” غبطة يوم “

(ثقافات)

” غبطة يوم “

هاملٍن غارلاند  *

ترجمة : إفلين الأطرش

 

 

 ” إنه يوم طويل ومضجر بشكل رئيسي، يميّزه بيت كدح في أحد طرفيه، وبلدة صغيرة بليدة في طرف آخر”.

 حين دخل “سام ماركهام” إلى البيت بعد أن عزق حمولة العربة الأخيرة من الحبوب داخل السقيفة ـ وجد أن زوجته “ديليا” قد وضعت الأطفال في أسرّة نومهم، وتقوم بعجن كمية العجين المطلوبة بردّة فعل منكّدة لامرأة تَعبة كئيبة.

  خلع حذاءه الطويل المندّى بقطرات الماء، وبما أنه وضع قطعة خشب فوق المدفأة، فقد أركز كعبيه عليها براحة تامة. صرّ كرسيه حالما انحنى إلى الخلف مستندا على رجليه الخلفيتين، لكن الرجل لم يُعر ذلك اهتماما، فقد اعتاد ذلك، تماما كما اعتاد عَرج زوجته وكدحها غير المتوقفيْن.
” ذلك يقرّب محصولي النهائي من القمح “، قال بعد صمت. ” أظن أنني سأذهب إلى البلدة غدا، كي أحذي أحصنتي”.

 ” أظن أنني سأستعد وأرافقك” قالت زوجته، برغبة مأسوف عليها في أن تكون حازمة وواثقة من نغمة صوتها.

 ” لماذا تريدين الذهاب إلى البلدة؟” دمدم.

” لماذا يريد أي أحد الذهاب إلى البلدة؟” انفجرت، مواجهة إياه. ” لم أغادر هذا البيت منذ ستة أشهر، بينما أنت تذهب وتذهب!”

 ” أوه، إنها ليست ستة أشهر. لقد ذهبتِ ذلك اليوم الذي اشتريتُ فيه آلة الحصاد”.

  ” متى كان ذلك؟ العاشر من تموز، وانت تعرف ذلك”.

 ” حسناً، ربما كان ذاك اليوم. لم أفكر أن ذلك حصل قبل وقت طويل هكذا. لا مانع لدي في ذهابك، سوى أنني سآخذ معي حمولة قمح”.

” جيد إذن، اترك كيسا واحدا فقط، وذلك سيعادل وزني ووزن الطفل”، قالت مُفعمة بالحيوية.

” حسنا”، أجاب بمزاجية حسنة أيضا، إذ رآها تنهض. ” فقط علينا أن نحمّل حمولة القمح تلك هذه الليلة إذا ما أردت الذهاب.  في الصباح لن يكون لديك الوقت لتمسكي لي الأكياس مع هؤلاء الصغار الذين عليهم الذهاب إلى المدرسة”.

” جيد. إذن دعنا نفعل ذلك الآن”، قالت مدافعة بعناد.

” أكره الخروج ثانية؛ لكن أظن أنه من الأفضل لنا  أن نفعل ذلك”.

  تثاءب على نحو مُغمّ، وبدأ وضع حذائه العالي ثانية، مثبتا قدميه المتورّمتين فيهما بمصاحبة وخزات من الألم. ارتدت هي معطفه وطاقية أحد الأطفال، واتجها إلى السقيفة. كان الليل صافيا وباردا.

” لا أظن أنها ستندف ثلجا كثيرا كما فعلت الليلة الماضية”، قال سام. ” من المكن أنها ستكون دافئة غدا”.

  واضعيْن الأكياس في ضوء الفنار،  فرزا تلك التي كانت كاملة الامتلاء، وتسلّق سام إلى الصومعة بدلو قصديري في يده، وابتدأ العمل.

 كان رجل ذا همّة عالية، وعمل بسرعة بالغة؛ غاص الدلو القصديري اللامع عميقا في القمح البارد وانسحب بثقل شديد على يدي المرأة التعبتين حين كان يصل فوهة الكيس، وارتجفت هي بإعياء، لكنها تابعت وسحبت الأكياس بعيدا حين كانت تمتلئ، وأحضرت غيرها، حتى انحدر سام عن الصومعة، لاهثا وصافرا في تنفّسه، كي يربطها جميعا بإحكام.

 ” أظن أنني سأضعها في العربة صباحا”، قال. ” لا حاجة بك لانتظاري. سأربطها الآن وحدي”.

” اوه، لا مانع لدي”، أجابت، شاعرة بتأثر قليل لاستجابته السهلة وغير المتوقعة لطلبها مرافقته. عندما عادا إلى البيت كان القمر قد توسّط السماء.

  كانت الشمس بالكاد قد بانت عندما أوقِظا بفعل صياح الديكة. تدحرج الرجل بتيبّس مغادرا فراشه  وابتدأ يقعقع في المدفأة وسط المطبخ المظلم البارد.

 أفاقت زوجته على عرج وتيبّس أكثر من المعتاد، وابتدأت عقص شعرها الخفيف إلى الخلف  ضامّة إياه على شكل عقدة.

  لم يتوقف سام من أجل أن يغتسل، إذ خرج باتجاه المخزن فورا. غمرت الزوجة وجهها بسرعة فائقة في الماء الكلسي الذي يملأ حوض المغسلة، كيفما اتُفق، ووضعت إبريق الغلي على النار. ثمّ نادت على الأطفال. كانت تعلم أن فعلها ذاك مبكر، وأنهم سيحتاجون عدة نداءات. دفعت إليهم بطعام إفطارهم على الطاولة، فتزاحمت في ذهنها الأشياء التي يجب أن تحصل عليها : ربطتان من الخيطان، ست ياردات من قماش الفانيلا القطني، علبة  قهوة، وقفازات لابنتها كيتي ـ هذا ما يجب أن تحصل عليه الآن ـ إذ هناك محيطات من الأشياء التي تحتاجها.

 أتى الأطفال حالا يَعدون باتجاه الأسفل خارجين من ظلمة الطابق العلوي، كي يلبسوا بشغب على مقربة من مدفأة المطبخ. تحدّبت ظهورهم وارتجفوا،  وهم يبعدون أقدامهم العارية عن البلاط البارد، مثل صيصان على ثلج حديث السقوط. كانوا مضطربين ، وتشابكوا وتداولوا الكلمات الجارحة وتضاربوا مثل القطط والكلاب. أوقفت السيدة ماركهام ذلك لبرهة إذ أصدرت أوامر فورية  بأن ” يلزموا الصمت”، لكن أخيرا نفذ صبرها، فانكبّت فوق المتشاجرين تلطمهم يمينا وشمالا. تناولوا طعام إفطارهم على ضوء المصباح، وعندما عاد  والدهم  ثانية إلى عمله في ساحة المخزن، كان الوقت بالكاد فجرا. وإذ استفرد الأطفال بأمهم، بدأوا الإلحاح عليها بأن تدعهم يرافقونها إلى البلدة أيضا.

 ” لا يا سادة ـ لن يذهب أحد سوى الطفل الصغير. سيأخذ والدكم حمولة من القمح”.

 حين أرسلت الأطفال الأكبر سنّا إلى المدرسة وانتهت من أعمال المطبخ، كانت قد ناءت  بحمل قلقها حول مجمل الأشياء. اجتازت غرفة الجلوس الصغيرة ودخلت غرفة النوم الباردة وارتدت أفضل ثوب لديها. لم يكن  يناسبها في أي وقت ، والآن وقد ازدادت نحولا،  فقد تعلّق هو الآخر بطيّات متجعّدة في كل مكان من كتفيها وخصرها. استلقت للحظة على السرير لتخفّف ذلك الألم البغيض في ظهرها. تملّكها للحظة عدم استساغة كلّية لفكرة ذهابها إلى البلدة. كانت فكرة العودة إلى النوم أكثر إغراء. لكن فكرة اليوم الطويل، والطويل، والرتابة المَرَضيّة لحياتها داهمتها ثانية، فنهضت وجهّزت الطفل الصغير لأجل الرحلة.

  كان الوقت بعيد شروق الشمس بقليل حين ساق سام العربة على الطريق وابتدأ الرحلة إلى  “بلدة بيليلين”. خلفه، جلست زوجته مكوّمة فوق أكياس القمح، ممسكة بالطفل في حضنها، بشرشف قطني تحتها، وبغطاء سرج قطني فوق ركبتيها.

 كان سام ميالا لأن يتحلّى بمزاج جيد، فتحدّث إليها ملتفتا برأسه ناحيتها بين حين وآخر، مع أنها استطاعت فهم ما يقول حين كان يدير رأسه باتجاهها فقط. حدّق الطفل في أعمدة الأسيجة التي كانوا يمرون بها، ولوّح بكفيه من خلال قفازيه حين كانت تسنح له الفرصة. لقد كان على الأقل، مبتهجاً.

  كان الطقس يزداد دفئا كلما تقدموا، وهبّت ريح جنوبية قوية. استقرّ الغبار فوق شال المرأة وقبعتها. انفكّ شعرها وتناثر فوق وجهها حين كانت تعسف به الريح أحيانا. كان الطريق المارّ عبر البراري المنبسطة العالية، ناعما تماما وجافا، لكنه لا يزال يسدّد إليها ضربات غباره، وازدادت آلام ظهرها. لم يكن لديها ما تتكئ عليه، وتعاظم وزن الطفل، حتى أُجبرت على وضعه إلى جانبها فوق الأكياس، بالرغم من أنها لم تستطع تخفيف إحكام قبضتها عليه للحظة.

  ابتدأت البلدة تظهر للعيان ـ حفنة من البيوت الصغيرة المؤطرة فوق المخازن،  مقامة على الأراضي البرية الجافة بجانب سكة الحديد. لم تكن هناك أشجار من الممكن تسميتها أشجارا مُظلّلة. غمر ضوء الشمس المتوهج، غير الشفوق كلّ شيء. انتشرت جماعات صغيرة هنا وهناك، وفي فيء المخازن تستطيع رؤية رجال قليلين يجلسون براحة تامة، ترتفع إلى الأعلى وتنخفض إلى الأسفل حوافّ قبعاتهم العريضة، فتبدو وجوههم بنيّة اللون كما الجِلد.

 أنزل سام  زوجته أمام أحد مخازن التموين، واتجه بالعربة ناحية مخازن الحنطة ليبيع قمحه.

  حيّا البقال السيدة بطريقة لطيفة روتينية، وقدّم لها كرسيا، أخذته بامتنان. جلست ما يقارب الربع ساعة دون حراك، مسندة ظهرها إلى ظهر الكرسي العالي. أخيرا ابتدأ الطفل يضجّ ويبدي عدم راحة، فأمضت نصف ساعة تساعده بتسلية نفسه حول البراميل الصغيرة المثبتة بالمسامير إلى الأرضية.

  نهضت بعد مدة وخرجت حاملة الطفل، لتكمل مشوارها. دخلت إلى مخزن الأقمشة والألبسة الجاهزة واتخذت لها مجلسا على أحد المقاعد الصغيرة الثابتة. كان هناك امرأة تشتري بعض الأقمشة الصوفية من أجل ثيابها، ثمن العشر ياردات سبع وعشرون سنتا،  كما قال البائع، لكنه سيخصم سنتين إذا ما اشترت العشر كاملة. كان القماش يبدو دافئا، وتمنت السيدة ماركهام لو أنها تستطيع توفير ذلك لابنتها ماري …

 دخلت المتجر فتاة صغيرة جميلة. ضحكت وثرثرت مع البائع، وابتاعت زوجا من القفازات. كانت ابنة البقال. أشاعت سعادتها حزنا في نفس تلك الزوجة والأم. حين عاد سام طلبت منه بعض النقود.

” ماذا تريدين أن تفعلي بها؟” سألها.

” أريد أن أنفقها”، أجابت. لم تكن في وضع يقبل النقاش، لذلك أعطاها دولارا.

” أريد دولارا آخر”.

” حسنا. علي أن أذهب  للمصرف لأسدد ذلك الإشعار”.

 “حسنا، يجب أن يحصل الأطفال على بعض الثياب الداخلية الجديدة”. قالت.

  ناولها دولارين وغادر متجّها إلى المصرف لتسديد قيمة الإشعار.

 اشترت قماش الفانيلا القطني الذي تحتاج والقفازات والخيطان، ثم جلست مسندة ظهرها إلى القاطع. كان الوقت ظهرا، وكانت جائعة. اتجهت إلى العربة فأخرجت طعام الغداء الذي أحضرته معها، وأخذته إلى البقالة لتتناوله هناك ـ حيث تستطيع الحصول على جرعة ماء.

  أعطى البقال الطفل قطعة حلوى عصريّة وناول الأم تفاحة .” سوف تلطّف وتسهل بلع كعكة الدونات التي معك”، قال لها.

 بعد تناول طعام غدائها نهضت وخرجت، إذ شعرت بالخجل من بقائها مدة أطول. دخلت متجرا آخر، لكن حين قَدِم الموظف إليها قائلا ” أتريدين شيئا اليوم سيدة …  ؟”. أجابت، ” لا ، لا أظن ذلك”، وغادرت بحُمق يكسو وجهها.

 صعدت مع الشارع ونزلته، معزولة مشرّدة. لم تدرِ ما تفعله بنفسها. لا تعرف أحدا إلا البقال. ازدادت مرارة لمرآها امرأتين تسيران معا، تمسكان أنصاف أذيالهن بحسب آخر صيحات موضة المدينة. مرّت بها امرأة أخرى تدفع عربة أطفال، فيها طفل تقريبا في مثل حجم طفلها. كان يؤرجح نفسه صعودا وهبوطا على قضبان العربة الحديدية، يضحك ويصرخ. توهّج وجهه المستدير النظيف من خلال قبعته المهدّبة. نزل بصرها على وجه طفلها الكامس المتسخ  وثيابه المُغبرة، فتابعت سيرها بهمجيّة.

 دخلت المتجر حيث نافورة الصودا، لكن ذلك أعطشها فلم تجلس وخرجت إلى الشارع ثانية. سمعت سام يضحك، ورأته وسط مجموعة من الرجال إلى جانب دكان الحداد. كان يستمتع بوقته وقد نسيها. آلمها ظهرها بشكل غير محتمل فتوصّلت إلى أن تذهب إلى دكان البقالة وتستريح على الكرسي مرة ثانية. تنامى ضيق وعدم راحة الطفل. اشترت حلوى بخمس سنتات لتأخذها معها لأطفالها في البيت، وأعطت الصغير إحداها ليلزم الهدوء. تمنّت لو أن سام يأتي. لا بدّ أن الوقت قد تأخر، لكن البقال قال إنها ليست أكثر من الواحدة بعد الظهر. بدا الوقت طويلا بشكل مخيف.

 شعرت بأنه عليها أن تفعل شيئا وهي في البلدة. راجعت قائمة مشترياتها. صحيح، هذا كل ما خططت لشرائه، فوقعت في مطب تجسيد احتياجاتها. كان ذلك فظيعا، فهو يحتاج ما بين عشرين وثلاثين دولارا على الأقل. سام، كما هو حالها أيضا، بحاجة إلى ثياب داخلية من أجل الشتاء القارس، لكن عليهما ارتداء القديمة منها، حتى ولو كانت قد بليت أو اهترأت. لن تحتاج إلى ثوب، فكرت بمرارة، لأنها لا تذهب إلى أي مكان على الإطلاق. نهضت وخرجت إلى الشارع من جديد، وتجوّلت صعودا ونزولا، تُمعن النظر في كلّ شيء على أمل استمتاعها بشيء ما.

  أسند رجل من “بون كريك” حمولة تفاح إلى الممشى الجانبي للشارع، وحيث أنه كان في انتظار البقال فقد لاحظ السيدة ماركهام والطفل، فأعطى الطفل تفاحة. كان ذلك لها بهجة. فقد تعامل معه بحنوّ بالغ. هو من موقعه ذاك رأى امرأة مزارع عادية بثوب مغبّر، وشعر مبعثر منفوش، ووجه تعب. لم يدرِ بالضبط لماذا راقت له، لكنه حاول التسرية عنها.

  كان البقال معتادا على مثل هذا الصنف من الزوجات المُتسخات المتعبات. وقد اعتاد على مرآهن يجلسن لساعات على كرسيه الخشبي الكبير، يرعين أطفالا مُتعبين وضَجرين. ولم يشكل   له أي معنىً خاص، تجوالهن يومي المظهر، البائس المهجور، غير الهادف والصبور، صعودا ونزولا مع الشارع.

                                       ×××××

 في كوخ على زاوية الشارع من ناحية متجر البقالة كان رجلان وامرأة ينهون طعام غدائهم طيب المذاق. كانت المرأة ترتدي ثوبا منزليا أبيض، يشيع البرودة، فبدت وكأنها  تصنع من ذاك اليوم يوم راحة تامة.

 لم يكن بيت المبجّل “السيد هول” الأكثر كلفة في هذه البلدة، لكن زوجته عملت منه الأكثر جاذبية. كان أحد المحامين القدوة في البلاد، ورجل ذو رؤى حضارية وتقدمية. كان يقوم بتسلية صديق له ألقى محاضرته الليلة الفائتة في أبرشية البلدة. لم يكونا في نقاش جدّي بأي حال. كان الحديث أميل إلى الطيش أو التفاهة. كان لدى هول المقدرة على رسم شخصيات كاريكاتورية للرجال بقليل من الإيحاءات والاتجاهات، وكان يعطي لصديقه الآتي من ولاية شرقية، بعض المواصفات للمحامين من الولايات الغربية، ذوي الطراز القديم الذين التقاهم أثناء تدريبه. كان مسلٍ جدا، فضحك صديقه من كل قلبه بعض الوقت.

 لكن فجأة أصبح هول متخوّفا من أن “أوتس” لا يصغي إليه. ثمّ تنبه إلى أن صديقه كان يسترق النظر إلى أحد ما خارج النافذة، وأن وجهه  قد بدأ يغشاه حزن عميق.

 توقف هول ، ” ماذا ترى، أوتس؟”.

  أجاب أوتس: ” أرى امرأة مهجورة بائسة، تعبة”.

  نهضت السيدة هول واتجهت إلى النافذة. كانت ديليا ماركهام تسير أمام المنزل تحمل طفلها بين ذراعيها. غضب وحشي وبكاء صامت مرير في عينيها وعلى شفتيها، ومأساة دون أمل في مشيتها المتثاقلة وظهرها المحني.

 وسط صمت الجميع تابع أوتس: ” رأيت المخلوقة المسكينة المهجورة والمرفوضة مرتين هذا الصباح. لم أستطع نسيانها.”

” من هي؟” سألته السيدة هول ، برقة بالغة.

” اسمها ماركهام، إنها زوجة سام ماركهام”، قال زوجها.

  انسحبت الزوجة الشابة في الطريق إلى غرفة الجلوس، فاتخذ الرجلان مجلسيهما يدخنان السيجار. كان هول يحاول إيجاد تحوّل للموضوع حين عقّب أوتس فجأة:

” أتت تلك المرأة للبلدة اليوم لتحصل على تغيير ما، لتشارك في تلاعب ألفاظ طفيف، وها هي تتجوّل كقطة تعبة جائعة. أتساءل إذا ما كان هناك امرأة في هذه البلدة ذات تعاطف كافٍ وشجاعة كافية أيضا، لتخرج وتساعد تلك المرأة؟ أصحاب الصالونات، السياسيون، والبقّالون يجعلون الأمر مسليا ومفرحا للرجل ـ مسليا ومفرحا لدرجة أن ينسى الرجل زوجته. لكن الزوجة تُترك دون أية كلمة”.

  أسقطت السيدة هول انشغالاتها، وعلى وجهها الجميل ارتسمت نظرة ألم. لقد جرّمتها كلمات الرجل القاسية ـ وأيقظتها. أخذت قبعتها وأسرعت خارجة إلى الممشى. نظر الرجلان كلاهما إلى الآخر، ثم قال الزوج:

 ” سيكون الأمر مثيرا للانفعال قليلا لنا نحن الرجال في هذه الغرفة. من المفروض أن نقوم بجولة”.

  شعرت ديليا بيد على ذراعها حين توقفت على الزاوية.

” تبدين تعبة، يا سيدة ماركهام، ألا تدخلين لبرهة وجيزة؟ أنا السيدة هول”.
استدارت السيدة ماركهام بعبوس في وجهها وبكلمة نصف منطوقة على لسانها، لكن شيئا في الوجه الجميل المستدير والصغير للمرأة الأخرى أخرسها، فانفرد حاجباها.

 ” شكرا جزيلا لك. لكن حان وقت العودة إلى البيت. إنني أبحث عن السيد ماركهام الآن”.

” أوه، ادخلي ولو قليلا، فالطفل ضَجر وتَعب؛ أرجوك افعلي”.

  أذعنت السيدة ماركهام للصوت الصدوق، ومعا وصلت المرأتان البوابة حال استدار الرجلان بسرعة عند الزاوية الأخرى.

 ” دعيني أخفف عنك”، قالت السيدة هول.

 تردّدت الأخرى. ” إنه مغبّر جدا”.

 ” أوه، هذا لن يضير ، أوه، يا له من طفل كبير‍!  ليس عندي أطفال”، قالت السيدة هول، ومرّت نظرة سريعة مثل وهج كهربائي بين المرأتين، فكانت ديليا ضيفتها المطواعة منذ تلك اللحظة.

 دخلتا غرفة الجلوس الصغيرة، مكان محبب وجميل لزوجة مزارع، وحالما غطست في أحد المقاعد المريحة كانت في انحناءة  ظهر وخدر جسد، بالفعل إنها مُتعبة. استسلمت حتى يُزال الغبار عنها. سلّمت الطفل ليدي تلك المرأة السويدية، التي غسلت له وجهه ويديه، احتضنته وهدهدته، وغنّت له لينام، بينما كانت أمه تحتسي الشاي. خلال ذلك كله أرخت ظهرها في المقعد المريح، دون أية كلمة، بينما كان الألم ينسلّ من ظهرها، ويتوقف رأسها الساخن المتصدّع عن النبض السريع.

 لكنها رأت كلّ شيء ـ البيانو، اللوحات، الستائر، ورق الجدران، ومجموعة الشاي المعروضة. كانت تشعر بافتتان نحوها جميعا، تماما مثل افتتانها بالطعام الذي قدّم، وبالشاي المنعش. لم ترَ في حياتها إدارة بيت كهذا، فقد أذابت أمها بلاط المطبخ وأصبح بسمك ورق التغليف البني من أجل الحفاظ على بيت لامع، وقد دخلت بيوتا أكثر اتساع وأكثر تكلفة، لكن شيئا ما من سحر مضيفتها كان في ترتيب الزهريات، الكراسي، أو اللوحات. كان ذلك في منتهى الذوق .

 لم تسألها السيدة هول عن أمورها الخاصة. تحدّثت معها عن الطفل الصغير النكِد، وعن الأشياء التي كانت تستقرّ عليها عينا ديليا. فإذا ما أظهرت اهتماما في زهرية ، كانت تخبرها عن أصلها ومنشئها. أُطلِعت على جميع اللوحات والكتب. بدت السيدة هول وكأنها تقرأ أفكار زائرتها. حافظت على ابتعادها عن ذكر أي شيء في المزرعة أو أية أمور خاصة بزائرتها قدر الإمكان، وأخيرا فتحت البيانو، وغنّت لها ـ ولم تكن ألحانا ذات إيقاعات بطيئة، لكنها أغاني حبّ أخّاذة مليئة بالعاطفة؛ ثم عزفت بعض الألحان البسيطة، مدركة أن عيني ضيفتها كانتا تدرسان حركات يديها بخواتمها، وبوميض أصابعها على المفاتيح ــ ترى أكثر مما تسمع ـ وخلال ذلك كله أعطت الانطباع أيضا ، بأنها تمضي وقتا طيبا.

   أيقظتهما الاثنتين قرقعة عجلات العربة في الخارج. كان سام على البوابة  يطلبها. نهضت زوجته ديليا بسرعة. “أوه، إنه غروب الشمس تقريبا!” غمغمت باندهاش حين كانت تلقي بنظرة إلى الخارج.

 ” ليس في هذا قتل لأي أحد” أجابت مضيفتها. ” لا تسرعي. كاري، خذي الطفل للعربة بينما أساعد السيدة في جمع أشيائها”.

” أوه، لقد أمضيتُ وقتا طيبا”، قالت السيدة ماركهام حين كانت تسير على الممشى الخارجي.

 ” وكذلك أنا”، أجابت السيدة هول. أخذت الطفل للحظة بينما كانت ضيفتها تصعد العربة. ” أوه، أيها الولد الكبير السمين!” صاحت وهي تعتصره. ” عليك أن تحضر زوجتك دائما ، سيد ماركهام”. قالت، حين رفعت الطفل  إلى والدته.

 كان سام يحدّق بحيرة شديدة.

” شكرا لكِ، سوف أفعل”، إذ تدبّر أخيرا أمره بأن يجيب.

 ” ليلة سعيدة”، قالت السيدة ماركهام.

” ليلة سعيدة ، يا عزيزتي”، نادت عليها السيدة هول، وبدأت العربة قرقعتها على الطريق.

   الرقة والشفقة في صوتها دفعتا الدموع إلى عيني ديليا ـ لا هي ساخنة ولا مُرّة تلك الدموع، لكنها مريحة للعينين ومصفية للذهن.

                                  ××××

    مع امتداد الطريق، هدأت الريح، وسقطت أشعة الشمس الحمراء بضبابية فوق معالم القمح والعلف. كانت صراصير الليل لا تزال بأزيزها تعلن وجودها. وقطعان الماشية تساق إلى حظائر المزرعة.  ( فهي عادت بحمولة ” يوم” من تعاطف إنساني).

                                 ************************

*هاملِن غارلاند : روائي ، شاعر، كاتب قصة قصيرة من الولايات المتحدة، كما أنه كاتب مقالات وباحث في مجالات مختلفة. من مواليد بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تأثر كثيرا بالعيش في مزارع يمتلكها والده، فتشرب معاناة الحياة الريفية بخاصة حيوات صغار المزارعين، وكتب عنها بمصداقية عالية. ابتدأت شهرته في عمر مبكر بعد نشر أولى مجموعاته القصصية التي تصور حياة الريف الغربي من الولايات، فتفرّغ للكتابة .لا يزال بيته في هوليوود، آخر مستقرّ له، كما هو بعد رحيله في عمر التاسعة والسبعين، إذ اعتمد أحد معالمها..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *