة به، وقد اختفت فجأة، وبتكرار الحيلة مع الألفاظ التي يرددها (جلا جلا)، تظهر الزوجة في الصندوق ثانية، ويصادف أن شخصاً من الجمهور على علم بالحيلة، فيقرر مشاركة الحاوي لرغبة في نفسه، مؤكداً للحاوي أنه سيساعده وهو في الصالة، وكأنه واحد من الجمهور، حتى يحبكا المصداقية أمام المتفرجين، وهو يعلم الحقيقة أن الصندوق، الذي يواجه منصة بالمسرح، بأن هناك فتحة أسفل خشبة المسرح لخداع الجمهور، في النزول والصعود داخل الصندوق. والقصة على بساطتها، يزينها الكاتب بعبارته التي يبثها في الخاتمة (الدنيا دي يا ما فيها عجايب).

 والقصة الأخيرة، تصور محارباً أصيب في ميدان الحرب، تجرى له عملية جراحية دقيقة من دون مخدر، بينما يتخيل المريض أن الطبيب الجراح، ما هو إلا مجنون يعرفه قبل ذلك، وينتحل الآن صفة طبيب داخل خيمة التمريض، فيؤكد ذلك الأمر جراح آخر بالخيمة، أن الجراح الذي يجري العملية، فعلاً هو رجل مجنون هارب من المستشفى، ليستسلم المريض للأمر وإجراء العملية، وكأنه يقول لذاته: قد نجوت من الموت في ميدان الحرب، لكن الموت جابهني في ميدان الطب.

هكذا بدا لنا عالم الدكتور مصطفى مشرفة، الملقب بـ(آينشتاين العرب)، في مجموعته القصصية (هذيان)، فقد شهدنا قدرة كاتبها على رسم باقات أدبية مبهجة، قلما تمتع بها عالِم قبله، وربما نستعير إحدى عباراته المنحوتة من أطياف العامية، (الدنيا دي يا ما فيها عجايب)، فما أسعدنا أن نقدم هذا العالم الجليل، علماً من أعلام الكتابة الأدبية، بعد ما ألفناه عالماً قديراً، في علوم الذرة والفيزياء النووية، تحية لروحه في ذكرى رحيله، الخامس عشر من يناير (1950م).

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *