جماليات الالتزام في مجموعة: “فعله صغيرهم هذا عنان” للشاعر صلاح أبو لاوي

(ثقافات)

 

 جماليات الالتزام في مجموعة: “فعله صغيرهم هذا عنان” للشاعر صلاح أبو لاوي

محمد لافي

      منذ البدء، أعترف أن هذه القراءة لمجموعة الشاعر صلاح أبو لاوي، لا تخلو من التعاطف، و الخروج قليلاً على متاريس النقد المحايد، أقول: قليلاً، فتجربة الشاعر تمتلك من المقومات الجمالية: مبنىً و معنى، ما يؤهلها للصمود في مواجهة النقد الموضوعي الصميمي، الذي يلتزم المعايير الجمالية، و ينحاز إليها، من دون الالتفات لأية مؤثرات، أو اعتبارات خارج سياق هذه المعايير.

     أما مردُّ هذا التعاطف، أو الانحياز الطفيف اللاإرادي، فيتمثل في ثلاثة مبررات، لم أجد لي فكاكاً منها أثناء قراءتي لهذه المجموعة:

أول هذه المبررات، أنني أقف على الأرضية نفسها، التي يقف عليها الشاعر، أعني خيار الالتزام، سواءٌ أكان هذا الالتزام بعناوينه العريضة: الحقوق الوطنية الثابتة، الراسخةُ، المقدسةُ، لشعبنا في التحرير الناجز لكل فلسطين، أم بعناوينه الصغيرة، تلك التي تتلمس الوضع الانساني في شتى مناحي الحياة، و هي لا تحيد، بأية حال، عن مصبّها الأول العريض، ممثلاً بنضالات شعبنا.

     أجل، نحن من هذه الفئة، هذه الفصيلة الملتزمة بقضايا الوطن و الانسان، خروجاً على أجندة الخراب العام، بكل مغرياته، من جوائز، و أعطيات، و مهرجاناتٍ مشفوعةٍ ببريقٍ، و وهج إعلاميٍّ زائفين.

     و ما هو جديرٌ بالاحتفاء، و التعاطف مع تجربة صلاح أبي لاوي، هو هذا الالتزام العفوي الواسع، النابع من الجواني، و الذي بدا جليّاً في مجموعته الشعرية الأولى الموسومة: “ليتني بين يديك حجر”، المكرسة للانتفاضة الأولى، و هو التزامٌ توطدت أركانه، و علت مداميكه، في مجموعاته اللاحقة، على رغم كل رياح الخراب، التي تعصفُ بالواقع: فلسطينياً و عربياً و دولياً.

     يدركُ الشاعر أنه يقف على أرضية خطرة رجراجة، تتقلص مساحتها الصغيرة، أساساً، من تحت قدميه، في سياق هذا النكوص الجمعي للشعراء، و المثقفين من مجايليه، بحثاً عن مغانم آنية، و شهرة زائفة، لكنه، مع ذلك، يظل منافحاً عن موقعه، عن هذه المساحة الصغيرة من الالتزام اللاإرادي العفوي، بما يحتمه من ضريبة باهظة.

     و لأنه يعي أن هذا الانتماء بطولة، حتى لو كانت بطولة فرية دونكوشيتيه، في مواجهة أعاصير التطبيع، و في مقدمتها التطبيع الثقافي، و لأنه يعي أن هذا الانتماء هو هوية الابداع الصميمي، المنتصر للثقافي الاستراتيجي، الابداع المنتصر للوجدان الجمعي… لأنه يعي هذا كله، يقف منشداً، محتفياً بذاته المنافحة عن موقعه الثقافي الصميمي، ليراها قمراً في هذا الليل المعتم العميم.. نقرأ:

(آخر الليل، كان عنان

يفتش عن نفسه في الصور

فرأى ولداً أثخنتهُ البحارُ،

و حاصره الليلُ في كلّ برْ

ولداً كالقمر).

و على أرضية هذه المناجزة، ينشدُ الشاعر للشهداء، و الأسرى، ليحتلَّ هذا النشيدُ مساحة وافرة من المجموعة، ممجداً بطولاتهم في زمن عزّت فيه البطولة، و لوّنت الهزيمة سماءه و أرضه، بسوادٍ طافح غامر، إنه زمن العمالة، و السمسرة، و الاستخذاء… نقرأ:

(و إن أباك قتيلْ

و إن زمانك ولّى

و هذا زمانٌ عميل).

و لأن زمن العمالة، و السقوط المعمم، خلا هذا الفصيل المرابط من الأنبياء الصغار، يتكئ غناء صلاح أبي لاوي على خميرة من الحزن النبيل، الحزن الفاعل، الحزن الانساني الذي يقود القصيدة أماماً، و يمنحها موقعاً متقدماً في الجمالي على المستويين: المعنى و المبنى، خاصة في تلك النصوص، التي تخفتُ فيها نبرة الغضب، أعني النصوص/ القصائد المتحررة من وطأة المناسبة الآنية، حيثُ نقرأ الالتزام الموقّع ببعد جماليٍّ مصفى: فكرةً، و صورةً، و موسيقى.

     و من خميرة الحزن و الآسى هذه، ينهض المبرر الثاني لتعاطفي مع الشاعر، في محاولة للتحايل قليلاً على جهامة النقد، و قواعده الصارمة، و هي الخميرة التي أنجزت نصوصاً كفيلة بنشر عدواها، لتأخذني لموقع الشاعر، و مشاركته أحاسيسه أثناء عملية الكتابة، إنها سلطة النص إذاً في اكتمال أدواته الفنيّة أولاً، و سلطة واقع الحال في دفع ضريبة الالتزام ثانياً.

     ثمة ثلاث قصائد في هذه المجموعة، تمثل علامة فارقةً في عدواها، و أثرها الفاعل في ذات المتلقي، تأسيساً على اكتمال شرطها الجمالي: معنىً و مبنىً/ مضموناً و شكلاً، لتبرز وعي الشاعر لرسالته، حيث الالتزام يفرض عليه عبئاً استثنائيّاً، ممثلاً بالاشتغال على قصيدته، لدفعها إلى مواقع متقدمة فنيّاً، و لتكون جديرة بحمل رسالته المنحازة للحياة، إذ ليس المضمون وحده شفيعاً جماليّاً في غياب اكتمال البناء الفني.

     هذه القصائد الثلاث هي: “بعد خمسين عاماً أريد أبي” ، “لا أريد الحديث عن الموت هذا المساء” ، و “ثنائيّة القرى”.

     في القصيدة الأولى يحضر الموت نقيضاً للحياة، التي يتشبث بها الشاعر، نقرأ:

(أريد أبي لا أريد سواه

أريد أبي ساعةً قبل أن ألتقيكَ،

فإنّي أحب الحياة

لماذا تريد هلاكي إذن كي أراه) ؟!

تحت وطأة الفاجع، يفزع الشاعر إلى أبيه، و الأب هو رمز الحماية، و موطن الأمان من صروف الدهر، و تقلباته، و في هذا الاستحضار للأب تتدافع الأسئلة كألغاز عصيّة على الأجوبة الشافية القاطعة، و هي أسئلة في الحقيقة تدفع معاناة الوجود الانساني على ظهر هذا الكوكب إلى الواجهة، منذ فجر الخليقة حتى الآن…

     و من موقع الطفل الشاعر، و لجوئه إلى الأب، و من موقع التثبت بالحياة، و الانتصار لها في مواجهة الغياب/ الموت، تتكرر الجملة الشعرية، كلازمة للقصيدة: (أريد أبي لا أريد سواه) كرابط فني، يمثل مرجعية القصيدة/ الحياة في مواجهة الغياب/ الموت.

و المفارقة اللافتة أن الشاعر في نشدانه الحياة يقارع الموت بالموت، و ذلك عبر استحضار الأب، الذي هو ميت أساساً، و عبر رجائه الموت استمهاله لرؤية أبيه قبل رحيله هو، أي الشاعر، و هذه اللعبة المأساة تلخص في نهاية المطاف بشاعة الواقع المعيش، و ثقلَ وطأته على الشاعر.

     و مجدداً تلعب خميرة الحزن الواعي دورها في تعرية الواقع من جهة، و دورها كمؤثث لجماليات النص على المستوى الفني، فمن دون هذه الخميرة ما كان لنا قراءةُ هذا البعد الجماليِّ الفلسفي، الذي يحمل في طويته فداحة الواقع، ممثلاً بالحق الانساني المغدور، عبر استحضار الملكين الموكلين بإستنطاق الميت، و مخاطبةِ أبيه عمّا إذا كانا قد سألاه عن فلسطين.

     و إذا كان النص ينطوي على إشارات متمرّدة في بعدها الديني، فإن خاتمته تقول مسوغات هذا التمرد، تأسيساً على معاناة الشاعر، التي استدعت استحضار الأب كطوق نجاة، و ملجأ للحماية و الطمأنينة المفقودين. نقرأ:

(أريد أبي لأراني بعينٍ من الغيبِ تسعفني

لا بعينٍ تطاردني للهلاكْ

لقد عشتُ خمسين عاماً يتيماً

و ستين عاماً طريداً بلا وطنٍ

و أبي كان لي وطناً أستجير بهِ

حين تحضنني في سلامٍ يداه

أريد أبي لا أريدُ سواه)!

و إضافة لما أشرنا إليه، فإن على هذه القراءة التنويه إلى خاصيّة أخرى كامنةٍ في هذا النص، و هي متعلقات البناء الجمالي الذي يشتغل عليه الشاعر، و هو جدالية الخاص و العام، إذ يستدعي خاصُّ الشاعر، مترجماً بإستحضار أبيه، خاصيّة العام، ممثلةً بالوجعِ الجمعيِّ الفلسطيني، تأسيساً على رؤية الشاعر، و وعيه، واندغامه بالواقع، و الحوار معه، و سنرى هذه الخاصيّة، متمظهرةً على نحوٍ جليّ في نصّه التالي الموسوم ب “لا أريد الحديث عن الموت هذا المساء”.

فالشاعر يناجز الموت، و يقارعه بحشد مقومات الحياة: القصيدة الآسرة المشتهاة، تلك التي لم تُكتبْ بعد، الواحة موئل الظباء في الصحراء، و الوردة التي تتفتح على حين غفلةٍ من الموت خلف جدار الحديقة، لكن بشاعة النقيض/ الموت تحضر هي الأخرى، حضوراً فجائيّاً، و فجّاً، و تصادر كلَّ ما يؤثث له الشاعر في مواجهة هذا النقيض، و ذلك عبر جملٍ اعتراضيّةٍ، تسهم في اصطياد الجمالي، و إضافته للنص، على الرغم من مأساويتها، طاردةً كل ما يرهم بالخلاص… نقرأ:

( لم نمت لنموت،

لماذا أحنّطُ موتي، و أرسله خلفكم)؟!

ثم تندفع الجملة الاعتراضية الصادمة، التي يحشرها الواقع المتردي في طيات القصيدة، كقطعٍ لسياق الحلم، أو محاولة استبعاد الموت، و شطب هاجسه… تقول الجملة الاعتراضية على لسان المذيع، الذي هو ترجمان الواقع:

( في المسيرات هذا النهار ارتقى قمران)

و في محاولة الشاعر تجاهل صوت المذيع/ الواقع.. نقرأ:

( سأكتب عن شجر لا يموت)، لكن هذه الكتابة المتفائلة، القافزة على معطيات الواقع سرعان ما تحذفها جملة اعتراضيّة صادمة على لسان المذيع:

( أسيرٌ توفّيَ جرّاء نقص الدواء!!)، و بعد اللواذ مجدداً، بالأب رمز الحماية و الطمأنينة، و في محاولة للهروب من تراجيديا الراهن، و التحايل عليه، يحرك الشاعر إبرة المذياع، مستقرّةً على أغنية عاطفية، لا علاقة لها بالوجع العام، لكن هذه الأغنية تسوق جملة اعتراضية جديدة، تنصب شرك الواقع الذي لا فكاك للشاعر منه… نقرأ:

( لم تكن لفلسطين أغنيتي

لم تكن أم كلثومٍ امرأةٌ تتقن الموت).

لكن أم كلثوم التي لا تتقن الحديث عن الموت تسوق جملة اعتراضيةً، عفويّةً صادمة، تنكأ الجراح مجدداً: ( أهرب من قلبي أروح على فين)؟!

     على هذا النحو تفصح الجملة الاعتراضية عن مهمتها في تأثيث الجمالي في النص/ القصيدة، سواءٌ أكان ذلك في ما يتعلق بالمعنى، الذي يستمد نسغه من الراهن المعيش، تأسيساً على خاصية الالتزام بالهم الجمعي، و إثرائه، و دفعه إلى الواجهة، بكل ما تحمله هذه الخاصية من قيم الانتصار للحق، و الخير، و الجمال، و هي قيم الحياة نقيض الفناء… أم في ما يتعلق بالمبنى، الذي يتحقق في اكتمال الأدوات الفنية: لغة، و صورة، و ايقاعاً.

     و وقوفاً على النص الثالث: “ثنائيّة القرى” تتحدد الهوية الجديدة لقصيدة المقاومة، كاسرة إطارها القديم، الذي يتحدد في العناوين العريضة للصراع مع الواقع، غير ملتفتة للهامش، ممثلاً بالتفاصيل الصغيرة، التي تفتح مديات أوسع لعبور الانساني من بابه العريض.

     إن لقْط الهامش في جزئياته، و تفاصيله، يمنح النصّ ثراء في الأفكار، و الرؤى الابداعية، التي تجد ترجمتها في الجدالية الآسرة بين المحتوى و الشكل لينهض كل منهما بالآخر، مانحة الصوت الشعري خصوصيّته، و تفرده، بعيداً عن السباحة/ الضياع في العناوين، و القضايا الكبيرة، التي تسفر غالباً عن ضياع الخصوصيّة، و تشابه الأصوات الشعريّة، و تكرارها.

     القرى واحدة من تجليات الهامش، المحتشد بالصور المتواترة، التي استطاع صلاح أبو لاوي لقطها، و لظمها في سلك واحد، لتقول المشهد العام لحياةٍ فوارة، زاخرة بالحركة، نقيض السكون و الموات، دافعة، أي الصور، البراءة الأولى إلى الواجهة كإشتراطٍ و مقوم أساس لمظان الشعر، و ينابيعه الأولى، التي تتأسس عليها سطوة الشعر، و جماليته من جهة، و إنسانيته العابرة للحدود الجغرافية من جهة ثانية.

     إذن فلقط الهامش، و الاحتفاء به هو الابن الشرعي لمقولة الالتزام المنتصر للحياة بعيداً عن فجاجة القشرة الخارجية، و سطحيتها، تلك التي تمثلها العناوين العريضة.

     و عليه يكون الالتزام أساساً لاحتشاد الجمالي من دون التعارض مع القضايا و الهموم العامة، التي يتكفل الهامش عبر تفاصيله بترجمتها وجعاً إنسانيّاً مصفى من الهتاف و المباشرة.

     و مجدداً، القرى هامش لصيق بوجع الشاعر، و انتمائه لواقعه، و ترجمة هذا الانتماء يتمظهر في حشد الجمالي، و آية ذلك تساؤل الشاعر عن نوم القرى، الذي يؤجل حركة الحياة الموارة فيها، و لو مؤقّتاً.

     مسألة أخرى تؤثر إلى هذه الهوية الجديدة لقصيدة المقاومة على مستوى المرأة كرمزٍ للوطن في المقطع الشعري ذائع الصيت أعني قوله:

( آه يا جرحي المكابر

وطني ليس حقيبة

و أنا لست المسافر

إنني العاشق و الأرض حبيبة)

لقد اتسع مفهوم هذا الرمز، لتمثل المرأة الافتراضية كل معاني الخير و الحق و الجمال، انتصاراً للحياة في مواجهة الموات، من دون الالغاء لمدلول المرأة، أو شطبه – بتاتاً – كرمز للأرض.

     هكذا تظل مجموعة: ” فعله صغيرهم هذا عنان” علامة فارقة في تطور تجربة الشاعر، في سياق الالتزام الواسع بقضايا الوطن و الانسان، و هو التزام يؤثث جمالياته في الاشتغال الواعي على قصيدته، و دفعها إلى مواقع متقدمة في حضور جدالية الخاص، و الجنوح إلى الانساني من بوابة الوطني الفلسطيني، و القومي العربي على أرضية تعرية الواقع، و نشدان البديل، لتكون شهادة فنية مقنعة لتطور قصيدة الالتزام جمالياً في المبنى و المعنى.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *