الزمن التاريخي والزمن الديني

(ثقافات)

الزمن التاريخي والزمن الديني

زليخة أبو ريشة

الزمن التاريخي هو هذا الذي نعيش فيه، والذي عاشت فيه البشرية بما فيها الأجداد والجدات. أي هو الزمن الذي نقيسه بالوحدات الزمنية المعروفة من الثواني وكسورها إلى السنوات والعقود والقرون. وفي هذا الزمن حدثَ التاريخ الذي نستدل عليه بما ترك بين أيدينا من وثائق ولقى وآثار. وهو استدلال نسبي يمكن أن يتغير كليّاً إذا ظهرت أدلةٌ جديدة. وهنا نصبح أمام حقيقة تاريخية جديدة، حيث أنها (أي الحقيقة التاريخية) ليست ثابتةً ولا مطلقة.

أما الزمن الديني فلا علاقة له بالزمن الزمني أو الزمن التاريخي، وليست له وحدات يُقاسُ بها، ولا يُطلَب إلى المؤمنين به الاستدلال على صحة أحداثه بأدلة داخلية أو خارجية. إنه زمن مطلق يخص حركة النبوة/النبوات وشعوبها، تلك التي قبلت بها والتي رفضتها وقاومتها. فهو زمن يتعلق بأحداث وقصص حدثت مع هذا النبي أو ذاك تُستَخلَص منها عِبرٌ وحكم مؤداها أن من يقاوم أنبياء الله فمصيره الهلاك. كما أن الزمن الديني يحتوي على قصة الخلق، بهذا التطابق أو ذاك التحريف، وهي قصة آدم وحواء وإبليس والخروج من الجنة.

تنشأ المشكلة بين الزمن التاريخي والزمن الديني عندما يُخرج المؤمنون الحدثَ أو الشخصيةَ من الزمن الديني إلى الزمن التاريخي. في حين أن التاريخ لا يصدّق بوجود حدث أو شخص في الماضي إلا بأثر يدلّ عليه. ولذا فإن علماء الآثار أجهدوا أنفسهم في البحث عن شخوص الأنبياء كما وردت في التوراة مثلاً، ولكنهم لم يعثروا على أي دليل حتى الآن. ولذا فإن المؤرخين لا يعتبرون الأنبياء شخصيات تاريخية، لأن الكتب المقدسة التي وردت فيها أسماؤهم ليست كتبَ تاريخ ولا تعتَبَر وثائق على وجودهم في الماضي.

من جهة ثانية، فإن موقف المؤرخ الدنيوي من هذه القضية لا تحول دون إيمان المؤمن بصحة حدوث تلك الأحداث أو وجود تلك الشخصيات، وذلك لعدة أسباب:

أولاً، لأن علمَ الحفريات والآثار لم يكتمل، ولن يكتمل، وهو لم يكتشف جميع حقائق الماضي، وأن عدم عثوره على ما يؤكد حدوث ما يقول به النص المقدس، لا يعني عدم حدوثه.

وثانياً، لأن علم التاريخ لا يقصد أن يثني المؤمنين عن إيمانهم، ولكنه ليدافع عن الحقيقة التاريخية التي يعلم أنها نسبية ومتغيرة وغير ثابتة أو مطلقة، بينما أن الحقيقة الدينية بالنسبة لمؤمنيها مطلقة وثابتة ولا تتغير.

وثالثاً، لأن الحدث أو القصة أو الشخصية في الكتاب المقدس، وخصوصاً في القرآن الكريم، لا تحضر كشخصية تاريخية لها ملابس معينة وهيئة خاصة أو غير خاصة ومزاج معين في الأكل والشراب والسلوك مثل أي تفصيلات لأي شخصية في الزمن التاريخي، ولكن كشخصية مهمة مستخلصة في قصة للعبرة. ولأن هذه القصة وردت في الكتاب المقدس، فلا بدّ من تصديقها لتصديق العبرة والحكمة منها، حتى لو كانت على سبيل المَثَل أو الرمز.

وهنا لا بد أن أذكر أن المتصوفة المسلمين قد تحاشوا تماماً زجَّ الحدث الديني (الذي كان والذي سيكون) في الزمن التاريخي، ومضوا إلى تأويله على سبيل الرمز. مثال ذلك تناولهم لقصة الخلق (آدم وحواء) وللجنة والنار والإسراء والمعراج.

وعليه،

فإن التصادم بين الزمنين التاريخي والديني لا لزوم له، ما دام الأول يتحرى بأدواته الحقيقة النسبية، والثاني يتحرى الحقيقة المطلقة التي تملأ روحه ووجدانه.

* شاعرة وباحثة

شاهد أيضاً

الاُنس بمعاشرة الكُتب

(ثقافات) الاُنس بمعاشرة الكُتب د. طه جزاّع[1]  لعل من أصعب أنواع الكتابات، تلك التي تتناول …

تعليق واحد

  1. مهند المجالي

    مقالة تخاطب العقل بلغة محكمة في تحليل واقع إنساني كثرت فيه اختلاجات المفاهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *