Prisoner in jail cell.

تفاصيل في الانتظار (قصة قصيرة)

  (ثقافات)

 

  تفاصيل  في الانتظار

  قصة قصيرة

  كالفرت كاسي                                           

  ترجمة : إفلين الأطرش

     ” التفاصيل الأصغر تصنع اختلافات كبيرة بين يوم وآخر”.

  تعلّم  السجين “ماير” أن يميّز بين أصوات الزنزانات التي تُفتح على الممرّ، إذ لم تُشغل الزنزانات التي تُفتح على الساحة أثناء إقامته. صار يتعرّف على الأصوات بواسطة الطريقة التي تَنتج بها،  وينتبه لوقتها المحدّد، حيث كان بإمكانه أن يعرف الوقت بالضبط عن طريق اختلاف الضوء الآتي للزنزانة وانعكاس أشعّة الشمس على الجدار الخارجي. بهذه الطريقة، أصبح قادرا على تأريخ الأحداث، والتي كانت بانضمامها إلى المناسبات الأخرى، كأن ينسى السجان الكهل إخراجه للفسحة، وتغيّرات تنفّس ذلك السجان، كلّ ذلك سَمح له بالتفريق بين الأيام التي تسبق إعدامه، حاثّا إياها منفردة، أن تمنع أي استفزاز ممكن له مع كامل احترامه لكلّ منها، ولتصنيفه الصحيح لذكريات كلّ منها الخاصّة.

  عندما كان في السابعة من عمره، حصل شيء طمس كلّ الذكريات القليلة السابقة في حياته. في صباح اليوم التالي لبدء ذلك، أفسح الابتهاج الذي لاحظه ماير في الشارع الذي كان يقطنه مع عائلته، طريقه لصمت غريب، لهمسات، ولظهور مفاجئ وظهور غير مفاجئ.

   أقفر الشارع المُثقل بسخاء بأعلام الزينة ذلك الصباح. رفرفت الأعلام فقط في النوافذ، معلّقة من الأطاريف وأعمدة الحماية. ومع أن شيئا لم يكن يحدث، كان الناس يتلصّصون بحذر من نوافذهم وينظرون في كلّ اتجاه قبل أن يغادروا  بيوتهم خارجين إلى الشوارع. أشار أحد أقاربه  لسطح مبنىً مجاور. وعندما نظر إلى الأعلى كان مندهشا، إذ رآه مغطّىً بأشكال رجال رابضين.

  كان الناس يسيرون مسرعين في الشارع ويحافظون على قربهم من الجدران. في اليوم السابق وصلت الأشياء إلى نقطة ثبات. وأعطت الحوانيت المُغلقة وأعلام الزينة جوّا لعطلة في هذا الجزء الصغير من المدينة الذي عرفه  سابقا ـ بعضٌ من هذا الجوّ ما زال موجودا في الشارع،  بالرغم من الاحتياطات غير العاديّة التي اتُخذت ولاحظها في كل مكان حوله.

 كان الصباح لا متناهيا. لكن التوتّر اختفى بحلول وقت الغداء ، لأن كلّ واحد أراد أن يعود لحياته الطبيعية حتّى ولو كان ذلك لدقائق قليلة. أحضرت بعض العائلات كراسيها خارجا وكانت قادرة على تناول طعامها بسلام، مع أن أيّ صوت أو ضجّة قريبة كانا يفرضان سكوتا فوريا، وكانت آذانهم مستعدّة لالتقاط أصوات إطلاق النار في الجهة الثانية من المدينة في ما إذا اقتربت منهم أكثر. مرّة واحدة، سحب انفجار قريب الناس جميعهم إلى بيوتهم. لكن حقيقة تناولهم الطعام في الخارج كانت تجربة ممتعة.

  شيئان اثنان فقط لم يقلّلا من حملقة الطفل المدقّقة. كانت هناك مجموعات من المسلّحين في نهاية كلّ طرف من الشارع. كانوا يتبادلون الإشارات بين حين وآخر مع المسلحين المتمترسين على الأسطح. بدت عيون الناس مركّزة على الجزء الأعلى من المبنى الذي كان قد أخلي مسبقا خلال النهار. وقت الغداء، أكل الناس الذين جلسوا إلى موائدهم في الخارج وعيونهم مُثبتة على المبنى الطويل، الذي ظنّه هو في البداية فارغا. كان  المبنى الوحيد الذي لم يحمّل بالأعلام. (أعلام الثورة الكوبية  … المترجمة).

 لكنّ المبنى لم يكن فارغا. رأى بعد الغداء بوقت قصير، رجلا سمينا بشعر أسود يطلّ من إحدى النوافذ، وأثار هذا في الشارع نظرات معيّنة بل وحتى الضحك.

 نظر الجميع باتجاه النافذة التي ظهر منها الرجل لوقت قصير، والذي أطلّ من نافذة أخرى قبل مضيّ وقت. تفحّص الشارع. سدّ صدره وكتفاه النافذة، قوبل ظهوره الثاني بصمت دام لوقت طويل.

 سمع ماير في وقت متأخر من بعد الظهر وصول فرقة نحاسية للمبنى السكني المجاور. أُجبرت الفرقة على التوقّف في طرف الشارع، وبعد نقاش قصير مع الحرّاس المتمترسين قرّر الموسيقيون ألا يتقدّموا. بدأوا العزف ثانية بعد دقائق قليلة والفرقة  ثابتة في مكانها. رأى من مكان مراقبته وجوه الموسيقيين وهم يعزفون، وتحوّل بنظره باتجاه الطابق العلوي من المبنى الخالي.

  رأى الرجل يظهر للمرة الثالثة من إحدى النوافذ يعلّق راية ضخمة. أجبره حجم الراية الكبيرة أن يناور من أجل تعليقها بين نافذتين. وبينما كان يفعل ذلك حملق باتجاه الموسيقيين وابتسم ابتسامة خفيفة ثمّ اختفى. ( هذا كان باتيستا …المترجمة).

 ما فعله سبّب حيرة عميقة في الشارع. تبع الحيرة نقمة.

  ــ   إنه يحاول إنقاذ نفسه. علّق أحدهم.

 وكردّ فعل على ما فعله، بدأت مجموعات من الرجال والنساء، الذين لم يكونوا كجيران الطفل  يحاولون إنقاذ أنفسهم، بغزو الشارع. تضخّم صوت الفرقة النحاسيّة بأصوات حوافر الخيول، التي ظهرت من لا مكان وأحاطت بالمبنى. انعكست أشعّة الشمس على حراب الفرسان.

 بدا وصولهم مثيرا للحشد، وأخذ الناس في التحدّث مُفعمين بالحيوية، وامتلأ الشارع الذي كان صامتا ذاك الصباح بضجيج الناس المهتاجين والصارخين كل واحد على الآخر بانفعال، مدفوعين بعاطفة غير معروفة.

 أُطلقت طلقة من المبنى الذي فيه الرجل السمين. شمّ ماير رائحة حامضية غير معروفة له. تفرّق الحشد ببلادة، دون فزع، في اتّجاهات مختلفة، ثمّ تجمّع من جديد أمام المبنى. أصبح الضجيج والصراخ مُصمَّيْن. شعر هو بالأسف من أجل الخيول المرتدّة الخائفة.

  أعطى الرجال المتولّين حراسة زاوية الشارع إشارة، وفتح الذين على الأسطح النار. بتغيّرات داخليّة مُنتظمة زحف رجال مسلّحون محدّدون من سطح إلى آخر مُطبقين على المبنى. استطاع الرجل السمين الذي في الداخل قتل اثنين من مهاجميه، وعُرف هذا من تعليقات الناس  الصارخة وأيضا حيث أنه كان هدّافا جيدا.

 عندما امتدّت المعركة بشكل أوسع وأخذ إطلاق الرصاص يصمّ الشارع بضجيج لا بدّ أنه آتٍ عن تفجير قنابل، سُحب كطفل  من مخبئه بواسطة أحد أقربائه.

 لكنّ المعركة كانت معركة قصيرة. وعندما انتهت، رُفع إلى النافذة مرّة ثانية وأُجلس على الحافة. استطاع ولأول مرّة، من ذلك المكان أن يستمتع بمنظر استثنائي للشارع كله، ويشهد كلّ منظر مفرح أسفرت عنه المعركة.

   بوضوح تام، رأى الرجل السمين، جريحا ولكن حيّا لا يزال، يُدفع من إحدى النوافذ. رآه  يتشبّث بحافّة النافذة الخشبيّة، ثمّ بالراية التي سحبها معه إلى الأسفل  حين كان يهوي من علوّ ثلاثة طوابق. دفع جسده الضخم رأسه أولا فارتطم بالرصيف.

   لم تمطر ولو مرة واحدة خلال إقامته  كلّها في الزنزانة بجانب الساحة الصغيرة، وهو يتمنّى ذلك لعشقه إياه. ذات يوم خلال شهره الثاني ــــ سمع السجان الكهل يخبره بأن تنفسه قد تحسّن كثيرا، وشكر له مقترحاته الطبيّة رغم أنه لم يكن متأكدا تماما من ذلك الأمر بسبب العدد الكبير من العلاجات التي أخذها. سبّب هذا له سعادة عظيمة. أخبر السجان بدوره أنه هو نفسه أيضا يشعر بصحة جيدة.

    لم يقل ذلك لإسعاده أو لشكره بطريقة أو بأخرى على الانتظام في تسلّم وجباته، فقد تحسّنت صحته حقّا بشكل بائن، وعزا ذلك بشكل رئيسي لحقيقة أن نومه أصبح أكثر راحة. كان إذا ما صحا في منتصف الليل، يتذوّق الصمت المخيّم على المبنى الكبير لثوانٍي قليلة، ويعود ليستغرق في النوم من جديد.

   أُشبِعت رغباته في الصباح الذي غادر فيه زنزانته محاطا بضابط السجن ومساعده يتبعهم قسيس. حالما تقدّم الموكب الصغير باتجاه الساحة المركزيّة الواسعة على طول ممرّات غير مغطّاة لم يرها  قبلا، شعر بقطرات مطر قليلة جميلة ترطّب جبهته ويديه. ثم أصبحت القطرات أكثر غزارة وتحوّلت إلى مطر منعش جميل، الأمر الذي أفرحه بشكل غامر. نظر إلى يديه الموثقتين، وكما كان يحصل دائما، حرّكت القطرات القليلة سكينته. عندما وصلوا الساحة الرئيسة الواسعة، كانت الأرض بليلةً وامِضة. توقّف الموكب.

    فكّر بـ ــ إيفا ــ دون أن يعرف سببا لذلك. تزاحُم أفكاره جعله يردّد بشكل عقلاني واعٍ عدّة مرات:

” أفاح نارديني رائحته…” احتشدت الرؤى برقّتها في مخيّلته بينما كان ينتظر. فكّر مبتسما أنه إذا ما بقي هناك مدة أطول تحت المطر يفكر بـ “إيفا ” فإن ذلك سيجعل من إقامة الطقوس شيئا مقبولا، وأيضا سيعيق عمل القسيس إلى حدٍّ ما. لكن كل شيء سار كما هو مخطّط له.

   وقبل ثوان من دوران البرغي الرئيسي للطوق الحديدي بسرعة عظيمة وضغط مخيف، ليبعثر فقرة عنقه الثانية وحبله الشوكي، بحركة متزامنة مع قطعة معدنيّة أسندت قصبته الهوائية، شعر  أكثر من أية مرّة سابقة، أنه هو المخلوق الصغير غير الآمن، قد تحرّر من أي خطر آتٍ من رحم الظلم الهائل والمُجدب، وأنه محميّ تماما وللأبد، وقال لنفسه ـــ للأبد ــ من كل ظلم ممكن آتٍ.

                               ***********************

        كالفرت كاسي : كاتب كوبي صاحب قصتي “الإعدام ” و”فرصة حظ” المنشورتين سابقا على ذات الموقع .

                             **********************

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *