(ثقافات)
محمود درويش ومراحله الشعرية
عادل الأسطة
1 – المرحلة الأولى ” عصافير بلا اجنحة ” ( 1960 ) :
هل يشكل هذا الديوان المرحلة الشعرية الأولى للشاعر ؟
يعد ” عصافير بلا أجنحة ” ديوان البدايات ، الديوان الأول الذي يكون الشاعر فرحا به ، ولكنه يغدو ، لاحقا ، عبئا عليه ، وهذا ما حدث مع درويش نفسه ، ففي مراحله اللاحقة تخلى عنه ولم يعد يدرجه في أعماله الشعرية . إنه يعكس طفولته الشعرية ، الطفولة التي كان درويش فيها شابا مراهقا بلا وعي سياسي ، أو إنه كان يخشى الحكم العسكري ، لأن لا جهة تدعمه أو تقف إلى جانبه ، أو لأنه كان يخشى على أبيه وجده من مضايقات الحكم العسكري .
كان درويش في هذا الديوان صدى لنزار قباني ، وقد اعترف هو لاحقا بهذا ، وربما كان هذا أحد أسباب حذفه للديوان من أعماله الكاملة . إنه أراد أن يكون صوتا لا صدى .
نحن – أعني الدارسين – سنتذكر هذا الديوان حين نتحدث عن بدايات الشاعر الشعرية وحين نأتي على ديوانه ” سرير الغريبة ” ( 1999 ) وموضوع الأخير ، ف ” سرير الغريبة ” كان خروجا لافتا عن الموضوع الوطني الذي طغى على أشعار الشاعر .
2 . المرحلة الثانية :
وهي مرحلة الشعر الوطني والانتساب إلى الحزب الشيوعي الاسرائيلي ” أوراق الزيتو ن ” ، ( 1964 ) ” عاشق من فلسطين ” ( 1966 ) ، ” آخر الليل ” ( 1967 ) و ” يوميات جرح فلسطيني ” .
اختلف درويش في هذه المجموعات اختلافا كليا عن ديوانه الأول ، فلم يعد يكتب قصائد غزل خالية من التسييس ، وبدأ يكتب أشعارا يعبر فيها عن آلام الفلسطيني وآماله ومعاناته وهمومه وشعوره بالغربة في دياره .
عبر الشاعر عن ارتباطه بالأرض وعن انتمائه العربي وتحدى سلطات الاحتلال التي تشيع سياسة العدم القومي . وربما تعد قصيدة ” سجل أنا عربي ” عنوان هذه المرحلة ، مثلها مثل عنوان ديوان ” عاشق من فلسطين ” .
يعبر الشاعر عن هويته العربيه ويعبر أيضا عن ارتباطه بالأرض الفلسطينية التي غدت محبوبته أيضا . وإذا كانت المحبوبة في ” عصافير بلا اجنحة ” هي المرأة ، فإنها هنا هي هذه وتلك وقد توحدتا معا ” أنت عندي
أم الأرض
أم أنتما توأمان ” و
” وأبي قال مرة
الذي ماله وطن
ما له في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر ” و
” وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق
والأرض حبيبة ” .
سيكتب درويش في هذه الفترة شعرا واضحا مفهوما ، فأغلب جمهوره الشعري كان من فقراء الريف وعمال المدن في وطنه . ولما كان انتمى إلى الحزب الشيوعي فإنه تأثر بطروحات الحزب الأدبية ، وهكذا سخر شعره للتعبير عن أفكار الحزب وقضاياه ومواقفه السياسية بالدرجة الأولى . وقد عبر درويش عن هذا في مقاطع عديدة أبرزها المقطع الآتي :
” قصائدنا بلا لون
بلا طعم
إذا لم يفهم البسطا معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن للصمت ”
الوضوح والبساطة في التعبير والتوجه للجمهور والتفاؤل ، هذه كلها كانت أبرز سمات درويش الشعرية في هذه المرحلة . ففي قمة هزيمة حزيران نجد الشاعر يعبر عن تفاؤله ، وهذا ما يبدو في قوله
” خسرت حلما جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا
على سياج الحدائق وما خسرت السبيلا “.
في هذه المرحلة بدأ هاجس درويش الشعري الذي ظل ملازما له طيلة حياته الشعرية ، وهوالاختلاف ، اختلاف جديده الشعري عن قديمه الشعري . من هنا بدأ في نهاية هذه المرحلة يميل إلى البعد الرمزي ، وهذا ما لم يرق لرفاقه في الحزب ، رفاقه الذين طالبوه بالعودة إلى ما كان عليه في ” أوراق الزيتون ” و ” عاشق من فلسطين ” .
وفي المرحلة الشعرية الثانية أكثر محمود درويش من توظيف الرموز التراثية التوراتية في أشعاره ، وقلما وظف رموزا تراثية شعرية عربية قديمة ، كما سيغدو الحال عليه بعد خروجه من الأرض المحتلة ، والرمز الشعري العربي الوحيد تقريبا الذي وظفه في 60 ق 20 هو رمز الشاعر امريء القيس ، وربما يعود السبب في ذلك إلى قراءته المكثفة للعهدين القديم والجديد .
في هذه ال6مرحلة كتب الشاعر قصائده التي سيكون لها حضور لافت في أشعاره وأعني بذلك قصائده في ريتا وفي الجندي الذي يحلم بالزنابق البيضاء ، وهي قصائد حققت شهرة واسعة . وقد كتب الشاعر عن الآخر من منطلق ماركسي لا من منطلق قومي ، ما ألب عليه بعض الشعراء القوميين مثل الشاعر يوسف الخطيب .
الكتابة عن اليهود من منطلق ماركسي وقصيدة سجل أنا عربي وقصيدته عن الأكراد جلبت له قدرا لا بأس به من الخصومات ، ما يعني أن الموضوع والتركيز عليه كان سببا من أسباب انتشار شعر الشاعر ، عدا شاعريته وموهبته المبشرة .
3 .
المرحلة الثالثة
:
” أحبك أو لا أحبك ” (1971 ) ، و ” محاولة رقم 7 ” ( 1974 )، و ” أعراس ” ( 1977 )، وأكثر قصائد ديوان ” حصار لمدائح البحر ” ( 1983 ) .
متى تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل درويش ومتى تنتهي ؟ هل نعد هذه المرحلة ابتداء من خروجه حتى العام 1982 أم نقسمها إلى قسمين ؛ فترة أقامته في القاهرة وفترة إقامته في بيروت حتى خروجه منها ؟
في أثناء إقامته في القاهرة أصدر درويش ديوانه ” أحبك أو لا أحبك ” ولعل أبرز قصيدة فيه هي ” سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا ” ويلاحظ أن التطور الذي بدأ يطرأ على أشعاره في نهاية 60 ق 20 ظل يتواصل ، وإن رافقه تطور آخر في بناء القصيدة .
سيبدأ درويش نفسه يشعر بهذا التغير وبتغير موقف بعض النقاد من أشعاره الجديدة ، وإلا فلماذا كتب المزامير التي أتى في بعضها على هذا الجانب – أي موقف الشعراء من التغيرات التي ألمت بتطور الكتابة لديه ؟
” حين صارت كلماتي عسلا
غطى الذباب غلى شفتي ” .
في هذا الديوان سيغدو درويش قريبا من الثورة ، وإذا كان في الأرض المحتلة يكتب عن كفر قاسم ودير ياسين وهزيمة حزيران ، فإنه الآن يرثي أبا علي إياد ، وسيبدأ منذ إقامته في بيروت كتابة قصائد الرثاء ، لا رثاء الأقارب وإنما رثاء رموز الثورة الفلسطينية مثل عز الدين القلق وماجد أبو شرار وكمال ناصر وكمال عدوان وغسان كنفاني ويوسف النجار .. الخ ، حتى إنه ليضيق ذرعا بالرثاء ، وسيكتب قصيدة ” سنة أخرى فقط ” طالبا من أصدقائه ألا يموتوا .
في أثناء إقامته في العالم العربي سيثار السؤال الآتي حول شاعرية الشاعر :
– هل كانت شاعرية درويش تنبع من موهبته الشعرية أم من إقامته في الأرض المحتلة ؟
وسيحاول أن يثبت للجميع أنها تعود لموهبته لا إلى موقعه . وسيصدر درويش في هذه المرحلة الدواوين الآتية:
” محاولة رقم 7 ” ( 1974 ) و ” أعراس ( 1977) ومطولته ” تلك صورتها وهذا انتحار العاشق ” ( 1975 ) وسيكتب قصائد كثيرة سيصدرها بعد العام 1982 في ديوان ” حصار لمدائح البحر ” ( 1983 ) . ان هذا الديوان وإن صدر بعد خروج الشاعر من بيروت إلا أنه ينتمي إلى المرحلة الثالثة – أي مرحلة القاهرة وبيروت معا . هل نسي الشاعر ، شاعر الأرض ، في أثناء إقامته في المنفى ، الأرض وغدا يعبر عن المنفى فقط ؟
في الثلاثين من آذار العام 1976 سيتظاهر الفلسطينيون في فلسطين وسيحتفلون بيوم الأرض .
الشاعر الذي تغنى بالأرض ومزج في شعره بينها وبين الحبيبة ” إنني العاشق
والأرض حبيبة ”
كتب في الحبيبة قصيدة الأرض ، وعدت من عيون ما كتب في الأرض .
لقد ظل المغني يغني على الرغم من أنهم حاصروه وسجنوه وعذبوه ، وهكذا لم تنسه هموم العالم العربي ومشاكله فيه وملاحقة النظام العربي للثورة للنخلص منها ، لم تنس الشاعر الارض محبوبته .
في مرحلة بيروت نجد الشاعر يتخفف من توظيف الرموز التوراتية ، ويستعيض عنها بكتابة القصيدة المعبرة عن الواقع بأسلوب مباشر غالبا ، وبأسلوب يتكيء على التراث قليلا .
في إحدى قصائد ” أعراس ” يكتب :
” فلتذهب أصول الشعر ، الجماهير هي الطائر ، والأنظمة الآن تسمى قتلة ” ( مع بعض تغيير ) .
وإذا كان درويش استحضر بعض عبارات الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل ” ليت الفتى حجر ” فإن الشاعر العربي القديم الذي استحضره في هذه الفترة هو أبو الطيب المتنبي .
كان درويش معجبا بالمتنبي وحدث أن مر بتجربة مشابهة لتجربة المتنبي مع سيف الدولة .
أعجب درويش بياسر عرفات وحدث أن اختلف معه . وكما غادر المتنبي بلاط سيف الدولة واتجه إلى مصر ، فقد غادر درويش بيروت إلى باريس ، وهنا استعار المتنبي قناعا ليعبر ، من خلاله ، عن خلافه مع ياسر عرفات ، كانت القصيدة قاسية ، فقد أغضبت الرئيس الفلسطيني وجعلته يحنق على الشاعر ، ولم يعد المياه إلى مجاريها بين الاثنين إلا أصدقاء الشاعر وأصدقاء أبي عمار وحب أبي عمار لدرويش .
” للنيل عادات
وإني راحل
قد عدت من حلب وإني لا أعود إلى العراق سقط الشمال
فلا ألاقي غير الدرب تسحبني إلى نفسي ومصر
كم ارتحلت إلى …… الخ ”
هل نختلف هذه المرحلة عن مرحلة ” سجل أنا عربي ” ؟
درويش الذي ضاق ذرعا بالاحتلال الاسرائيلي وشعر بالاختناق لإقامته تحت الحكم العسكري ، هاجر إلى العالم العربي لعله يتنفس الحرية ويعود إلى فلسطين مع اللاجئين ، ليعود عودة جماعية إلى وطنه وقد تحرر ، وبدلا من أن يرى هذا ويعيشه وبدلا من أن يحمل أمتعة أهله اللاجئين فيساعدهم في نقلها ، ازداد اختناقا ، وأخذ يتمنى لو ظل تحت الاحتلال ، فالعالم العربي سجن واسع . عبر الشاعر في هذه المرحلة عن ندمه للخروج وعن حنينه إلى حيفا والكرمل وأشجار السرو والصنوبر فيها ، ورأى أن كل عواصم الدنيا وكل خصور النساء لا تساوي شجرة من أشجار الكرمل ، وحين التقى في القاهرة بالشاعر راشد حسين سأله إن كان نادما لخروجه، فأجابه راشد
” واقف كلي مذلة
في مطار القاهرة
ليتني كنت طليقا في سجون الناصرة ” .
العالم العربي لكلا الشاعرين أضيق من حذاء طفل . إنه الزبد ، كما ورد في قصيدة ” أحمد الزعتر ”
” وتطردني ضفاف النيل مبتعدا
فأرى العواصم كلها زبدا ” .
فيما أرى تحول الشاعر من شاعر مقاومة إلى شاعر ثورة ، وتعد قصيدته ” أحمد الزعتر ” أفضل مثال على هذا . إنها قصيدة في الفدائي الذي كتب له ، من قبل ، طوقان وعبد الرحيم محمود ، وهي قصيدة ذات بناء هندسي محكم .
في هذه المرحلة سيتواصل شعور الشاعر بالغربة في الوطن العربي وسيصل ، باختلافه مع ياسر عرفات وهجرته إلى باريس ، ذروته . وسيصبح وطن الشاعر قصيدته الجديدة ، فقد جاء من حلب ولا يعود إلى العراق ، وسقط الشمال ، وحين ذهب إلى مصر – مصر السادات – لم يجد فرسا وفرسانا وأسلمه الرحيل إلى الرحيل .
4 .
محمود درويش ” المرحلة الرابعة” ( تونس وباريس ) .
أقام الشاعر في باريس وتونس ما بين 1982 و 1995، وأصدر خلال هذه الفترة المجموعات الآتية :
” ورد أقل ” ( 1985 ) ، و ” هي أغنية .. هي أغنية ” ( 1986 ) و ” أرى ما أريد ” ( 1990 ) و ” أحد عشر كوكبا ” ( 1992 ) و ” لماذا تركت الحصان وحيدا ” ( 1995 ) .
والطريف أن أكثر قصائده في هذه المجموعات تكاد تخلو من الكتابة عن باريس وتونس ، فديواناه الأولان يستحضران ما تبع الخروج من بيروت في العام 1982 ، بل إنهما أحيانا يستحضران مشاهد من بيروت وما حدث للفلسطينيين في لبنان بعد خروج المقاومة منها مثل الحرب الأهلية الفلسطينية – الفلسطينية .
في هذه المرحلة اتسعت رقعة المنفى الفلسطيني وبدلا من أن يقترب الفلسطينيون من فلسطين ابتعدوا عنها ، وهكذا أخذت الكتابة عن المنفى تواصل حضورها في شعر الشاعر وبقوة ، وهذا يتضح في قصيدة ” نزل على بحر ” .
في ديوان ” ورد أقل ” يواصل الشاعر اهتمامه ببناء القصيدة ، فيكتب الديوان كله على غرار ال ” سونيتة ” . القصائد تسير على بحر واحد إلا واحدة ، وتتكون كل قصيدة من أسطر عشر ، ويختار الشاعر لكل قصيدة العبارة الأولى من السطر الأول عنوانا ، ويواصل درويش استحضار رموز دينية وثقافية انسانية ، ليعبر من خلالها عن مأساة الفلسطيني .
في ” هي أغنية .. هي أغنية ” يواصل أيضا هندسة قضائده وإثراءها بالرموز العالمية مثل ( اوديب ) و ( عوليس ) ومن شابههما ، ويكتب ايضا عن منفاه / منفى الفلسطيني الذي غدت عناوين أمكنته هي غرفة في حجرة العناية الفائقة ومتر مربع في السجن ومقعد في قطار . إنه المنفى الذي يتسع ، المنفى الذي طالت فيه نباتات البعيد ، وتزوج الفلسطيني فيه من غير أهل فلسطين .
في هذه الفترة كتب الشاعر قصيدة ” عابرون في كلام عابر ” وهي قصيدة تتخذ من انتفاضة 1987 محورا لها ، وقد أثارت ضجة كبيرة دفعت بيهود باريس إلى الاحتجاج على الشاعر ومطالبتهم بطرده من باريس .
ولا تختلف عن هذه القصيدة قصيدته في ماساة الهنود الحمر ” خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الابيض ” ، فالقصيدتان تقومان على ثنائية متشابهة هي شعب يبيد شعبا ويقيم على أنقاضه دولة له .
وسيستحضر الشاعر في هذه المرحلة الأندلس من جديد .
كانت مرحلة السلام قد بدأت ملامحها تبرز في الأفق ، فكتب الشاعر قصيدة ” أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي ” ولم يكن متفائلا من محادثات السلام التي بدأت .
وأشير هنا إلى أن الشاعر بدأ في هذه المرحلة يعيد كتابة قصائد قديمة كتابة جديدة . أبرز مثال على هذا قصيدته ” شتاء ريتا الطويل ” . إنها قصيدة تذكر قاريء أشعار الشاعر بقصيدة ” ريتا والبندقية ” .
ويبقى ديوان ” لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ ” .
كان درويش بدأ في هذه المرحلة يكتب قصائد يستحضر فيها مراحل زمنية عابرة ” الأندلس ، زمن إبادة الهنود الحمر ، زمن المغول وتدمير بغداد ” ، وهو استحضار كان له ما يبرره ، فما مر به الفلسطينيون وما مر به العراقيون في 1991 استدعى مثل هذا الاستحضار .
كانت القصيدة تعبر عما مضى وعما يجري الآن . إنها قناع . وتجربة درويش مع القناع بدت واضحة في قصيدته ” رحلة المتنبي الى مصر ” ( 1980 ) .
في هذا الديوان لا يكتب درويش عن اللحظة المعيشة فقط ، إنه يستحضر مراحل ولت ، مراحل عاشها هو ، ويستحضر أيضا شخصيات تراثية تشابهت تجربته فيها ، في مرحلة من مراحل حياته ، معها ( أبو فراس الحمداني ) ، كما إنه يكتب قصائد يتطابق فيها الزمنان الكتابي والمعيشي ، وتحديدا قصائد القسم الأخير من الديوان .
يستحضر الشاعر طفولته وهجرته مع أهله إلى لبنان في العام 1948 ، ويكتب عن حياته في حيفا ما بين 1960 و 1970 – هنا يستحضر أبا فراس الحمداني لتشابه التجربة ( راجع دراستي المطولة ) – ويستحضر شخصيات يهودية عرفها في 60 ق 20 ، ويسترجع من جديد شخصية امريء القيس التي كان من قبل قد استحضرها ليختلف معها . هنا أيضا يواصل درويش اختلافه مع امريء القيس ، لكن اختلافه معه هذه المرة ليس شعريا وإنما هو خلاف ، غير لغوي \ شعري . إنه خلاف سياسي . هذا الخلاف هو خلاف الشاعر – رمزيا – مع القيادة السياسية الفلسطينية – أي مع ياسر عرفات – ( راجع دراستي إشكالية الشاعر والسياسي في الأدب الفلسطيني .. محمود درويش نموذجا )
لعل اللافت في هذا الديوان هو أن الشاعر يصدر للمرة الأولى ديوانا شعريا مرة واحدة . إنه غدا يركز على وحدة الديوان ، وهي فكرة لاحظناها تبرز في ديوان ” ورد أقل ” مع اختلاف ، فالشاعر كان نشر قصائد ” ورد أقل ” قبل نشرها معا في كتاب .
5 –
المرحلة الخامسة ، وهي مرحلة أوسلو ( 1995 – 2000 ) .
أصدر الشاعر في هذه المرحلة ديوانه ” سرير الغريبة ” ( 1999 )، ومطولته ” جدارية ” ( 2000 )، وفيهما كتب الشاعر في موضوعات جديدة . كتب عن الحب ، وكتب عن الموت .
اختلفت هذه المرحلة عن بقيت المراحل ، ذلك أن الشاعر عاد إلى رام الله وزار حيفا والجليل ، واتخذ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي شكلا آخر هو شكل الصراع السلمي ، إن جاز هذا التعبير ، وقد أتيحت الفرصة للشاعر أن يجرب الخوض في موضوعات أخرى غير الموضوع الوطني ، وحين أصدر ديوانه ” سرير الغريبة ” تناولته بعض الأقلام بالنقد ، لأن الشاعر الذي غلب على شعره شعر القضية كتب في الحب ، وهذا ما لم يألفه هؤلاء ، إذ كانت قصائد الشاعر فيه قليلة وارتبطت بالسياسة والصراع غالبا .
وحتى موضوع الموت فقد اختلف ، ذلك أن الشاعر مر بهذه التجربة وظلم يكتب عن فقدان أصدقائه ورموز الثورة الفلسطينية من المناضلين .
وأشير هنا إلى مقالة ظبي خميس حول ديوان ” سرير الغريبة ” ، وذهابها فيه إلى أن درويش عاد شاعرا عاديا ، فلم تعد أشعار القضية التي اختلف عن غيره من خلالها ، تميزه ، وهذا مجرد اجتهاد منهاو.
ولكن درويش عد جدارية اختصارا لتجربته الشعرية كلها ، وحين سئل ماذا يقترح للقراء ليقرؤوا من أشعاره اقترح الجدارية .
6 –
المرحلة السادسة ، وهي المرحلة التي بدأت مع الانتفاضة ، وفيها أصدر الشاعر المجموعات الآتية:
” حالة حصار ” ( 2002 ) و ” لا تعتذر عما فعلت ” ( 2003 ) و ” كزهر اللوز أو..أبعد ” ( 2005 ) و ” أثر الفراشة ” . ( 2006 ) .
عاد الشاعر في هذه المرحلة ليكتب في الموضوع الوطني ، وذلك لأن المناطق المحتلة شهدت الانتفاضة الثانية – انتفاضة الأقصى . وقد عبر عن سبب العودة إلى الكتابة في الموضوع الوطني وعدم مواصلة الكتابة في موضوع الحب بالأسطر الآتية من ديوان ” حالة حصار ” :
” كتبت عن الحب عشرين سطرا
فخيل لي
أن هذا الحصار
تراجع عشرين مترا ” .
والعشرون سطرا عن الحب هي مجموعة ” سرير الغريبة ” ، وأما تراجع الحصار عشرين مترا فتعني الفترة ما بين 1994و 2000 – أي فترة السلام بعد اوسلو .
في هذه المجموعة ، مجموعة ” حالة حصار ” سيعيد الشاعر النظر في إشكالية الموضوع والشكل :
أيهما أهم الشكل الشعري أم الموضوع ؟وهي إشكالية ستظل تؤرق الشاعر ولن يفهمها أقرب المقربين إليه . ولن يفهمها جيدا إلا من عايش أشعار الشاعر لفترة طويلة وظل يتتبعها فيما يكتبه درويش .
في ” حالة حصار ” يكتب على لسان الشهيد بخصوص إشكالية الشكل / الموضوع .
” الشهيد يعلمني .. لا جمالي خارج حريتي ”
وليت الذين منحوا جائزة الشاعر لزهير أبو شايب قرأوا درويش جيدا . حتى غسان زقطان المقرب من درويش لا يعرفه جيدا ( حول ديوان ” حالة حصار ” انظر دراستي محمود درويش في ” حالة حصار ..العودة إلى الكتابة في الموضوع الفلسطيني ” .
كانت سلمى الخضراء الجيوسي في مقدمة ” موسوعة الادب الفلسطيني المعاصر ” قد أتت على فكرة رآها بعض دارسي الأدب الفلسطيني ، وهي أن أكثر أدباء فلسطين ركزوا على الجانب الوطني في أشعارهم وأهملوا الموضوعات الأخرى ، ما جعل من الشعر الفلسطيني يسير في اتجاه واحد . ويبدو أن درويش أدرك هذا أو سمعه فحاول أن يخوض في موضوعات جديدة .
الديوان الذي كان الشاعر كتبه في الحب هو ” عصافير بلا أجنحة ” ( 1960) وهو ديوان ضعيف لم يعد يروق للشاعر ، وقصائده في الغزل ، وهي القصائد التي كتبها في المرأة اليهودية ، كانت قصائد حب سياسية ، ولأن الشاعر طاف في الدنيا وفي كتب الحب والغزل ، فقد آثر أن يكتب في هذا الموضوع الذي شغل الشعراء منذ الأزل ، وهكذا كتب ” سرير الغريبة ” (1999).
في ” سرير الغريبة ” ستختلف رموز الشاعر المستحضرة كليا . هنا سيستحضر ” طوق الحمامة ” و ” جميل بثينة ” و ” قيس ليلى ” وسيستحضر كتب الحب العالمية ( كومي سطرة ) ، وسيكتب شعرا يتخلى فيه عن الغنائية الحادة التي بدت في فصائده الوطنية .
هل هو مرض القلب أم هي التجربة ؟
أسئلة يثيرها الدارس وربما احتاج وقتا ليجيب عنها إجابة يطمئن لها .
وفي هذه الفترة سيجري درويش عملية القلب وسيتعرض لخطر الموت الذي سينجو منه ، وحين ينجو منه يكتب قصيدة عن الموت ، وهذا اختلاف آخر عن أشعاره الأولى .
كان الشاعر ، وهو في القاهرة وبيروت ، يكتب قصائد رثاء في أبطال المقاومة ، قياديين وفدائيين ، ومر بتجربة الموت مرورا عابرا فكتب قصيدة ” حجرة العناية الفائقة ” وأتى فيها على مرضه العابر ، لكنه في 1998 سيتعرض لمرض قد يودي به .
في ” جدارية” يكتب درويش عن موته ونجاته هو ، وفي ” جدارية ” يلخص أشعاره كلها تقريبا . على الرغم من وجع القلب إلا أنه لم يتخل عما يوجع القلب . كتابة الشعر الغنائي ، هو آخر الشعراء الغنائيين .
في ” حالة حصار ” مقطوعات قصيرة تتناسب والحالة التي كان عليها إبان الحصار ، حالة القلق وعدم التركيز لكتابة قصيدة طويلة ذات بناء . إنه الآن في رام الله لا في باريس ، والأوضاع جد متازم ، وبالكاد يستطيع المرء فيها أن يلتقط أنفاسه ، ومن هنا غلبت المقطوعات القصيرة على القصائد التي كتبها في أثناء الحصار ونشره في الفترة نفسها بخلاف مطولته ” مديح الظل العالي ” التي لم شتات أجزائها ، لأنه أقام في باريس أو في تونس بعد الخروج من بيروت ، ولم ينشرها في اللحظة ذاتها .
في ” حالة حصار ” يكتب الشاعر عن اللحظة المعيشة . إنه لا يسترجع زمنا آخر أو أزمنة أخرى كما كان حاله في باريس حين كتب ” أحد عشر كوكبا وخطبة الهندي الأحمر الأخيرة ” .
ماذا سيكتب في فترة الحصار غير ما كتبه في ” حالة حصار ” ؟
ربما في عمان كتب الشاعر ” لا تعتذر عما فعلت ” سيستحضر في هذا الديوان فترة زيارته للمناطق المحتلة في العام 1948، حيث زارها بعد ربع قرن من الغياب عنها ، سيستحضر زيارته تلك ويكتب ديوانا شعريا في الوقوف على الأطلال . قصائد قصيرة إلى حد ما ، ولكنها مهمة في تجربته .
الشاعر الذي سخر في بداية حياته الشعرية من الشاعر امريء القيس لأن الأخير شغل نفسه بالمرأة والوقوف على الأطلال ، يقف في أشعاره على الاطلال . يا لمكر التاريخ وسخريته ! ها هو يسخر من الشاعر لا بلسانه هو ، بل من خلال جعل الشاعر يتناقض في آخر مراحله يتناقض مع نفسه .
وستغدو ظاهرة الوقوف على الأطلال في أشعار درويش لافتة . سيكتب ” طللية البروة ” و ” على محطة قطار ” . وستعدان من أجمل ما كتب ( حول القصيدتين راجع مقالتي في الأيام عن ” طللية البروة ” وعن ديوان ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ” ) .
في هذه المرحلة ستختلف رموز درويش الشعرية إلى حد ما . حقا إنه يستحضر ( لوركا ) الذي كان تأثر بأشعاره في فترة مبكرة جدا ، إلا أنه يستحضر هنا أبا تمام ، وهكذا يصدر ديوانه
” لا تعتذر عما فعلت ” بسطرين للوركا ولأبي تمام ، سطرين يتعلقان بالمكان والارتباط به .
“كم منزل في الارض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل ” .
سيظل انحياز درويش الأزلي إلى مكانه الأول / الجليل وحيفا ، وحين يكتب بعد ثلاث سنوات كتابه النثري ” في حضرة الغياب ” سيتساءل غير مرة :
” لماذا نزلت عن الكرمل ؟ ”
السؤال الذي لازمه طيلة حياته ، وبدا أوضح ما يكون في ” محاولة رقم 7 ” ( 1974 ) :
” أحب البلاد التي أحب
أحب النساء اللواتي أحب
ولكن غصنا واحدا من الكرمل الملتهب
يعادل كل خصور النساء
وكل العواصم ” .
لمن سيعتذر الشاعر عما فعل ، عن الهجرة التي ارتكبها ؟
وفي هذه الفترة سيترك المكان تأثيره على صور الشاعر وتشابيهه . حين كان في الجليل كتب عن الزيتون ” أوراق الزيتون ” وحين أقام في رام الله كتب ” كزهر اللوز أو .. أبعد ” . الجليل يشتهر بزيتونه ومع أن الزيتون موجود أيضا في رام الله إلا أن شجر اللوز موجود بكثرة . لعل أشجار اللوز هي التي لفتت نظر درويش وسحرته في رام الله .
اللافت أن الشاعر الذي أقام في رام الله وعمان لم يكتب الكثير عنهما ، تماما كما في باريس ، فلم يخصص لهذه المدن مساحة كبيرة ، كما خصص لحيفا وعكا وبيروت .
لماذا ؟ ( حول هذا الديوان والمكان فيه انظر دراستي المنشورة في مجلة الأسوار / عكا ) .
ان راMessenger الله مدينة تبنى على عجل وان لا ماضي له فيها ، واما عمان ! فلعلها لم تكن أكثر من محطة طريق إلى العالم . ممر مجرد ممر لا أكثر ، ولم تعن له ما عنت له حيفا وبيروت ومدن تاريخية .
هل كتب الشاعر في عمان قصائد لافتة ؟ربما، ولكني لم أطلع عليها ، وحين أعثر عليها سأعود إليها وإلى هذه الكتابة ، لأعدل فيها .
أشار درويش إلى عمان في بعض المقابلات التي أجريت معه ، أشار إليها . كأنها لا تختلف عن رام الله ” مدن تبنى على عجل
ولا ماضي لي فيها سواك ”
والكلام موجه لسليمان النجاب .
حقا إنه نعت أهل عمان بالطييبين ، إلا أنه لم يؤسر بالمدينة .
في ” أثر الفراشة ” يكتب درويش قصائد موزونة وأخرى غير موزونة .
هل خفت قلب الشاعر / الشاعر الذي قال عن نفسه إنه آخر الشعراء الغنائيين ؟
ولانه لا يلتفت كثيرا إلى قصيدة النثر ، فقد كتب على غلاف ” أثر الفراشة ” دال يوميات . إنها يوميات ، لا قصائد ، علما بأن الكتاب يضم قصائد موزونة ظلت هي خياره الشعري .
في هذا الديوان يلتفت درويش من جديد إلى النقاد الذين أساء فهمهم من قبل . الأمر ليس كما كنت أعتقد ، فليست هناك مؤامرة ضدي من الجميع . هناك أحيانا سوء فهم ، وليس كل من كتب عني يغتالني . هم يسيئون تفسيري وأنا أشكرهم على سوء التفاهم وامضي إلى قصيدتي الجديدة .
( حول هذا انظر دراستي محمود درويش في جديده ” أثر الفراشة ” مواقع عديدة).
- عن موقع أنطولوجيا
 ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!
				 
			 
		