ســـعـــاد عــيسـاوي‏ نفحات نورانية.. وطاقة روحية

(ثقافات)

ســـعـــاد عــيسـاوي: ‏ نفحات نورانية.. وطاقة روحية

* غازي انعــيم

‏ تعد الفنانة الأردنية سعاد عيساوي المولودة في العيسوية / القدس عام ‏‎1955‎‏ ، صاحبة أول ‏جاليري – بلدنا – تؤسسه سيدة في عمان عام ‏‎1990‎‏ وما زال مستمراً حتى الآن لكن بمسمى ‏آخر هو ( جاليري رؤى ‏‎32‎‏ ) وقد قدمت من خلاله للجمهور عشرات المعارض المحلية ‏والعربية والأجنبية، وكان جلها لأسماء عربية مهمة من سوريا والعراق ومصر وفلسطين.‏

‏ والفنانة سعاد عيساوي التي درست العمارة الداخلية في كلية الفنون الجميلة بدمشق، ‏وتخرجت عام ‏‎1983‎‏ تستحق التقدير والاعجاب، فقد كانت رحلتها في الحياة من عمان إلى ‏دمشق وبالعكس نموذجاً للكفاح والصبر والإيمان بالفن وأهميته في الحياة، واستطاعت إلى ‏جانب دراستها في الكلية ا أن توفق ما بين عملها النضالي وواجباتها نحو بيتها وبناتها. حيث ‏كرست حياتها لهن، ونجحت في زرع حب الفن في قلوبهن دون استثناء، وبرز منهن ابنتها ( ‏لمى حوراني ) التي نجحت بمساعدة والدتها التي وفرت لها كل امكانيات النجاح بأن تكون ‏اسماً لامعاً في تصميم المجوهرات على الصعيد العالمي. ‏

‏ وقد كانت حياة الفنانة سعاد عيساوي مثل أعمالها، مثلاً يحتذى به في المثابرة والكفاح، ‏وسلسلة ممتدة تملؤها التضحية والنجاح والمتعة معاً. وهذه الأعمال ذات الطبيعة الفطرية ‏الواضحة في أسلوب أعمالها، والتي استحضرتها في أشكال وألوان مثل الرؤى والأساطير، ‏جاءت بعد سنوات طويلة من الدراسة والبحث بعد تجربة طويلة مع تصميم الأزياء وتطريزها، ‏فخاضت غمار التجريب وعرفت أسرار المواد وتحولاتها وسبل أدائها المختلفة.. كما أولت ‏أهمية خاصة للخامات ليس لأنها تمثل وسائطها لنقل ما يعتمل في داخلها من أفكار ‏وأحاسيس بل إنَّ لها سحراً وتأثيراً على المتلقي.. كما أنها واكبت الحداثة وما بعد الحداثة ‏منطلقةً من أرضية ترتكزُ على الوعي بالأصول والجذور، بالإضافة إلى قدرتها على التّحكم في ‏أدواتها الفنية وفي مساراتها وأطروحاتها المرتكزة على الجانب الجمالي إلى جانب تجسيد ‏العواطف الخاصة بالانفعال والتَّدفق وامتلاك حيوية الاتصال بالكون والروحانيات وحيوية ‏امتلاك فوران المشاعر في هيئة أساليب جماليةٍ ذاتَ هوية خاصة ترتكز على الجانب التعبيري ‏والرمزي والروحي حيث تتيح للمتلقي التواصل مع عناصر الطبيعة وتجعلهُ مستعداً ليرى مالا ‏يرى، فالجانب الآخر من كلِّ شيءٍ يكون على قدرٍ كبير من الغموض وصنوٍ للحياة ومبتغاها.‏

‏ هذه التجربة التي تخوضها الفنانة ” سعاد عيساوي ” والمرتكزة على العالم الداخلي للعقل ‏الباطن يتماهى فيها الخيال مع الواقع، من اجل إيجاد أشكالٍ أو تصوراتٍ جديدةٍ لمضامين ‏قديمةٍ وابتكارِ عناصرَ أو مواقف تكون لها قيمتها التفسيرية فمثلا الخيال عن ” هيجل ” هو ‏نشاط خلاقٌ ينطوي على عطاءٍ وحسٍ يتيحان للفنان أن يعقل الواقع القائم، من هنا يتماهى ‏الخيال مع الواقع عند الفنانة ” سعاد ” التي تنطلق من رياضة ” اليوغا ” التي تفيد في تركيز ‏الذهن وتوجيهه نحو الداخل في محاولةٍ منها لمنح الواقع الحي للنفس قدراً متواصلاً من ‏اهتمامها اليوميِّ حيث يظلُّ الذّهنُ منتبهاً للتلميحات والإرشادات سواءً في الأحلام أم في ‏الأحداث الخارجية، تلك التي تستخدمها النفس لكي ترمز إلى نواياها أو إلى الاتجاه الذي ‏يتحرك فيه تيارُ حياتها.‏

‏ ومن خلال اليوغا أيضاً تعرفت الفنانة ” عيساوي ” على مسارات الطّاقةِ في الجسم وعلاقتها ‏بالظواهر الجسدية، وكذلك تعرفت على مراكزها السبعة والألوان التي ترمز إليها، فقامت ببث ‏هذه الطاقة اللونية على مسطحات لوحاتها وسارت من مركز الرأس أو التاج الذي يمثله اللون ‏الأبيضُ، إلى المركز الجبهي ( العين الثالثة ) والذي يمثله اللون البنفسجي، ثم إلى المركز ‏الحنجري ( الحلق ) الذي يمثله اللون الأزرق، وصولاً إلى مركز القلب الذي يمثله اللون ‏الأخضر وموقعه في منتصف الصدر… وكل مركز من هذه المراكز الذي مر فيها اللون ‏مرتبطاً بواحدة من الغدد الصم السبع، ومع مجموعة محددة من الأعصاب تسمى ضفيرة أو ‏شبكة عصبية.‏

‏ والمدققُ في مجمل أعمالها الفنية يلاحظُ أن هذه الألوان المأخوذة من تلك المراكز هي ‏السمة الغالبة على أعمالها الفنية، ولم تقف الفنانة ” عيساوي ” عند هذه الرياضة؛ بل ذهبت ‏إلى مسح ” براهما ” الرباعي الاتجاهات للكون والمتمثلة في ( التفكير، الشعور، الحدس، ‏الحس ) وهذه العناصر ترمز إلى التكامل الضروري لهذه الوظائف الأربع التي ينبغي على ‏الإنسان أن ينجزها، لذلك جاءت المواضيع التي قدمتها ” عيساوي ” فيها الكثير من التوكيد ‏على أركان الدنيا الأربعة، مع العلم أن مجموع زوايا المربع هي نفسها زاوية الدائرة التي ترمز ‏إلى النفس ( حتى أفلاطون صور النفس على شكل دائرة ).‏

‏ هذا الشكل المربع نشاهده في اللوحة التي تمثل مدينة مصممة بيوتها على شكل مربع حيث ‏تمتد على الجهات الأربع للوحة، التي يظهر من وسطها كف في وسطه نجمة ثمانية بدل ‏العين، ويحيط بالكف مجموعة من الطيور، حيث تم من خلال عنصر الشكل المزاوجة بين ‏الجانب العقلي والجانب الحسي، ففي الجانب العقلي وضعت ” عيساوي ” صيغاً معمارية ‏محسوبة الأبعاد، وهذه الصيغ المتمثلة في المربع لها مرجعياتها في الإرث الثقافي الحضاري ‏القديم حيث أخذت العمارة المختلفة تشكيلاً مربعاً، وهذا الشكل يتضمن أبعاد سكونية وحركية ‏في آن معاً، وهو في لغة التاويل يمثل الجهد الإنساني.‏

‏ هذا العمل الفني بطريقة تصميمه لم يتكرر في أعمال أخرى للفنانة ” عيساوي”، وهذا لا ‏ينفي ان عنصر التعبير لديها يتبلور في مفاصل متعددة من تجربتها الفنية التي تكرست فيها ‏الدائرة، حيث قامت ” عيساوي ” بتصميم مدنها على شكل دائري وهي تأتي امتداداً لبعض ‏المدن التي صممت في العصور الوسطى والتي أُحيطت بسور دائري تقريباً، وقد لعبت الدائرة ‏دوراً كبيراً في السيمياء لدى الإغريق القدماء لا سيما أن السيميائيون أبدعوا العديد من اللوحات ‏التي رسموا فيها أحلامهم ورؤاهم التي تعكس الحلم وروح الأرض.‏

‏ وقد جاء توظيف الدائرة في أعمال ” عيساوي ” الفنية بشكل مدروس لتعبر عن النفس الكلية ‏بجوانبها المختلفة بما في ذلك العلاقة بين الإنسان والطبيعة ككل، وهذه الدائرة التي تكرست في ‏أعمال ” عيساوي ” الفنية تمثل أيضاً الجهات الأربع للبوصلة في أسطورة الخلق الهندية، لذلك ‏لا يمكن النظر إليها إلا كرمز لحاجة الإنسان إلى التوجه النفسي، وهي تهيئ الإنسان للتعامل ‏مع الانطباعات التي يتلقاها من محيطة الداخلي والخارجي على حد سواء، وعن طريق النفس ‏ومن خلال هذه الوظائف مضافاً إليها خبرتها في علم النفس والفلسفة، نقلت ” عيساوي ” ‏خبراتها على مسطح اللوحة وعبرت عما يختلج في داخلها بالخط واللون.‏

‏ ومن الجدير بالذكر أن تصميم المدن بشكل دائري سواء في المراحل البدائية أم الكلاسيكية، ‏لم تُـمْلِهِ اعتبارات جمالية أو اقتصادية، بل هو تشبيه بالكون المنظم، من هنا فإن كل بناء ‏وكل عنصر تم تصميمه وفق صورة الدائرة في لوحات ” عيساوي، إنما هو إظهار لصورة ‏نموذج أصلي من داخل اللاشعور البشري إلى العامل الخارجي. لذلك يأتي توظيف الدائرة في ‏هذه التجربة لدعم الكينونة الداخلية وشد أزرها أو لتمكين الفرد من الاستغراق في تفكير عميق ‏في اللوحة من أجل بلوغ السلام الداخلي، أي الشعور بأن الحياة استعادت معناها ونظامها. ‏

‏ كما عملت ” العيساوي ” على أنسنة الدائرة في أكثر من عمل فني وظهر ذلك من خلال ‏تسيد المرأة لمركز اللوحة سواء كانت في ( شمس أو قمر أو كرة أرضية )، وهي من خلال هذه ‏العناصر ترمز إلى ” الذرة النووية ” أي نفس الإنسان المعبرة عن الشعور بالثقة والاستقرار، ‏وأهم ما نلاحظه في أسلوب رسمها للمرأة من خلال رسم أجزاء الرأس ثلاثة عناصر ” الشعر ‏الطويل والعينان والرقبة “، فالشعر الطويل يحمل رسائل كثيرة منها : دليل صحة وعافية ‏ويعكس مكانتها في المجتمع، وتعكس العيون القدرة على الملاحظة إلى جانب القلق والشكوك، ‏أما الرقبة والتي تمثل الجزء الرابط ما بين الرأس والجسم ترمز إلى العقل والانفعال. ‏

‏ وما اهتمامها بعنصر المرأة كأساس ارتكاز للعمل الفني إلا إيمان بالذات والآخر.. ولا غرابة ‏في هذا، لأن ” عيساوي كانت دائماً مرتبطة بعلاقات اجتماعية مع الفنانين وتتواصل بشكل ‏دائم معهم .‏

‏ إذاً جاء توظيف الدائرة في لوحات ” عيساوي ” لتخدم عناصرها ولترمز إلى النفس، والمادة ‏المرتبطة بالأرض، رمز الجسد والواقع، لذلك لعبت الدائرة دوراً مهماً في حياتنا اليومية وما تزال ‏تلعبه. وإذا كانت الدائرة نقطة انطلاق الفنانة ” عيساوي ” في هذه التجربة، فهي في الحقيقة ‏السيكولوجية أنها تمثل الأداة المعبرة عن روح عصرها، واللسان الناطق باسمها، لذلك أعطت ‏شكلاً لموضوعاتها التي عكست الرؤية الداخلية، وكذلك الخلفية الروحية للحياة والعالم، ومن ‏خلال ذلك عكست الإيقاع الخالص لمشاعرها، النبض الأشد سرية لقلبها.‏

‏ لقد التفتت ” سعاد عيساوي ” في هذه التجربة بصورة خالصة إلى عالمها الداخلي وحاولت ‏أن تُعرِّف نفسها ليس باجترار أفكارها ومشاعرها الذاتية، بل بتتبع الأشكال التي تظهر فيها ‏طبيعتها الموضوعية الخاصة والتي انطبعت أحلاماً ورموزاً على مسطحات لوحاتها حيث ‏شاهدنا من خلالها ” الأنا ” التي تعكس القوة الداخلية التي تحتوي على إمكانات التجدد والتي ‏جاءت من خلال الرمز الذي يعبّر عن دلالة معينة حسب موقعه في اللوحة وقد أضفى على ‏الأشكال أهمية سيكولوجية؛ وما التاريخ المتواشج للدين والفن إلا السجل الذي تركه لنا أسلافنا ‏للرموز التي كانت ذات معنىً بالنسبة إليهم.‏

بالإضافة إلى الشكل الهندسي المربع والدائري عملت ” عيساوي ” على إعادة الوحدة بين الواقع ‏الداخلي والخارجي، وأقامت وحدة جديدة بين الجسد والنفس، المادة والروح، هذا الأمر يتضح ‏بالنسبة إلى المتلقي من جو الأعمال الفنية المتجانسة التي اعتمدت على تعبير اللحظة ‏وعفويتها، بالإضافة إلى التعامل مع الألوان بتلقائية جريئة والتي تحكي حكايات المكان الذي ‏نشأت فيه، حيث أضافت إليها أساطيرها وحكاياتها السردية الخاصة، وهي أبرز ما في ‏خصوصية تجربتها الفنية التي تتكون من تقنيات مختلفة: ( رسم على كرتون، تطريز على ‏قماش وأعمال نفذت بالمعدن والمرايا )، إلى جانب المضمون الفكري حيث استخدمت الفنانة ‏التشكيل في الفراغ والتجريب في البناء التشكيلي الذي ضمنته عناصر تجريدية كاملة متكررة ‏تمثل شخوصاً ورموزاً أخرى عبارة عن: (عين، وثمر الرمان، وغصن الزيتون، ومفتاح الدار.. ‏‏). ‏

‏ هذه الرموز التي وظفتها ” عيساوي ” على مسطحات لوحاتها، ومشغولاتها المعدنية لها ‏مكانتها في التراث الشعبي، لذلك جاء توظيفها لتأكيد معنى تغلغل معتقد العين والحسد في ‏الوجدان الشعبي، أما الرمان والزيتون فلهما مكانتهما في القرآن الكريم وفي التراث الشعبي ‏كرمز للعطاء والخير والحياة.. ويرمز مفتاح الدار إلى العودة للبيت الذي سلب من قبل العدو، ‏وهو أيضاً رمز الحرية والأمان حيث يحمل الإنسان مفتاحه معه أينما حلّ وأينما رحل، كما ‏يعتبر رمزاً لاستقلالية الأفراد ومنعة المدن.‏

‏ تلك العناصر التي تلتف حول مركز المرآة ذات الشكل الهندسي الدائري تمثل الإشراق ‏النوراني وترمز للكمال البشري كما تعكس ذات المتلقي إذا أمعن النظر فيها حيث تعتبر ‏وسيلة للتأمل.. كما تجعله يتنقل بين رموزها وتجعله يتذكر أماكنها كما يعيشها، لا سيما أن ‏الناس في العصور القديمة لم يكونوا يفكرون برموزهم بل كانوا يعيشونها وكان معناها يملؤهم ‏بالحيوية والحماسة لا شعورياً.‏

‏ هذه الرموز الثقافية التي تكرست في العقل الجمعي الشعبي عبر التاريخ ما زالت تحتفظ ‏بقدر كبير من سحرها؛ فالمرء يدرك أن بإمكانها أن تثير رداً عاطفياً عميق الجذور لدى المتلقي ‏صانعة بذلك شحنة نفسية.‏

‏ والفنانة ” سعاد عيساوي ” تفاجئ الحياة الفنية في هذه التجربة التي تتمسك فيها بقيم ‏أكاديمية تتمثل في اهتمامها برسم البورتريه ( المرأة ) إلى جانب العديد من العناصر المستقاة ‏من الأسطورة والواقع مثل طائر الفينيق ونبات الصبار والأسماك والورود والشمس والبحر ‏والأرض والحمام والبيوت والعنب بالإضافة إلى تكرار توظيف العناصر التي سبق وأن وظفتها ‏في موضوع المرآة مثل:” غصن الزيتون والرمان والكف والعين والمفتاح “. ‏

‏ ومن خلال هذه العناصر تصدح ” عيساوي ” بألوانها فتكاد تسمع في لوحاتها الورقية وبين ‏أشكالها الفراغية صوتٌ يأتي من أعماق الأسطورة يحكي من خلال طائر الفينيق الذي نفض ‏جناحية من بين الرماد وعاد للحياة يحكي صراع الخير ضد الشر، الجمال ضد القبح، كما ‏يحكي عن تلك الوجوه المشعة فرحاً وسعادة، عن النساء اللائي يلبسن الأقراط والذي يُمثل ‏سمكة تتحدى المستحيل بعينيها الجريئتين. وهنا تتجاوز الفنانة المعنى الرمزي الذي يفرضه ‏طائر الفينيق والسمكة في الضمير الجمعي من دلالات مباشرة ومثل ما هو متعارف عليه فإن ‏الطائر يعني التحليق، وأما السمكة فهي ترمز إلى الخصوبة، وقد مر الرمز في أعمالها الفنية ‏عبر ذاكرة حساسة مرهفة ارتبطت بواقع وجذور تاريخية كما عكس روح الفنانة المشحونة ‏بالأمل وارتباطها بأرضها وفهمها لمعنى الحياة الذي انعكس من خلال فلسفتها المبنية على ‏حساباتها الدقيقة كفنانة مبدعة من خلال عناصر الحياة الرئيسة ” الأرض، السماء، ‏الماء،الإنسان، النبات والحيوان “.‏

‏ كما تسمع من خلال لوحاتها دندنة أغاني الحب، بألوان شفيفة بهيجة، وخطوط ناعمة ذات ‏رقة وتسمع من خلالها أيضاً، صوت هديل اليمامة، وزقزقة العصافير، وحركة السمك في ‏الماء، وكذلك حركة جناحي طائر الفينيق الذي ينفضهما من الرماد، مكوناً من خلالهما دائرة ‏تحتضن الشمس والأرض والبيوت والعيون والورود التي تعزف موسيقى الفرح والأمل …‏

‏ لا صراع في لوحاتها، ولا صياح، بل همسات عذبة متناغمة لكائنات من عالم الأحلام، ‏وسعاد لا تذهب إلى كائناتها ولا تبحث عنها، بل تأتي الكائنات إليها، يلتفون حولها بشكل ‏دائري، يغنون لها، يطيرون ويحطون في البر والبحر وعلى الصبار، يرقصون مع الشمس ‏والقمر، ويداعبون عناقيد العنب والرمان وكوز الصبر، أجنحة خطوطها من ذهب مخضبة ‏بالحناء، وملونة بألوان الطاووس، ترفرف في براءة كالملائكة، وجاءت عيون طيورها وأسماكها ‏كعيون النساء الغزلانية، وشعور نسائها تتطاير في الريح ، وقمرها رفيق الأحبة يحكي ‏لعناصرها حكايات تلك البيوت الجميلة، وأنفاس الناس الذين غادروها عنوة، لكنهم لم يفقدوا ‏الأمل فبقي المفتاح معهم، وطرزوا بالإبرة والخيط لوحات فنية حملت نكهة الماضي وعبق ‏التاريخ لا سيما أن التطريز يعبر عن الهوية والجذور، وهو في نظري طراز أُدرجه في إطار ‏الفنون التشكيلية، إذ تضمنت تجربتها شالات فيها لمسة جمالية إلى جانب وظيفتها المادية ‏والاجتماعية، وقد تميزت الشالات بأصالة الصّنعة، وجمال التّصميم، ودقة التنفيذ، حيث ‏تتقاطع الخطوط وتلتقي، لتشكّل معاني ذات مدلولات تاريخية أصيلة.‏

‏ هذه التطريزات تثير في المتلقي تأثيرات جمالية كما تثير اللوحة التشكيلية ذات الألوان ‏والأبعاد؟! يقينــًا أنّ اللوحة التشكيلية قد تكون أسرع في التأثير غير أنّ معايشة الإنسان لأثر ‏الإبرة والخيوط الجميلة التي رسمت طائر الفينيق وعرق الرمان والورود والزيتون والزخارف ‏النباتية والهندسية المختلفة ستنمي لديه الإحساس بالجمال، وترقى بفكره وعواطفه وخياله ‏درجات سامية، يحسها الإنسان كلما تعمق بالوحدات التطريزية الزخرفية. التي تحكي علاقة ‏الحب الكبير، حب الناس، وحب الأرض بأشجارها وأنهارها، وجبالها وسهولها، وطيورها ‏وحيواناتها، وغورها وشعابها، وبحيراتها وبحارها.‏

‏ في هذه التقنيات تمزج ” عيساوي ” بين الدقة والإتقان وبين التلقائية في الرسم، ممتلئة بالجرأة ‏والجسارة وذلك من الواقع حيث تبحث الفنانة دائماً عن الذات وعن الجذور في ثوب إبداعي ‏محمل بالطاقة الروحية حتى الذوبان الصوفي حيث تجليات الاندفاع نحو ينابيع التفجر ‏النوراني والانصهار بين النفس ومدركاتها.. وإذا دققنا في هذه التجربة، سنجد أن ” عيساوي ” قد ‏جمعت فيها بين الألق الروحي والنوراني الواصل بين الأرض والسماء، حيث تتجلى عندها ‏رهافة الحس وتدفق الشعور، ويؤكد ذلك تداخل الخطوط والألوان في تناغم جميل حيث يذوب ‏كل منهما في الآخر. ‏

‏ لقد اهتمت ” عيساوي ” بالألوان التي عكست طبيعتها النقية وروحها الشفافة، وبدت ألوانها ‏سواء على الأقمشة أو الكرتون، زاهية قوية، أنيقة ورشيقة، لها تأثيرها النفسي على المتلقي، ‏كما لعب اللون دورا رمزيا هاما ساعد ” عيساوي ” في التعبير عن موضوعاتها وعلى صياغة ‏أفكارها وأحاسيسها ونجحت في توظيفها، واستطاعت من خلالها أن تعبر عن الحالة التي تريد ‏أن تنقلها للمتلقي، وكذلك إبراز البعد الجمالي الذي أرادت تجسيده، وبرهنت على أنها سيدة ‏اللمسة الأنثوية بلا منازع.‏

‏ ” سعاد عيساوي ” التي تحدثت من خلال أعمالها الفنية بتقنياتها المختلفة عن سر ‏الخصوبة، ولذة العطاء ووعد الحب! تؤدي رسالتها وتحوّلُ المستحيل إلى واقع، تؤلف بين ‏كائناتها بعد أن تحررها من الخوف، لتمارس فعل الخير والحب، وتطلق الطفل المحبوس ‏داخلها، ليفرح ويغني، دون أن ينسى أنه ابن الأرض وأن عليه أعمارها، ونشر الحب والسلام ‏فيها.‏

(عن مجلة الحياة التشكيلية)

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *