القسوة وشرور الإنسان

(ثقافات)

القسوة وشرور الإنسان

إنتصار بوراوى

 

القسوة ..الشر ..كيف يتكونان فى النفس البشرية ، ووكيف ينموان ثم يكبران ليتجسدا فى مذابح ومجازر يرتكبها الجنس البشرى ضد بعضه ، هذا ما يحلله  ويبحث عنه كتاب ”  «القسوة.. شرور الإنسان والعقل البشرى ” للمؤلفة الدكتورة كاثلين تايلور ومن ترجمة الدكتورة فردوس البهنساوى، حيث يعمل الكتاب على تحريك مبضعه داخل أغوار النفس البشرية، ويحاول أن يجد تفسيرات للقسوة والشر الإنساني بين البشر خصوصا خلال الحروب.

تقول المؤلفة بأن مذهب المنفعة الذى يرى أن تحقيق أعظم الخير لأكبر عدد من الناس يجب أن يكون هدف السلوك البشرى ، لكن فى الواقع حتى أكثر القوى العقلانية قابلة للانحياز ، فالحواسيب تعمل بكامل الحيدة وبالمنطق البارد  لكن عقل الإنسان مهما عمل بفكر متجرد يراعى النفع الشخصي ،كذلك فإن تقييم الدوافع والنوائب والأسباب والمبررات يتم وفق المنفعة والضرر للناس المعنيين جموع المجتمع الأكبر ومن يقوم بالتقييم والتحيزات، التي تؤثر في الأحكام سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك هي  المعرفة  والميل الشخصي  ولأننا لم نمارس ذلك بالطريقة نفسها التي نخضع بها للعواطف ،أي اللجوء للمعرفة أكثر من الانفعال والعاطفة فإننا نميل إلى عدم وجود العاطفة ولأننا بشرا، نفضل ما نعرفه والأمور الواضحة البسيطة والناس الذين يشبهون من يحكم فإن ذلك قد يجعل حتى الفيلسوف ينحاز ،وليس فقط الأفراد العاديون الغير المدربين على التفكير العقلاني

وتذكر المؤلفة أساليب البشر لتقييم سلوك الأخرين حيث يتخذ الأصحاء من البشر أسلوبين لتقييم سلوك الأخرين بنوعين من الأساليب: أسلوبا عقلانيا وأخر عاطفياً تتلون بمزيج من الأثنين ويسود أحيانا المنطق الهادئ البارد البراغماتي مع أو دون المبادئ الأخلاقية وفى أحيان أخرى تؤثر المبادئ الأخلاقية في حساباتنا كما أن التاريخ الشخصي لمن يقيم مهم

تبريرات الشر

وتطرح المؤلفة التبريرات التي تقدمها ،الشخصيات الشريرة التي ترتكب الجرائم ضد البشر  كى تصبغ على أفعالها صبغة أخلاقية، فيسعى المجرمون إلى إثارة التعاطف الوجدانى بأن يقدموا أنفسهم باعتبارهم بشر عقلانيين يحملون عواطف ولكن التعاطف وحده  لن يكفى ليجعلهم يفلتون من فخ المبادئ الأخلاقية وعليهم أن يلجأو  إلى استراتيجية أخرى قد يتحاشوا اتهامهم بالقسوة وإحدى هذه الوسائل والاستراتيجيات تتمثل فيما فعله الأتراك بخصوص معاملتهم للأرمن إنه ببساطة “الإنكار  ” إنكار حدوث أى مجازر أو أنهم لهم علاقة بالواقعة،  وهذا هو الوضع دائماً فى المواقف القليلة التي تصدر فيها الأحكام بعد الجريمة بسرعة ثم تكون الإدانة واضحة وإذا مر الوقت وانقضى فأن المجرمين يستطيعون التشويش والتعتيم والكذب وان يضربوا الذاكرة ويمحو الذكريات  وربما يقنعون أنفسهم بأنهم أبرياء

وتتغلغل المؤلفة بداخل النفس البشرية محاولة معرفة الدوافع التى تجعل الخصم أو العدو يرتكب مجازر ومذابح بحق الأخرين  كما تقول فى غضون تفسيرها لذلك  ” فما دمنا نتقبل الرأي القائل بأن العدو، لا يلتزم بالعقلانية ، ولا يغير من نفسه   فلا يهمنا حقيقة إذا ماكان هذا الشرير يهاجمنا بدافع من الحقد الخالص، أو كان يتصرف وفق ما جبل عليه بالساقية من طبيعة شريرة ، وسواء كان دافعه هذا أو ذاك  فأن القوة مطلوبة للقضاء على شروره

فكرة الكراهية لأغراض سياسية

ولمن يريد أن يستخدم الدعاية التي ترتكز على فكرة الكراهية، لأغراض سياسية فإن امتلاك الوسيلتين اللتين تتيح ترسيخ “الإقصاء” تجعل دعايته أكثر تأثيرا فإشاعة أن العدو يقصد إيذاءك يجعل هذا العدو في مواجهة مع قانون المبادئ الأخلاقية ويتيح ذلك لك أن تبرر تصرفك ضده على أنه دفاع عن النفس أو عقاب قويم له مبررات أخلاقية -أى أنه ليس قسوة من جانبك- وفى الوقت نفسه عندما تشيع بأن عدوك مدمر وهدام  بطبيعته مثل السرطان ، فهذا يولد ردود أفعال غاية فى الشدة والتطرف

دور الطبع في ارتكاب الشر والعدوانية

وتعرض المؤلفة كذلك لتقسيم الباحثين للعدوان الذى ينقسم كما تقول إلى نوعين نوع انفعالي وأخر أنى أو آلي ، ويلاحظ أن النوع الأول يأتى كرد فعل سريع وغير متحكم فيه وهو فعل مندفع بسبب الأحباط مع الغيظ والإثارة الشديدة ،

ويختلف النوعان فى تفسيرات علم النفس وعلم دراسة الجهاز العصبي   فأصحاب العدوانية الانفعالية غالبا ما يتغلبون عليها ويشفون منها ولا يكونون بالضرورة مزعجين أو قساة ممن يرتكبون الجرائم

أما النوع الثاني من متعمدي العدوان، هم الذين يخططون لعدوانهم ويظهرون السمات النمطية للغلظة وهم غير عاطفيين منذ الطفولة، و لديهم اضطرابات سلوكية عندما يصلون مرحلة المراهقة وهم من المحتمل أن يكونوا قساة مع الحيوانات فى طفولتهم  ثم يرتكبون جرائم عنف عند البلوغ.

 

معنى القسوة

تطرح المؤلفة سؤال عن معنى القسوة، ومالذى نقصده عندما نصف شخص ما بأنه قاس من خلال  تعريف قاموس أكسفورد الذى يعرف القسوة بأنها الابتهاج أو اللامبالاة  بآلام أو بؤس الأخرين

وتبحث المؤلفة كاتلين تايلور بعمق، عن أسباب القسوة ولكي تنجح فى ذلك فهي تتحرى كلا من المعتقدات والعواطف، فالمعتقدات هي التي تبنى العلاقات المحيطة بالقسوة وتتحكم فى رغبات الفعل، لدى مرتكب الجرم أما العواطف فإنها تدعم الحافز للفعل فهي القوة الخلقية وراء كل فعل يتسم بالقسوة

وتذكر المؤلفة بأن الموضوع الرئيسي عن نفسية وسيكولوجية مرتكبي الجرائم هو أن أسوء الفظائع لا يرتكبها اشخاص اشرار كالشياطين نذروا انفسهم إلى تمجيد كل الشرور فهذا بعيد عن الحقيقة فنفس الشخص مرتكب الجرائم قد يدلل اطفاله ويعانقهم فى الفترات الفاصلة بين جرائمه التي يقتل فيها آخرين أنه يتعايش مع قوانينه الأخلاقية التي نشأ عليها .

وترجع العواطف إلى الإشارات العصبية بالمخ وهي التي تجعلنا نقع في لحظة اختيار بين أن نؤذى أحد أولا فالعواطف، هي التي تزن مبرراتنا وأسبابنا للقيام بفعل الإيذاء حيث لا يمثل الذوق العام والفطرة السليمة، أو حتى احترام الذات مانعا قويا إزاء ارتكابه ولكن العواطف كما تذكر المؤلفة ليست واضحة فهي مراوغة ومخادعة وأسبابها متباينة فهي قد تتبع إشارات من الجسم أو العالم الخارجي وقد تكون ثمة احداث حقيقية او زائفة هي التي تحركها من خلال حواس وتخيلات متعددة

وتذكر المؤلفة أنواع كثيرة للقسوة والشر الإنساني، منها السادية وهي التلذذ بتعذيب الأخرين وجمود الفؤاد واللجوء، إلى القسوة يمكن أن يكون دلالة على القوة عندما يوجه ضد الغرباء فهو في نظر القساة، فيه فائدة للوطن ويجب ان يتفوق الرجال في قسوة القلب فى الحرب وإظهار الجانب القتالي، والحربي وأغلب هؤلاء الرجال يظهرون اهتماما شديدا بالعنف منذ حداثة، سنهم ولكن العنف والعدوان يكون محكوما اجتماعيا موجها ضد افراد خارج الجماعة فقط

والسادي شانه شان مدمن المخدرات، أو المتعصب لن يكون مهتما بأي حال بالمصلحة العامة للجماعة أو بالنيات الطيبة، أو بحسن السمعة او بصالح المجتمع فالجوع للإيذاء تتطلب الإشباع مهما كانت الكلفة أو النتيجة على الاصدقاء والاقارب الذين سيصيبهم الضرر

تفكيك منشأ السادية

تحلل المؤلفة القسوة باعتبارها جزء من  تركيبة البشر، فليس لدينا كما تقول ما يبرر أن نعزل القسوة باعتبارها مرض ،إلا فى حالات نادرة ولكن ليس علينا، استنتاج إن كل إنسان قاس بالفطرة والسليقة ،والسادية عادة ما تكون شيئا نادرا وحسب ما تذكر مؤلفة الكتاب فالنزوع للقسوة، ليس مثل النزوع الغريزي لاستطابة آلام الغير والتلذذ بها إلا أنه مثلما يدفع نقص الطعام، الشخص الذى يشرف على الموت، إلى أكل لحوم البشر فمن الممكن أن بعض الظروف قد تشجع القسوة ويمكن أن تحول شخصا طيبا إلى سادي.

تقوم المؤلفة من خلال تحليلها بتفكيك السلوك السادي، ومحاولة البحث عن منشاؤه الذى ترى بأنه ينبع من الإقصاء المبالغ فيه للأخر، والعنف الصادر من غلظة القلب فالحرب والإرهاب وعنف العصابات والقتل المتوالي والعبودية وسوء المعاملة داخل الأسرة كلها تنشأ فيها القسوة السادية .

وترجع المؤلفة السلوك السادى لدى الشخص، من الطفولة والتي قد تبدأ بتربية الطفل على العنف أو تركه يؤذى الحيوانات مثل القطط والكتاب وأحيانا يقتلها فإذا لم تمنع الاسرة الطفل من ممارسة هذه السلوكيات فانه لن تكون لديه قوانين ينصاع إليها مستقبلا

التعامل بقسوة مع الأخرين

لقد نشأ الجنس البشرى على معاملة العالم دون مساواة في اعتبارات عديدة فنحن بطبعنا وما جبلنا عليه، نهتم بأقاربنا وبمن نرى أنهم أعضاء أقوياء في جماعتنا وبالمعتقدات التي تتفق مع مانعتقده ونراه إننا بالطبيعة نولى اهتماما أقل بالغرباء وللناس الأقل فى المكانة الاجتماعية أو للأفكار التي تتناقض مع معتقداتهم

كيف يقاوم الانسان فعل القسوة

تطرح المؤلفة فكرة مقاومة القسوة، من خلال الوعى والفهم فالجهل والانقياد هو الذى يقودك للقسوة ولكن يمكن للإنسان الواعي، المدرك أن لا يقع تحت ضغوط ارتكاب القسوة عندما يأخذ في اعتباره، وعقيدته أن القسوة خطأ  ويرسخ ذلك ضمن كينونته  بأن مجرد الرغبة فى القسوة هي تهديد للذات برمتها

ولكن من يعتقدون بأنهم جزء من جماعة لها عقائد أخلاقية فسوف يتخلون عن تلك الاعتبارات دون أى أضرار نفسية لأن ذاتهم وكينونتهم تتبع للجماعة

وتتساءل الباحثة عن الطريقة والأسلوب، لمنع الشر والقسوة الإنسانية التي كانت السبب في الإبادة الجماعية والمذابح  ،على مدى التاريخ الإنساني حيث تستشف الباحثة من خلال دراستها لتاريخ القسوة والشر الإنساني دروس مأساوية من التاريخ تجعل البواعث  الأخلاقية التي غرست، فى الثقافات الإنسانية لم تمنع حدوث الجرائم الفظيعة فالمسيحية تعلمنا أن نحب الأخرين والإسلام يدعو إلى التسامح والسلام والشيوعية تنادى بالمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية شعار الثقافة الغربية الحديثة فكل هذه المنظومات العقائدية وغيرها ارتكب اتباعها أفظع جرائم القتل وأعمال الإرهاب باسم المثل العليا فمن الواضح بأن القوانين الاخلاقية لا تمنع القسوة والشر الإنساني ولكن بالعلم والمعرفة ودراسة  تاريخ وأساليب الشر يمكن أن نقلل من القسوة والشر في العالم.  

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *