(ثقافات)
المكان ودلالته في رواية (حيوات سحيقة) لـ يحيى القيسي
قراءة: بديعة النعيمي
يتبوأ المكان منزلة معتبرة في النص. وحضوره مرهون بحسن استثمار الكاتب له. وفي وسط صراعه مع مخيلة الكاتب تنمو مكونات النص مع هذا المكون ليعكس للمتلقي أهميته ودوره في احتضان جميع تلك المكوناته السردية فتمثل أمامه وتخضع لمبادئه ومعاييره التي يحددها طابع النص. وهو الذي يفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار النص من بدايته وحتى نهايته من خلال المواقف والأحداث التي يزخر بها , وبهذا يصبح المكان مكونا مهما يساعد في صنع المعنى داخل النص. ويحمل المكان دلالات متنوعة وعلاقات مختلفة تربط الإنسان بواقعه المكاني وبالتالي يتفاعل كل منهما مع الآخر حيث أنه في نظر يوري لوتمان السيميائي الروسي (حقيقة معيشة تؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه). والنتيجة نشأة علاقة مزدوجة بينهما لكننا نجده في حيوات سحيقة يبسط حركته على الشخصيات من خلال هذه العلاقة.وبالفعل فإن المكان عند يحيى القيسي لعب دورا فعالا باعتباره المحرك الأساسي لبنية أحداث وتسلسل أزمنته واختلاف موقعه. وقد اختار الكاتب البتراء كنقطة انطلاق لأحداث نصه الإبداعي عن طريق صالح الشخصية المحورية الدليل السياحي الذي يرافق فريقا تلفزيونا يصور فيلما وثائقيا عن الرحالة السويسري بيركهارت الذي وصل مدينة البتراء عام 1812 متخفيا تحت شخصية مسلم ألباني. ومن هنا تنطلق أحداث الرواية وتبرز سمة المكان من خلال غرابته وقسوته فالبتراء ليست مجرد مكان إنما كانت حضورا مكثفا شغل فضاءها حيث دارت فيها جلّ الأحداث المحورية والتي صنعت ذلك العالم الغريب اللامألوف للبطل صالح وكانت الأرضية الصلبة لها.وهذا ما أكسبها( البتراء) خصوصيتها من بين بقية الأماكن سواء كانت أماكن مفتوحة أو مغلقة. وللمكان في هذا النص سلطة ,فقد اتخذ عمقا فنيا من خلال
سرد أهم ميزاته وذكر مفاتنه التي تغوي المتلقي لاكتشاف أسراره. وقد بسط سلطته تلك من خلال تفتح دلالاته على مجموعة من ثنائياته الضدية مثل الصعود والنزول, قريب بعيد, منخفض مرتفع , تعقيد المكان وبساطتة ومنه ما ورد ص12 عن مارغريت التي جاءت من الغرب سائحة إلى البتراء.أحبت بدويا من عائلة البدول وتزوجته وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعتها إلى هذا الزواج من وجهة نظرنا ننقل ما ورد دون أي طعن بما ذُكر( والأهم من ذلك قدرتها على تجاوز النقلة الحضارية من قلب الغرب وزمهريره إلى بساطة الشرق ودفئه). وفي ص133 ( عند الهضبة المنبسطة المسماة سطوح الجبل قرر أن يرتاح من صعوده….وربما محاولة النزول).وتعكس هذه الثنائيات حركة المكان وتعالقه مع سير الأحداث. وينقلنا القيسي من مكان إلى مكان فمن عمان إلى الزرقاء إلى لندن ثم يعود بنا إلى البتراء حيث بدأت أحداث الرواية وجعل هذا المكان مركزا رئيسيا لاستقطاب جميع الأماكن. فالكهف الذي يسقط به صالح بعد أن تزل قدمه يصبح مصدرا لحياة جديدة تتسم بالغرابة يعيشها صالح, تؤرقه وترافقه إلى نهاية أحداث الرواية. ومن هنا ينشيء القيسي علاقة وطيدة بين صالح والكهف الذي يمارس كينونته وحضوره وما له من دلالة فيطلعنا الكاتب على الفضاء الذي تبوأه الكهف والذي أصبح الفضاء المركزي لأن الكاتب من خلاله يفتح للمتلقي أبواب التخييل وآفاق التامل. وتلك العلاقة نشأت بفعل الأسرار التي يخفيه هذا المكان خلفه فهي علاقة رهبة ورغبة في اكتشافها وكشف ما لم يكشفه غيره وهذا يتضح ص137 على لسان صالح 0 سأكتشف خباياه من الداخل بكل هدوء, من المؤكد أنني سأعثر على مخطوطات قد تغير وجه التاريخ). واختلاف الأحداث وتنوعها مرتبط بتعدد صور المكان داخل النص والتلاعب بهذه الصور تم استغلاله بشكل متقن. فإسقاط الحالة النفسية والفكرية لشخصيات العمل على المحيط الذي يتواجدون فيه يعطي للمكان دلالة تتخطى المألوف كوسط يؤطر الأحداث. فنراه عند القيسي محاورا حقيقيا يقتحم عالم السرد متجاوزا نفسه كمكون يتحكم الكاتب بوصفه. وقد أسس الكاتب عالما خوارقيا حينما أسقط صالح في الكهف, ليلتحم فيه المكان مع الإنسان وهذا المشهد ينبئ المتلقي أنه بصدد استقبال عالم لا مرئي وهو عالم الماورائيات مثل التخاطر مع الأرواح والتقمص. بهدف تمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية حيث وجد فيه الكاتب حريته في الكتابة. فقام القيسي بإسقاط حوادث وقعت في الماضي على الحاضر ليؤكد بأن العدوان بين البشر ما يزال ساريا والصراع قائم مهما تنوعت أشكاله واختلفت أسبابه. وبهذا فقد تداخل الماورائي والتاريخي والواقعي وتوحدت في عالم واحد. وللمكان في حيوات سحيقة إسقاط معنوي فالكاتب يرى أن البتراء حكمة, فيكشف قيمتها وقداستها من خلال أساليبه المتسقة مع طرحه لموضوع المكان باعتباره موضوع فني جمالي ومعرفي له دلالته. لكنه مكان يعاقب ويسخط, حدوده قلة أسراره والتي وجب حفظها وعدم كشفها .
