في موريتانيا، بلاد يحبها الله

(ثقافات)

 

أرى بقلبي..

في موريتانيا، بلاد يحبها الله

 

فاطمة بن محمود / كاتبة من تونس

 

الإهداء: إلى الأديبة مكفولة بنت أكاط

     يحدث في الحياة أن نلتقي بأشخاص يغيرون أقدارنا، يحدث أن نتعثر بمن يملكون مفاتيح السعادة فيأخذون أحلامك بلطف ويجعلونها ترقص أمامك وانت لا تصدق أنك لست نائما.

    كنت في المغرب وطني الإبداعي أتنقل بين الأمكنة وأتحاور مع الشخصيات من حولي وكأني داخل رواية ساحرة عندما لفتت انتباهي الكاتبة الموريتانية مكفولة بنت أكاط بلباسها الموريتاني الجميل، لم تكن لي صداقات مع موريتانيين غير بعض العلاقات العابرة منذ أيام الجامعة، لذلك كنت أحب أن أتحدث معها وأنصت إلى لهجتها الجميلة، غير أن أهم ما لفت انتباهي ذكائها الشديد وأفكارها التنويرية. في بهو الفندق، في المطعم في قاعة الاستقبال كنت أتجاذب أطراف الحديث معها وأشعر كأني أحاور مجموعة من الأفكار المنفتحة على الحياة، كنت حينها أرى موريتانيا بلاد مجهولة وغامضة وكانت مكفولة عندما تتحدث عن موريتانيا فكأنها تتحدث عن زهرة برية نادرة أو عن كوكب يفيض بالمحبة.

كان يمكن أن تنتهي صداقتنا بانتهاء الملتقى الثقافي الذي جمعنا في الرباط غير أن حوار العقول لا يذبل. لذلك كانت سعادتي كبيرة جدا عندما تمت استضافتي لحضور فعاليات الإعلان عن نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لسنة 2023، وكانت أول مرة أشد الرحال في اتجاه نواكشوط.

     دخلتُ المدينة ليلا، بدا المطار هادئا كأنه يستريح بدوره من فوضى النهار، غير أني سأكتشف لاحقا أن الهدوء هو أبرز سمات هذه المدينة. عندما استيقظت في الصباح في فندق “موري سنتر” اختارت مضيفتي أن أبدأ يومي بلقاء البحر والبحر في موريتانيا يختلف عن كل بحار العالم، انه فسيح تمتد شطآنه على آلاف الكيلومترات وما يميزه انه ملقى على الرمال كما ولدته امه أو لنقل كما أنجبته الطبيعة، لا تقترب منه المباني إلا نادرا ولا تتواصل معه الأرصفة إلا عن بعد بيّن بحيث ظل البحر مستلقيا بهدوء وعلى ظهره تتمايل زوارق الصيد  كأنها فراشات تحط على ظهر أزرق فسيح، رغم أننا كنا في شهر جانفي/ يناير لكن بعض الأطفال يقفزون وسط الأمواج كأنهم أسماك صغيرة ضاحكة، تركت مرافقي السائق عبد الله وانطلقت على الشاطئ الرحب أعدو على الرمال الصافية منطلقة بحرية ليس لي من هدف سوى الاستمتاع بهذا الشاطئ البكر والمتكاسل الذي يُلوّح بأمواجه مبتسما.

 في موريتانيا من السهل جدا أن تعقد صداقات مع البحر وأمواجه وأيضا مع العائلات وأطفالهم لذلك كانت تكفي ابتسامة مني حتى أجد طفلا يعدو في اتجاهي ضاحكا، كان اسمه آدم وتحول بعد لحظات إلى أصغر أصدقائي في نواكشوط.

من المحيط الأطلسي إلى المحيط الإبداعي:

   في ذلك المساء، تمت استضافتي لمركز “محيط للتنمية والتفكير في قضايا المرأة والسلم”، وهو مركز يسعى لنشر الثقافة المدنية التي تهتم بقضايا العيش المشترك وينشغل بقضايا الانسان الموريتاني عموما والمرأة خاصة ويسلط الضوء على الفئات المهمشة منها، من تقاليد المركز تأثيث ندوات فكرة وأدبية وتظاهرات ثقافية. كانت السيدة مكفولة بنت أكاط دينامو الجمعية وقلبها النابض، رتبت ذلك المساء لقاء حضره رئيس منظمة الايسسكو سالم بن عبد المالك ومساعده الوزير التونسي للثقافة السابق محمد زين العابدين إضافة إلى نخبة من أهم الأسماء السياسية والأدبية في موريتانيا.

استقبلنا بمعوزفات متنوعة وأغان جميعها على آلة الآردين وهي آلة عزف خاصة بالنساء كما قدمت مداخلة أدبية عن “التبراع” وهو نمط شعري شعبي في موريتانا تختص به النساء والفتيات للتعبير عن مشاعرهن المختلفة وتمجيد الحياة وفي الأثناء قرأتُ ما تيسر من قصار القصائد.

كنا داخل “محيط” كأننا في سفينة قدّت من الكلمات وأمواج المحبة عالية.

سهرة خيالية

    في الليل على أطراف العاصمة نواكشوط في مكان ما من السعادة التقيت ثانية بالشاطئ، ذهبت إليه هذه المرة من خلال ممر جميل بُسطت فيه زربية حمراء، مشيتُ بين صفين من الأطفال يعرضون علينا في أوان خشبية الحليب وأجود أنواع التمور ثم تلقفنا فرقة شعبية تراثية تجلس على أرض المحبة وارتفعت من حناجرها أهازيج بدوية مُبهجة ترحب بضيوف موريتانيا ووجدنا أنفسنا في خيمة كبيرة جدا وأنيقة عليها ما لذ وطاب من أنواع الأكل والمشروبات الحلال.

النُدل بأناقتهم اللافتة يتحركون مثل فراشات رشيقة بين الطاولات لخدمة الضيوف وجميعهم من السفراء والديبلوماسيين والوزراء والمستشارين ووجهاء البلاد.

مثل عادة البدو الكرماء أوقدت النيران أمام الخيمة وقُدمت عروضا فرجوية للزوارق تحمل جميعها أعلام الدول الإسلامية وعزفت فرقة موسيقية أغان مختلفة تضج بالحياة وقدمت لوحات شعبية راقصة.

بسهولة شديدة كنت ألفت انتباه من حولي ليس لأني من القلة من النساء اللواتي ترتدين بدلة مختلفة عن الملحفة الموريتانية بل بتلك البهجة التي تزغرد في قلبي وترتسم في وجهي، بسرعة يمكن أن تلمح اني أبدو امرأة ناضجة لكن من يتثبت قليلا يجد اني لم أكن سوى طفلة بتلقائية شديدة وبدهشة عارمة كنت أفتح كتاب ألف ليلة و ليلة و أدخل هذه الليلة التي أعيشها على شاطئ موريتانيا في خيمة رحبة تسع الكثير من القلوب تتبادل الأحاديث الخفيفة والدعابات المختلفة.

عدتُ إلى غرفتي في الفندق مع امرأتين موريتانيتين لا تكفان عن الحديث عن الحياة، من راديو السيارة تصدح أوبرات “أهل الخير”كانت الطريق واسعة جدا والليل يمتد أمامنا وأنا أصفق مع رفيقتيّ وأغني معهما “اه يا بلادي يا تراب أجدادي أنا نبغيك”، من يرانا لم يكن يصدق اني لم أتعرف على المرأتين سوى منذ ساعات قليلة، لا يمكن أن تشعر بالغربة أبدا وأنت في أرض الموريتان، كأن المرأتين صديقتان أضعتهما في زحمة الحياة والتقيت بهما الآن كنا نقطع الأغاني بطرفة تطلقها احدانا فتعلو قهقهاتنا من جديد ونعود للغناء. كانت فرصة رائعة وكم كان اكتشافي عظيما أن أهل الموريتان يشبهون الله في صفائه الناصع وفي بساطته العميقة.

دخلتُ إلى غرفتي في الفندق ولم أغادر بعد كتاب ألف ليلة وليلة، كان يجب أن أفتح الصفحة الثانية في الغد لأعيش يوما آخر من السعادة.

على البساط الأحمر:

في بهو فندق “موري سنتر ” في شارع المختار ولد داداه كانت الحركة حثيثة، اليوم تنطلق الوفود في اتجاه قصر المؤتمرات أين سيقع الإعلان الرسمي عن مدينة نواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2023، سألني أحد المنظمين “هل من مساعدة؟” أخبرته اني ضيفة على موريتانيا وأنتظر السيارة التي سترسلها لي صديقتي مكفولة بنت أكاط، كان يكفي أن أذكر اسم مكفولة بنت أكاط حتى تفتح لي أبواب البلاد، ارتسمت ابتسامة على وجه الرجل وهو يقول “مرحبا بك، يمكنك أن تذهبي معنا إن أردت، هناك سيارة رسمية ستنطلق الآن” لم أفكر طويلا، بسرعة كنتُ في السيارة الفخمة والسوداء التي انطلقت في الطريق تسبقها سيارات شرطة بمنبهاتها التي لا تسكت، في تلك اللحظة توقفت كل سيارات الطريق العابرة وانشغل كل رجال الشرطة بتسهيل مرور السيارة السوداء والفخمة التي تحمل شاعرة في بلاد المليون الشاعر.

دخلت بنا السيارة إلى الساحة الأنيقة لقصر المؤتمرات وتوقفت على بابه، بسرعة فُتح لي الباب ووجدت نفسي أمشي على البساط الأحمر الذي مشى عليه وزراء الدولة والسفراء والديبلوماسيين والضيوف الكبار لموريتانيا وسيمشي عليه بعد قليل رئيس دولة موريتانيا محمد ولد الغزواني..

تمت مراسم الافتتاح كما يليق ببلاد يحبها الله وتحب الحياة، أشد ما لفت انتباهي في العرض الافتتاحي هي وصلة من الموسيقى الصوفية الموريتانية وهنا كانت المفاجأة بالنسبة لي،

لا أخفي أني تساءلت كيف ستكون وصلة صوفية في افتتاح تظاهرة دولية ورسمية؟   اعتقدت انها ستكون أثقل جزء في البرنامج غير أن توقعي خاب تماما ووجدتها أفضل ما في البرنامج.

اعتدت أن تكون الموسيقى الصوفية كئيبة تميل في اتجاه أجواء المقابر لتشيع في النفوس الرعب من عصا الاله وتتوسل إليه بأصوات خاملة وبأدعية حزينة تثير الشفقة فتتصاعد الابتهالات بضعف ومسكنة غير أني فوجئت في موريتانيا بأصوات عالية تنادي الاله بمرح وتضرب الأكف بقوة فيطلع التصفيق بإيقاع راقص وترى الرؤوس تتمايل والمهج تفيض بالمحبة وتتقرب إلى الله في أدعية تشبه الغناء ووجدت روحي ترقص بين جنبي وأنا أصفق بحرارة وفق الإيقاع الراقص للفرقة الصوفية.

يبدو ان تلك الأغاني الصوفية متشربة بتربة الموريتان، تمتد في عمقها الجغرافي وتتغذى من الايقاعات الافريقية القادمة من القارة السمراء وهو ما يجعلها تختلف تماما عن غيرها ولذلك تعج بالحياة وتفيض بالبهجة، لكل ذلك أحببت الوصلة الصوفية وعدت لاحقا أبحث في اليوتيوب عن الوصلات الصوفية الموريتانية حتى أناجي الاله وأدعوه وأنا أرقص طربا.

هل انتهى كل شيء؟

لا، في محيط قصر المؤتمرات كان هناك معرض كبير يضم في جوانب منه تراث موريتانيا وبعض من خيراتها التي منحها لها الاله عن طيب خاطر، هناك رأيت أحد أقدم المصاحف القرآنية والذي يعود إلى أكثر من أربع مائة سنة ورأيت ماركات لصناعات موريتانية مختلفة تعرض جمالها على الجميع..

اقترب بائع مني مد لي مبتسما “هذا بيض السمك، مقدد على الطريقة التقليدية هدية لك” لم أكن قد طلبتُ منه شيئا، ربما هي طريقته للترحيب بي وقد دلّه لباسي أني لستُ موريتانية وربما انتبه إلى قلبي يشير أني فعلا موريتانية.

كان أمين ابن صديقتي مكفولة هو الذي استقبلني في المطار وهو الذي أتى ليحملني إليه وهو شاب وسيم ومثقف، يحدثني عن موريتانيا وكأنه يتحدث عن امرأة يهيم بها، كان أمين يجر بنفسه حقيبتي المحمّلة بذكريات رائعة لم أدلق منها الآن سوى القليل ولي الوقت لاحقا لأستعيدها في كل مرة أحدث أصدقائي اليوم وأحفادي يوما آخر أني ذهبتُ إلى أرض يحبها الله لم تدنسها قشور الحضارة واني عشت أيام بين الموريتانيين وهم أصدقاء الله لأنهم مثله طيبون ولطفاء.

هل قلت كل شيء عن رحلتي الى موريتانيا؟

هذه البلاد التي أراها بقلبي وفي قلبي امتنان لصديقتي الرائعة مكفولة بنت أكاط الأديبة التي من صفاتها الحسنى أنها تحوّل الأحلام إلى حقيقة، أحبك كثيرا أيتها الرائعة.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *