الأجيال الأدبية والنقدية في العالم العربي بين الحوار والقطيعة

تشهد الساحة الثقافية العربية تحوّلات نوعية في فلسفة الإبداع لدى الجيل الجديد من الكتاب والنقاد الذين باتوا يفرضون تجاربهم بقوة، وخصوصًا في ظل الثورة الوسائطية الرقمية التي منحتهم مساحات شاسعة لنشر متخيلهم الأدبي وتصوراتهم النقدية مع فئات واسعة من القراء. هذا النجاح الذي بات ملمحًا واضحًا في منصات التتويج، عربيًا، وعالميًا، جعل كثيرًا منهم يرفض تصنيفهم في خانة “أدب الشباب”! فكيف يرى الرواد هذا الوصف، وما موقفهم مما يكتبه الجيل الجديد؟ لماذا يرفض الكتاب الجدد مصطلح “أدب الشباب”؟ هل يرتبط ذلك بقطيعة بين الأجيال، أو هي رغبة في تأكيد هويتهم الإبداعية؟ هل هو أدب لا يمكن أن يرقى بأي حال من الأحوال إلى أدب الرواد؟ هل هنالك قطيعة بين الأجيال الأدبية؟ إذا كانت هذه قطيعة فما هي تجلياتها وتأثيراتها في الأدب العربي؟ هل يمكننا أن نتحدث عن خصوصيات فنية وإبداعية تميز هذه الكتابة الجديدة عن غيرها؟ أيمكننا القول إننا أمام حساسيات إبداعية وفنية جديدة في العالم العربي يمكن أن تضاهي الأدب العالمي؟

د. هدى فخر الدين (أكاديمية وناقدة لبنانية):
أهمية الاشتباك المثمر بين الأجيال


لا أجد كلمة “القطيعة” مناسبة لوصف علاقة الأجيال الجديدة، أو الكتاب الشباب بمن سبقهم مهما بدا في كتابتهم من تمرّد، أو رفض. فالقطيعة لا تكون إلا مع لغة ميتة. وهذه ليست حال اللغة العربية على الإطلاق. فالاشتباك، أو التنافر، أو الرفض، أو التحدي، أو الاعتراض، وغيرها من المواقف التي تنتج كتابةً جديدةً كلها أشكال من العلاقة، أو الحوار مع اللغة والتراث، وليست قطيعة. ونحن نعرف أن أهم حركات التجديد في الأدب العربي نتجت عن اشتباك مثمر مع التراث، ومع ذاكرة اللغة الإبداعية. ولكن شرط أن يكون الاشتباك المثمر، والرفض البنّاء، نابعًا من معرفة عميقة بما يُرفض، أو يُشتبك معه.
أما التطورات التي نشهدها في وسائل التواصل في ظل الثورة الرقمية فيمكن لها أن تقدم فرصًا فنية أو لغوية، كما يمكن لها أن تفتح آفاقًا جديدة للكتابة وأن تتيح أشكالًا مثمرة للتفكير في اللغة وإمكاناتنا الإبداعية الجديدة. ولكن هذا لا يكون بلا ثقافة راسخة وعلاقة متينة باللغة وتراثها أولًا. فوسائل التواصل بحد ذاتها مجرد وسائل يمكن أن نحسن استخدامها ويمكن أن نسيئَه. والواضح في أغلب ما نشهده في أيامنا هذه أنها تفتح مجالًا كبيرًا للاستسهال والإسفاف، وتقدم لأي كان وهمَ الجمهور العريض أو القراء الكثر بسبب التفاعل الآني مع أبسط عبارة أو فكرة. هذا شكل من أشكال الترفيه، لا علاقة له بالكتابة الإبداعية أو الأدب.  فالكتابة والقراءة كلاهما يتطّلب التزامًا إبداعيًا وإخلاصا للغة ليس بكونها وسيلة للتواصل والتعبير فحسب، ولكن بكونها فضاءً للتفكير والوجود. فلا يتحقق أيهما، لا الكتابة ولا القراءة، اعتباطًا أو عرضًا، كما نرى أحيانا في عالم وسائل التواصل الاجتماعي.
أما التصنيفات كأدب الشباب، أو أدب الجيل الجديد، فهذه أيضًا لا قيمة فنية، أو نقدية، لها. والافتراض بأن أبناء وبنات الجيل الواحد من الكتّاب لا بد أن تشغلهم الهموم الفنية نفسها افتراض خاطئ. قد ينشغلون بموضوعات أو قضايا متشابهة، ولكن الافتراض بأنهم يقاربونها المقاربة نفسها، أو يعبرون عنها بالأساليب نفسها، افتراض فيه كثير من التسطيح والاختزال. في معزل عن التصنيفات التاريخية، وتقسيم الأدب إلى أجيال، أظنّ أن الكتّاب والشعراء يسعون دائمًا كي يكونوا حاضرَ لغتهم ومستقبلها. هذا لا يتأتّى إلا من علاقة عميقة راسخة مع ماضي تلك اللغة وذاكرتها، مهما اختلفت الوسائل وتطوّرت السبل.

مريم الزرعوني (شاعرة وناقدة وفنانة تشكيلية إماراتية):
شبكة النقاد المغلقة


لا شكّ في أنّ للوسائط الاجتماعية دورًا رياديًا في تحفيز ونشر التأليف الإبداعي، فقد يسّر الإعلان الانتشار، واستفاد الجميع منه، حتى المخضرمين الذين عاصروا الأساليب التقليدية في النشر، وتلك الأحدث. وهنا تجدر الإحاطة بأن ليس كل من نشر بالاستفادة من التواصل الاجتماعي يندرج في فئة الشباب، فقد يدخل المرء مجال النشر، لا سيما في الأدب، وهو كهل. أنا لا أستسيغ فكرة تقسيم الإبداع إلى شاب، ورائد، ونسوي، وذكوري، إلا في ما يطلقه المبدع ذاته على منتجه، كما يُقبل تصنيف الناقد لذلك المؤلَّف، كأن يوصف بأدب اليافعين، أو قضايا النساء، أو الطفولة، مثلًا. ذلك أنّ الإبداع يُقاس بمعايير فنّية يعرفها النّقاد جيّدًا، ولربما يضيف لها التقدّم في التجربة بعدًا أعمق، والتقدم هنا لا يعني العُمر بالضرورة، إنه الاشتغال على المصادر، والتدريب، والمواظبة على تقييم الذات، والمكاشفة عبر السؤال المستمر عمّا ينتجه، ولِماذا؟
أمّا الحديث عن القطيعة بين الأجيال المبدعة فيطول، وأختصره في أمرين، مؤكدة على وجوده، الأول من منطلق الترّفع على الزميل المتأخر، عمرًا أو تأليفًا، بحيث يُنظر إلى التجربة بالبدائية والضحالة، وأما الآخر فهو انكفاء المتقدم الرائد على ذاته نتيجة النسيان والتهميش تارة، أو الإحباط أحيانًا أخرى. ذلك ساهم في ارتفاع الجدار وسماكته، وصار العبور صعبًا، ولو اتخذت المبادرات في تجاوز الحاجز.
تلك القطيعة لم تكن في حال خاصة بالأجيال المختلفة، بل تنسحب على مبدعي الجيل الواحد، فقلّما يجد أحدنا الزميل المجايل الذي يسعى في مدّ الجسور لتبادل الخبرات، وتلاقح الأفكار، والارتقاء بالإبداع. فالجميع، تقريبًا، يعمل بفردانية، وهذا لا يعيب، لكنّه يتجاوز ذلك أحيانًا، فتتكوّن مجاميع تتكرّس لنفسها، وتستأثر بالفرص إن وجدت.

يأتي دور الجانب الفكري في النتاج الإنساني، وما دمنا نتحدث عن الإبداع، فيفترض أن يحضر النقد بالتوازي. إن ما يجري في الواقع يدعو إلى التساؤل: ما هي الآلية التي يختار بها النقاد الأعمال الإبداعية؟ ما الذي يؤدي إلى غياب النقد عن معظم المنتج المتأخر؟ ما يخبرنا به الواقع أنّ النقاد أيضًا يعملون على تكريس الأسماء، والاشتغال غالبًا ضمن شبكات مغلقة، فالنقد لا يطال المتأخر، فضلًا عن الجيد المغمور، لأنه لم يتصدر قوائم القراءات، وترشيحات الجوائز المعتبرة، أو لأنّ الكاتب “س” غير ناشط اجتماعيًا، وبخاصة عبر وسائط التكنولوجيا.

د. حاتم الصكر (ناقد وكاتب عراقيّ)
أجيال الشعر لا الشعراء


لم تعد مسألة الأجيال ذات أهمية محورية في الكتابة الأدبية العربية، ولا في التلقي والقراءة، منذ زمن. تبلورت المفاهيم، وتغيرت الانتماءات. تحولت الأجيال إلى تجمعات نوعية غير معلنة تلتئم حول قضية، أو ظاهرة ما، فتختلف القناعات والتوصلات، ويتجاوز الكاتب رؤى جيله العمري، لأن الاصطفاف مع أو ضد، رفضًا أو قبولًا، لم تيعد ينبني على أساس الجيل العمري، بل الجيل الشعري، كما أتبنى اصطلاحيًا في كتاباتي منذ فترة، وبخاصة في مقالتي (أجيال الشعر لا الشعراء)، محتكمًا إلى الرؤى التي تحدد العيّنة الجيلية، وإلى المواقف والنصوص. وتكون (الحداثة) عادةً أبرز عناصر، أو مظاهر، تلك الانتماءات. فأن يكون الكاتب ذا رؤية حداثية يجد جيله الشعري في من يشاركه القناعة العامة بالحداثة، برغم الاختلاف حول تفاصيلها، ومن ثم تتنوع المناهج والأساليب، وحين برزت قصيدة النثر في الكتابة الشعرية نشأ الاختلاف، لا بين الشبان والرواد، كما في السؤال، بل بين من يرى الشعرية محصورة في التفعيلة والموسيقى الخارجية، ومن يجدها خارج تلك الحدود، وفي هيئات إيقاعية ولغوية مغايرة.
ومن الطبيعي أن يكون الكتاب الطليعيون بأي عمر، هم الذين يضيفون ويعدلون الرؤى والأساليب. ولا أجد الثورة الرقمية المذكورة في السؤال ذات أثر مهم في التمييز والتصنيف الكتابي فهي ذات أعراف ومزايا لا تستطيع وحدها أن تكون بديلًا عن الكتابة المألوفة. بل على العكس تم استغلالها  لنشر المحتوى المتخلف وأدت إلى انتعاش التقليدي والشعبوي، لا سيما في النقد، وإلى حد ما في الكتابة الشعرية.
الأدب الشاب، أو أدب الشباب، لم تعد له الحمولة المعرفية التي اعتدناها في عقود سابقة، كنظير أو ندٍّ لكتابات الرواد. كثير من شباب الأدب اليوم يقفون مع التقليدي في الكتابة، وكثير منهم لا يصنف نفسه على أساس عمره، أو جيله. الشكوى تأتي غالبًا من الاهتمام النقدي بالرواد وتابعيهم، من دون الاهتمام بالتجارب الجديدة والمنتمية إلى الحداثة في طورها الأخير. وهي شكوى لها مبرراتها، ولكن ذلك لا يخص الشباب، أو يقصدهم بخاصة. إنها تأكيد على وجود النص المغاير، والكتابة الجديدة، التي تتطلب تلقيًا يرقى إلى مستجداتها الجمالية. من هنا أجد القطيعة بين رؤيتين، لا بين جيلين، أو رواد وشباب.
الحرية التي جاءت بها الكتابة الجديدة تتجلى شعريًا في قصيدة النثر بخاصة، وفي السرد في الروايات والقصص التي تتخذ الذات موضوعًا، والحداثة أسلوبًا ورؤية. أما في النقد، فالانفتاح المنهجي أغرى النقاد بتبني منهجيات مختلفة ورؤى معاصرة، تنهض لموازاة التحديث في الكتابة ذاتها.
وهذا وحده سيصنع الحساسية المطلوبة في الأدب، وفي مستقبله، وأيضًا في تجاوز المحلية إلى الدائرة الإنسانية التي بدأ الكتاب العرب يدخلونها  ببطء، وبعوامل كثيرة لا مجال هنا لشرحها.

د. زهيدة درويش جبور (أكاديمية وناقدة لبنانية):
الرواد والشباب يلهمهم التراث


لطالما شكلت التصنيفات موضوع جدل، وانقسمت حولها الآراء في الأوساط الأدبية والنقدية. إذ يذهب المدافعون عنها إلى أنها تهدف إلى التأكيد على الهوية الخاصة لإنتاج ما، وإلى تحديد موقعه في سياق الحركة الأدبية عمومًا، وذلك بمعزل عن أي تقييم معياري؛ أما الرافضون للتصنيفات فحجّتهم أنها تنطوي على بعدٍ إقصائيٍ؛ فمصطلح “الأدب النسوي” في نظرهم يرتكز على نظرة دونية لهذا الأدب الذي لا يرقى إلى مصاف الإبداع الأدبي الذكوري، كذلك الأمر بالنسبة للأدب الفرنكفوني الذي ينتجه كتاب غير فرنسيين، ينظر إليهم المدافعون عن مركزية اللغة الفرنسية بوصفهم طارئين، أو متطفلين على هذه اللغة. وقد لجأ البعض لحل هذه المشكلة إلى استنباط مصطلح “أدب العالم”، في محاولة لتجاوز الحدود الفاصلة بين الثقافات واللغات، مع العلم أن لكل لغة خصوصيتها بوصفها تغتني بمحمولات ثقافية تميزها. ويظهر مصطلح “أدب الشباب” اليوم ليواكب الغزارة اللافتة للإبداع الشبابي في العالم العربي، خاصةً في مجال الشعر والرواية.

وفي اعتقادي أن هذه التسمية إنما ترتكز على مبدأ تعاقب الأجيال، ولا تنطوي على أي بعد سلبي، أو تهميشي، خاصةً وأن الجوائز التي يحصدها الكتاب الشباب تبرهن على قدرة حقيقية على الإبداع. شخصيًا، لست من القائلين بالقطيعة بين الأجيال، خاصةً وأن الأدب الحقيقي لا يولد من عدم، وأن أحد شروط الإبداع هو احتواء الموروث الأدبي والثقافي للغة معينة للتمكن من الإضافة عليه وابتكار الجديد. ولو اطلعنا على مسار الحداثة، لوجدنا أن روادها، وإن أعلنوا في بداياتهم القطيعة مع من سبقهم، إلا أنهم عادوا عند نضوج تجاربهم إلى التأكيد على التواصل بين القديم والجديد، والتأكيد على أن الحداثة ليست زمنية، بل معيارها هو طبيعة النظرة إلى الإنسان والوجود بشكل عام. وإلا كيف نفسر أننا لا نزال في القرن الحادي والعشرين نتفاعل مع المتنبي والجاحظ وأبي تمام والمعري والحلاج وجلال الدين الرومي، وأن نظرية ابن خلدون لا تزال صالحة للإجابة عن أسئلة راهنة، وأن كتاب “النبي” لا يزال مصدر إلهام وحكمة. ومما لا شك فيه أن “أدب الشباب” يطالعنا بموضوعات جديدة تفرضها تحولات الواقع والمتغيرات الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، وتلفتني في هذا السياق ظاهرتان: الأولى استلهام التراث الصوفي، سواء في الرواية، أو في الشعر، كأن الكاتب الذي تحاصره الحضارة الاستهلاكية المعاصرة، وتهدده بالتشيؤ، يلجأ إلى الغوص في أعماق الذات الإنسانية ليتصالح مع البعد الروحاني الذي يرقى به إلى ما يتجاوز كينونته المادية. والثانية هي تحرر الكتابة النسائية من النرجسية، وارتقاء وعي الكاتبة إلى المستوى الإنساني العام في محاولة للتعبير عن الأنثى الجديدة الحاضرة في قضايا عصرها، بعد أن اتسعت دائرة وجودها لتحتضن الواقع من حولها بكل تعقيداته ومشكلاته. مع ذلك لن يفوتني التنويه بأن لتقنيات الاتصال الحديثة في مقابل دورها الإيجابي، كمنصة يتوسلها الكتاب الشباب للتعريف بنتاجهم، أثرًا سلبيًا يكمن في تسطيح مفهوم الإبداع نفسه، بحيث يطغى الكمّ على النوع، وتستباح حرمة الكتابة الأدبية، ويكثر عدد المتطفلين على الأدب. من هنا نجد الحاجة المتزايدة إلى النقد الرصين، ليواكب غزارة الإنتاج في مجالي الرواية والشعر، حتى لا نقع في الفوضى وتضيع البوصلة.

د. أنطوان أبو زيد (أكاديمي وشاعر وناقد لبناني):
الحساسية دالّة على تفرّد الأديب وتمايزه


بداية أقول إنه أمر طبيعيّ أن يصنّف الشاعر، أو القاص، أو الروائي، الشاب، نفسه ضمن فئة عمرية معيّنة، ولا سيما الأدباء الشباب. ولكنّ هذا المعيار قد يكون غير صائب، إذ تكون جودة العمل ونضجه وجمالياته هي المعيار الأدقّ في تصنيف شاعر، ما دمنا ننظر إلى الأمر من منظار الأعمار. وبالتالي، تختلط الأحكام على الأدباء الشباب عندما ينظرون إلى أنفسهم من منظار فئتهم العمرية. إلاّ إذا شاء أغلبهم الخضوع لهذا الاعتبار.
وعلى العموم، يمكن القول إنّ ثمة اعتبارات شائعة، وأخرى مدروسة، لمن شاء، من الشعراء الشباب، تقييم شعره ذاتيًا، وهي المهمّة الأصعب، وشعر الآخرين، ومنها: مدى إنجاز أعمال شعرية من حيث الكمّ، ومدى إنجاز تقدّم نوعي أسلوبي، أو مضموني، ما في شعره، وذلك بناء على مقارنة لازمة مع شعر آخرين، مجايلين، أو قدماء، أو غيرهم. ولا أحسب هذا الاعتبار شأنًا خاصًا بزمننا، بقدر ما هو شائع ومتّبع منذ كان الشعر، اليوناني والعربي والعالمي. أما رفض هذا الاعتبار، أو القياس المنطقي من البعض، فلا أظنّ أنه عائد بالنفع له.

وللإجابة عن سؤال عما إذا كان ثمة قطيعة بين أجيال الأدباء، أقول إن ثمة أرضًا مشتركة تكوّنت عبر الزمن، أو مضمارًا يتقاسم حدوده شعراء، أو كتّاب، تراكمت أعمالهم وسط إطار فكري وأدبي، وربما سياسي مرتبط بحقبة معيّنة، ولم يكن حكرًا عليهم وحدهم، في زمنهم. وما على المتسلل إلى ذلك المضمار سوى إثبات جدارته، وجدّته في ما يقدّمه، أو ينسحب من تلقائه. وبهذا المعنى، لا يتقصّد جيلٌ من الأدباء أن يقطع مع أجيال أخرى، وإنما هي طبيعة الانتماء إلى جيل، بكلّ قضاياه ونعمه ومشاكله وموضته ومستويات لغته، هي التي تحسم التصرّف مع الأجيال، وفي ما بينها. وهذا يعني أنّ على كلّ جيل أن ينمّي إطار عمله وتفكيره وإبداعه، ونشر هذا الإبداع، مع إقرارنا بصعوبة هذا الأخير حتى الاستحالة، في ظرفنا الحالي.
أما الحساسيات الأدبية، سواء تعلّق الأمر بالشعر، أو الرواية، أو الفنّ، أو المسرح، على أنواعها، فلا أحسبها مسقطَة من عل، ولا هي نتاج مؤامرة محبكة بالخفاء على ما يتصوّرها البعض؛ وإنما أراها نتاجًا أو محصّلًا لمجموع خبرات الشخص الشاعر أو الأديب، وتجسيدًا لميوله ومعارفه، وتبحّره من مجال علمي، أو أدبي، غربيّ، أو شرقي، يغترف منه، أو يتناصّ معه على نحو مبدع. ولا شأن هنا للجماعات، أو الفرق الناجية، على الإطلاق. وعليه، فإنّ الحساسية هي ما يحسن بكلّ شاعر، أو أديب، أن ينمّيها لتكون دالّة على تفرّده وتمايزه وسط فريقه، أو جماعته، أو جيله الذي يحسب فيه.

د. محمد الولي (أكاديمي وناقد مغربي):
وسائل التواصل منابت لأشكال كسل فكري وإبداعي

أعتقد أن من أكبر الثورات في عالمنا المعاصر هي تلك التي عرفتها وسائل التواصل. لقد أتاحت هذه الأداة السحرية فرصًا غير معهودة في التواصل الإنساني. فالثورة التي عرفتها هذه الوسائل في عصر الإنترنت هي أن الأبواب أصبحت مُشرَعة أمام كل الناس. كل الناس يمكن أن يرسلوا ما شاؤوا من الخطابات. لقد انتهت عصور تقييد التواصل، وحصره في فئة صغيرة جدًا. وهذا الطوفان التواصلي هو الذي جعل أحد المفكرين الغربيين يحتج بمرارة وهو يرى الدهماء يتناولون الكلمة، ويخوضون في ما كان مقصورًا في السابق على أفراد من الأمة بأكملها. يقول أمبرتو إيكو: “إن شبكات التواصل الاجتماعي أتاحت للفيالق المغفلة فرص الكلام؛ وهي التي لم تكن في السابق تتكلم إلا في الحانات، كما أنها لم تكن تمس الناس بأي أذى. تلك الفيالق المغفلة كانت تُجبَر آنئذ على الصمت فورًا. أما اليوم فإنها تتمتع، مثلها مثل الحائز على جائزة نوبل، بالحق نفسه في تناول الكلمة”.
في هذا الطوفان التواصلي، كثيرًا ما شاهدنا نصوصًا ضعيفة، وربما ضعيفة جدًا، تحظى بالتقدير، وأحيانًا بالجوائز! إن هذه الوسائل التواصلية تعد منابت لكل أشكال الكسل الفكري والإبداعي. وفي المقابل، هنالك جمهور يتصيد الفرص لكي يختبر قدراته الكسولة التي تعوض سنين من الكد والتحصيل. بعد أربعة وعشرين قرنًا تحقق ما كان يتخوف منه أفلاطون!!
طبعًا، يكفي أن تكون الكاتبة جميلة، والكاتب يعرض علينا صوره الجديدة كل صباح، بل يكفي الظهور المتكرر لوجه ما لكي تحصل الألفة والقبول. ويكفي أن يفوز كاتب ضعيف بالتصفيق والتنويه. كما يكفي أن تكون ماهرًا في اللعب بعواطف الجمهور لكي ينال المبدع المزعوم الترحاب المزور.
صحيح أن هنالك في خضم هذا الطوفان كثيرًا من النصوص الجميلة، إلا أنها قد لا تثير الانتباه. بخاصة أن هنالك حالة من السديمة الفنية والفكرية تجعل مسألة الفرز صعبة جدًا. بل يحدث ذلك بسبب انفلات النصوص الإبداعية الجيدة وغير الجيدة من عقال أية مؤسسة رقابية. إن الخبراء أنفسهم، هنا، وأقصد نقاد الفن عمومًا، يعيشون في حالة من فقدان البوصلة، أو اضطرابها.
في الأمس القريب، كنا نطلب كتابًا لمؤلف ما، أو لناشر ما، أو لمجلة ذائعة ما، وكنا متيقنين أن اختيارنا ذاك جيد. إذ كان ذلك نتاج خبرتنا، وتأكدنا أن تلك النصوص والمنابر امتلكت تزكية الخبراء. واليوم، وبرغم ادعائي أن هذه العلامات ما تزال حية، فإن حشود “المبدعين” و”النقاد”، وسطوة الهوى، وخفوت السلطات العلمية والفنية،  في هذا الطوفان الخطابي، يترك ندوبًا وتشوهات في جسد الإبداع الحق.

* عن العربي الجديد (ضفة ثالثة)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *