قارعة العتمة

(ثقافات)

قارعة العتمة

خلود الإبراهيم

انا لك على طول خليك ليا

خد عين مني وطل عليا

وخد الاتنين واسأل فيا

أعلنتْ ساعة الحائط انتصاف الليل، لا صوت يكسر وحشة الصمت إلا جهاز التسجيل يدفع بصوت عبدالحليم إلى غياهب الروح ينبش الحنين من مخابئه، شق الصوت أنين بعيد، أصغى للصوت، ارتفع الأنين، قادم من غرفة ابنته ذات السنوات الخمس، توجه الى غرفتها على عجل، دخلها، وجدها في سريرها تتقلب والعرق يتصبب منها، تحسس جبينها، ارتعش جسده، “حمى في منتصف الليل؟ ” حدّث نفسه مرتبكاً، أزاحَ الغطاء عنها، حملها و توجه بها الى الحمام، رشقة وجهها بالماء الفاتر، ثم أعادها الى سريرها، يمم شطر المطبخ حيث سكب لها كاسَ ماءٍ، عادَ به بسرعة إليها، ارتشفتْ على مهل بضع رشفات، ثم ارختْ رأسها على وسادتها، ذهب يبحث كأبلهٍ في كل مكان عن خافض للحرارة، فلم يجد، تناول معطفه، لف حول رقبته وشاحه، تناول مظلته عن المشجب، رمق صورة زوجته المعلقة على الجدار ذات الوشاح الأسود على إحدى زواياه معاتباً، خرج، كانتْ الشوارع خاوية، سكون مقيت، أخذ يبحث عن صيدلية مناوبة، أقرب واحدة تبعد مسير ربع ساعة عن منزله، تمتم في سره بأمنية أن يملك سيارة، سار وهو يتلفتُ يمنة و يسرة، اختلطتْ دموعه بالمطر، بدا المطر خفيفا هادئا، جاء على استحياء، منذ أن قضتْ زوجته بعد صراع مع المرض لم يرتعش قلبه خوفاً ولم تسح دموعه، شعر أنّ نشيجاً قديماً يتراكم في صدره منذ رحيل زوجته، كان الغياب ثقيلاً متعباً، ازعجه أن الصيدلية مغلقة، توجه الى صيدلية أخرى بعيدة، انهمر المطر بجنون، كأن مئات من الدلاء سكبتْ ماءها دفعه واحدة، وكأنه يعاقبه على شيء ما، أخذ يترنح مع الريح كشجرة هزيلة، تبلل معطفه وحذاءه بالماء، عتمة ابتلعتْ الأحياء والشوارع والمدينة بأكملها، لسعات البرد اخذتْ تنهال على أطرافه، لمح ضوء خافت من بعيد لمحل تجاري، توجه نحوه ليحتمي به، لكنه عندما اقترب وجد نفسه وجها لوجه مع شاب ثمل يحمل في يده زجاجة مشروب مكسورة، يستشيط غضباً، تسلل إليه الخوف، فغير وجهته، تبعه الرجل بجنون، هرب منه، فجأة وجد نفسه أمام صيدلية دخل بسرعة وأغلق الباب وراءه وهو يرتجف و الماء يسح منه، تقدمتْ منه الصيدلانية تسأله عن أمره، فتاة ثلاثينية عذبة الملامح ، شرح لها على عجل متعلثماً بالكلمات، اعتذر كثيراً بعبارات خجولة، لم تفهم عليه تماما ما قاله وشفتاه ترتجفان من البرد، تقدمتْ منه، وساعدته في خلع معطفه، طلبتْ منه الاقتراب من المدفأة، أعطته كوباً من الشاي الساخن بالنعناع، دفء وسكون مريحان تسلّلا لروحه المرتعدة، هدأتْ ملامحه، طلبتْ منه الجلوس على أريكتها الوثيرة في غرفة ملحقة بالصيدلية، تركته يرتاح و أكملت عملها  وهي تتأمله من حين لآخر، صوت نقرات المطر على الزجاج، وصوت عبدالحليم قادم من جهاز الحاسوب

وإن فات طيفك يوم

في منامي وجاه صحاني

برضه أطاوعك

بس أهي نوبة

وبعدها توبة توبة

كان للدفء سحر عجيب و للسكون أيضاً ، أخذ الصوت يهدهدُ على روحه، ويأخذ به إلى إغفاءة لذيذة لا تقاوم، بعد وقت ليس طويلاً، استيقظ كطفل لم يكتمل نومه، تذكر أنه في الصيدلية، اقتربتْ منه، اعتذرتْ بأدب جم إن كانت سبب استيقاظه، ابتسم لها بسخاء، صوتها بالاعتذار هزّ اعماقه، نهض متثاقلاً، نظرات خجولة رافقتْ اعتذاره وشرح لها ما حصل ولماذا هو هنا، تفهمتْ الأمر، أعطته الدواء وتمنتْ لإبنته الشفاء، نظر الى الطاولة، ثمة كوب الشاي في مكانه لم يرشف منه شيئاً، لكن رائحته دفعته ليشرب منه قبل أن يغادر، تمنى لو أنه يطيل البقاء لكن ثمة من ينتظره، حطّ طائر في قلبه ملأهُ شذواً، وإحساس لذيذ أطل برأسه في اعماقها، طمأنته أن المطر توقف، رجته أن ينتبه لنفسه ولابنته، تبادلا النظرات الخجولة، دفع ثمن الدواء ثم غادر، بقيتْ متسمرة في مكانها تنظر إليه من الباب الزجاجي تتابع رحيله، عندما غاب في العتمة، عادتْ لعملها، انتبهتْ لكوب الشاي، لسبب غامض شربتْ منه، أخذتْ تتأمل مكان نومه، تذكرتْ أنه نسي المعطف، حملته وخرجتْ تبحث عنه ركضتْ في الاتجاه الذي ذهب فيه، وفي كبد العتمة اصطدمتْ بشخص، ارتعبتْ، اقترب منها مزمجراً، كان الشاب الثمل، تراجعتْ للخلف عدة خطوات وعيناها ترتجفان في محجرهما، من جوف العتمة سمع صرخة جلجلة سكون الليل، ارتعد، توقف، التفتَ نحو الصوت، ثم توجه نحوه، ركض وقلبه يدله الى الاتجاه، كبوصلة لم تخنها الاتجاهات، غابة من أيائل فزعة استيقظتْ فجأة في أعماقه، جرى في الشارع كمجنون، توقف فجأة، ثمة جسد ممدد على الأرض كشف عنه الضوء الخافت القادم من مصباح الشارع، يغرق بواحة من الدماء، لقد كانت هي! في يدها معطفه، ويدها الأخرى على صدرها حيث غُرزتْ عميقاً زجاجة مكسورة.

في جوف العتمة الباردة، تحت مطر مجنون، جلس بجوارها يبكي فقداً آخراً وحكايةً لم تكتمل.

ومن بعيد، بعيد جداً تسلل صوت حليم

فى يوم فى شهر فى سنة ..

تهدى الجراح وتنام

وعمر جرحي أنا.. أطول من الايام

وداع يا دنيا الهنا .. وداع يا حب يا أحلام

دا عمر جرحي أنا ..أطول من الايام

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *