حكاية الزَّوجة الطائرة في “ألف ليلة وليلة” و”سيرة فارس اليمن”

(ثقافات)

حكاية الزَّوجة الطائرة في “ألف ليلة وليلة” و”سيرة فارس اليمن”

من “منار السَّنا” إلى “منية النُّفوس”

سعيد الغانمي

تتكوَّن حكاية “حسن الصائغ البصريِّ” من حكايتين تمَّ إدماجُهما في حكايةٍ واحدةٍ؛ الحكاية الأولى هي حكاية الصَّبيِّ حسن واختطافِهِ على يد الأعجميِّ المجوسيِّ، ونستطيع تسمية هذه الحكاية بـ”حكاية اختطاف صبيٍّ”، والحكاية الثانية هي اختطاف حسن لزوجتِهِ الطائرة، ثمَّ السَّفر بها، وحصولها على ثوبها الرِّيش وهربها منه، ثمَّ البحث عنها في بلاد نائية، والظَّفر بها من جديدٍ، ونستطيع أن نسمِّيَ هذه الحكاية الثانية بـ”حكاية الزَّوجة الطائرة”. والآن، هل توجد حكاية “حسن الصائغ البصريِّ” في نصٍّ سرديٍّ آخرَ سوى “ألف ليلة وليلة”؟

نجد النَّظير المطابق تماماً لحكاية “الزَّوجة الطائرة” في أواخر الجزء الأوَّل وأوائل الجزء الثاني من “سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن”، ولكنْ بعد إحداث بعض التَّغييرات الضَّروريَّة، مثل الأسماء، والإضافات، وتقديم بعض الأفعال السَّرديَّة وتأخير أُخرى، بما يتناسب مع سياق هذه السِّيرة الشَّعبيَّة. وكما تغيَّرَ اسم البطل من “حسن البصريِّ” إلى “الملك سيف بن ذي يزن”، فقد تغيَّرَ اسم الزَّوجة الطائرة من “منار السَّنا” إلى “منية النُّفوس”. ولمّا كانت سيرة سيف بن ذي يزن قد أجَّلتِ الوصولَ إلى جزيرة واق الواق حتّى المجلَّد الرابع مع انتهاء السِّيرة تماماً، فقد كان من غير المعقول أن تكون محلَّ سُكنى الأميرة الطائرة، بل لا بدَّ من اختيارِ مكانٍ آخرَ لسكناها، ورأت هذه السِّيرة أن تُطلقَ عليه اسم جزيرة الألماس، وإن أخلَّت في معرض السَّرد بهذه التَّسمية نتيجة بعض الأخطاء؛ “إنَّ اسمَها منية النُّفوس، لها أبٌ يُقال له قاسم العَبوس، وهو صاحبُ جزيرةِ الألماسِ، وهي جزيرةٌ مُطَلْسَمَةٌ في آخرِ الدُّنيا، وهي بعيدةٌ عنّا مسيرةَ أربعةٍ وثلاثينَ عاماً، وهو ملكٌ جبّارٌ عنيدٌ، وشيطانٌ مُريدٌ، وله عساكرُ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، يكاثرُ بها الرَّملَ والحَصَى، ويحكمُ على أربعينَ تختاً في تلكَ الجزيرةِ، وما حولها من مدنٍ وقلاعٍ وقرىً وأقاليمَ ورساتيقَ”. (1/290).

كان الملك سيف قد بلغَ بستانَ الحُكَماء مع أُختِهِ بالرِّضاعة الجنِّيَّة عاقصة. في البداية أرادَ أن تحملَهُ وتعودَ به إلى بلاده، لكنَّه شمَّ رائحةً أثارَتْ فضوله، فحدَّثَتْهُ أختُهُ عاقصة أنَّ “هذه رائحةُ الوادي المعلَمِ، وبستانِ النُّزهة المُطَلْسَم، لا يقدر أن يجوزَهُ أحدٌ من الأنامِ، لأنَّ الحكماءَ صنعوه لأجلِ بناتِهم، يتنزَّهونَ فيه” (1/285). ومثلما حذَّرت حسناً أخواتُهُ الجنِّيّات من قبلُ، فقد حذَّرت الجنِّيَّة عاقصة أخاها الملك سيفاً من الدُّخول إلى إحدى المناظر، إذا أرادَ أن يتفرَّجَ عليه. وهنا تتكرَّرُ الوحدات السَّرديَّة التي وردت في حكاية “حسن البصريِّ” على نحوٍ مماثلٍ تماماً، حيث تطير المعشوقة في المرَّة الأولى، فيتولَّعُ بها البطل، ويكمنُ لها في المرَّة الثانية، ليسرقَ ثوبها الرِّيش، ويأخذَها معه أسيرةً.

وخلافاً لأُمِّ حسن، التي بَنَتْ لابنِها قبراً وبقيَتْ تنوحُ عليه، ظلَّت أُمُّ سيف بن ذي يزن ألدَّ أعدائِهِ، وتتربَّصُ للانتقامِ منه، على امتداد حياتها حتّى قتلَتْها أُختُهُ عاقصة. لكنَّها مع ذلك لم تكنْ مَن سلَّمَ الثَّوب الرِّيش لزوجته منية النُّفوس، بل إنَّ زوجتَهُ طامة بنت الحكيمة عاقلة دفعَها الفضول إلى رؤية منية النُّفوس وهي تطيرُ في الجوِّ، وكان ذلك في أثناء خروج الملك سيف للاصطياد، فاستحلفَتْها بأن لا تُفارقَهم إذا هي سَلَّمَتْها إيّاه. وفعلاً حامت منية النُّفوس في الجوِّ قليلاً، ثمَّ عادت لإرضاع ولدِها، واحتضنتْهُ، وطارتْ به. ولم تنفعْ معها توسُّلات طامة أو الحكيمة عاقلة. وكما فعلت منار السَّنا في حكاية حسن البصريِّ، فقد أوصت منية النُّفوس بأن يلحق بها زوجُها الملك سيف إلى بلاد أبيها في جزيرة الألماس (1/378).

لقد بَنَتْ أُمُّ حسن، بعد فراق زوجة حسن، ثلاثةَ قبورٍ في بيتها لتزعمَ أمام حسن أنَّ زوجتَهُ وأبناءَهُ ماتوا. وعلى النَّحو نفسه، نحتَتِ الحكيمة عاقلة، أُمُّ طامة زوجة الملك سيف، تمثالاً لمنية النُّفوس، وزعمت أمام الخدم أنَّها ماتت، وبنتْ لها قبراً أودعت فيه التَّمثال. وحين عاد الملك سيف من الصَّيد، تساءلَ عن سبب الحزن المخيِّمِ على البيت، فأخبروه بوفاة زوجتِهِ منية النُّفوس. فبقيَ مكبّاً على قبرها حتّى أشرف على الهلاك، فما كان من الحكيمة عاقلة إلّا أن تصارحَهُ بالحقيقة، وأنَّها لم تمُتْ، إنَّما لبسَتْ ثوبها الرِّيش، وأخذت ابنها وطارت إلى جزيرة الألماس.

حين استفسر الملك سيف من أُخته الجنِّيَّة عاقصة عن المسافة التي تفصلُهم عن جزيرة البنات أخبرتْهُ أنَّها مائة سنة. ثمَّ روتْ له شيئاً من أخبار هذه الجزيرة، بما يشي أنَّ الحكاية تستمدُّ مادَّتَها الأولى من نصٍّ أقدمَ وأكثرَ تفصيلاً لحكايةٍ مشابهةٍ للمادَّة في “ألف ليلة وليلة”، وقد أُجريَتْ عليها بعض التَّعديلات التي تلائم السِّياق. قالت عاقصة: “أهلُ المدينةِ كلُّهم بناتٌ، لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وهم فرسانٌ وشجعانٌ، يركبونَ الخيلَ، ويخوضونَ اللَّيلَ، ولم يكنْ عندَهم ذَكَرٌ إلّا ملكُهم، وهو الملكُ العبوسُ أبو منية النُّفوس، وهو الحاكمُ عليهم. فقالَ الملكُ سيف: يا أُختي، ولأيِّ شيءٍ هذه المدينةُ كلُّها بناتٌ، وليسَ فيهم ذكرٌ، وأيش أصلُ ولادتِهم ومقامِهم بغيرِ رجالٍ؟ واللهِ إنَّ هذا عجيبٌ، فأعلميني على هذا السَّبب”. حينئذٍ تشرعُ عاقصة برواية أحداث عن جزيرة واق الواق، وهذا اسمُها في “ألف ليلة وليلة” وليسَ في “سيرة سيف”: “إنَّ هذه الجزيرةَ اسمُها واق الواق، وكانَ بها ملكٌ يُقال له كافور، وكانَ طاعناً في السِّنِّ، وخلَّفَ ولدينِ ذكرينِ، أحدُهما يُقال له قاسم، والثاني عاصم، فبنى مدينتَينِ، وسمَّى واحدةً عاصمَ، والثانيةَ قاسمَ، على اسمَي وَلَدَيه” (1/383).

بعد ذلك تروي عاقصة لسيف الأُسطورة التي تسبَّبت في فصل مجتمع النِّساء عن مجتمع الرِّجال في تاريخ هذه المدينة. وهذا ما يُسنِدُ للملك سيف مهمَّة تصحيح هذا الخطأ الأسطوريِّ في تاريخ المدينة فيما بعدُ، وإعادة مؤسَّسة الزَّواج لها، لتلتحمَ المدينتانِ في مدينةٍ واحدةٍ. وهذه أسطورةٌ تغيبُ غياباً مطلقاً عن “ألف ليلة وليلة”، والسَّبب في ذلك أنَّ حسن البصريَّ لم يُعنَ بالقيام بأيَّة مهمَّة، بمعزلٍ عن استرداد زوجتِهِ المفقودة.

وقبل أن يتحرَّكَ سيف باتِّجاه الجزيرة، كانت لديه آليّات التَّسخير الخاصَّة السابقة، التي استعملَها في حروبه من قبلُ، وقد ذكَّرته عاقصة باصطحاب قلنسوة الإخفاء، والسَّوط المرصود، وسيف سام. وخلافاً للشَّيخين عبد القدُّوس وأبي الرُّويش اللَّذين توسَّل بهما حسن، فقد جاء رسولُ الخضرِ بنفسه نحو الملك سيف معلناً أنَّه سيكون إلى جانبِهِ بوصيَّةٍ من الخضر. وهكذا ضمنَ الملك سيف النَّجاح في مهمَّتِهِ قبل أن يُباشرَها. لكنَّه ضمنَ في الوقت نفسه أنَّ مهمَّتَهُ لن تقتصرَ على استرداد زوجتِهِ، بل ستشمل إعادة تأسيس العلاقات الزَّوجيَّة المختلَّة في هذه الجزر.

ومثلما مرَّ حسن بجزيرة الطُّيور، فقد مرَّ سيفٌ بجزيرةٍ ثمارُها تُنادي: “واق، واق، سُبْحانَ الملكِ الخلّاق”. ويمتلك الملك سيف من الرَّفاهية والاطمئنان ما يُتيح له التَّنزُّه في بعض الجزر، والتَّمتُّع بمناظرها الخلّابة. ولم يكمن الملك سيف تحت دكَّةٍ كما فعل حسن، بل كان قد اصطحبَ معه زيَّ النِّساء بإشارةٍ من رسول الخضر. وكان من تقاليد البنات أن يصطرِعْنَ مع بعضهنَّ، ويتبادلنَ الاشتباكَ بالأجساد. وفي تنكُّره بملابس النِّساء، اشتبكَ الملك سيف مع إحداهنَّ، لكنَّ الشَّهوة غلبتْهُ وفضحتْهُ، فعرفَتِ البنتُ أنَّه رجل. توسَّل إليها كما فعل حسن مع العجوز شواهي، فرحمتْهُ، وظهر أنَّها مرجانة، وزيرة الملكة، وقد وعدتْهُ بالمساعدة. وبالطَّريقة نفسها، استعرضَتْ مرجانة أمام سيف جيش النِّساء بأسره، فلم يجد فيهنَّ زوجتَهُ. ولم يبقَ في الجزيرة كلِّها سوى امرأةٍ واحدةٍ، وهي الملكة نور الهدى. واسمُها بالطَّبع موافقٌ لاسم نظيرتها في “ألف ليلة وليلة”.

لكنَّ الوزيرة مرجانة استأنفت قائلةً إنَّ نور الهدى ليست زوجتَهُ، بل أختُ زوجتِهِ، أمّا منية النُّفوس زوجتُهُ فهي أسيرة “في السِّجنِ والحبوسِ، تُقاسي مرارةَ الضُّرِّ والبُوسِ” (2/30). ونصحتْهُ بالعودة إلى بلده، بدل الموت غريباً في هذه الأرض المعادية. لكنَّ الملك سيف ليس من النَّوع الذي يتراجعُ. وهكذا تساعدُهُ الوزيرة مرجانة، وتخبرُهُ أن يختلط بالبنات، دون أن يدخل السُّورَ معَهنَّ، لأنَّ الرَّصد الغمّاز سوف يزعقُ معلناً عن دخوله، بل يمشي بمحاذاة السُّور، وينتظر حتّى اللَّيل، وحينئذٍ تُلقي إليه بحبلٍ، فيتسلَّقُهُ ويصعد إلى السُّور. وقد نجحت الخطَّة، فوصل سيف إلى سجن المدينة، حيث يجري تعذيب زوجته، متنكِّراً بزيِّ مساعدةٍ للوزيرة. وبعد بعض التَّجارب العارضة، يتمكَّنُ من إنقاذ زوجتِهِ وابنِهِ من السِّجن.

حين وصل الملك سيف إلى سجنِ زوجتِهِ، استطاعَ حلَّ جميع المعضلات. غير أنَّ نصَّ سيرة سيف هنا ينطوي على زياداتٍ لا تتوفَّرُ في “ألف ليلة وليلة”. فالملكة منية النُّفوس كانت الملكة الكبرى على أخواتها جميعاً قبل أن يختطفَها الملك سيف. وحين سمعَتْ أُختها الكبرى نور الهدى بخبر اختفائِها، أسرعَتْ بإرسالِ ثوب ريشٍ ثانٍ كان لها، لكنَّ مَن أرسلَتْهم لم يجدوها. وهكذا صارت نور الهدى ملكةً على الجميع بعدَها. وحين عادت هي وابنها إلى بلادها، كانت الملكة نور الهدى في انتظارِها، وحبستْها على الفور. وهكذا بقيَتْ تُعاني آلام السِّجن منذ عودتها. وهنا تظهر شخصيَّة الوزيرة شواهي أمِّ الدَّواهي باعتبارها كاهنةً عند أختها نور الهدى مع كاهنةٍ أخرى اسمها زعزوعة. والحقيقة أنَّ أحداً لا يستطيع أن يجزمَ ما إذا كانت هذه الزِّيادات مضافةً من راوي سيرة الملك سيف أم هي جزءٌ من الحكاية الأصليَّة التي تشكِّلُ مصدراً للحكايتين معاً. غير أنَّ الأرجح أنَّها كانت موجودةً في أصل الحكاية الأصليَّة التي استثمرَتْها كلتا الحكايتين.

بالطَّبع ما دام الملك سيف بن ذي يزن يمتلك كلَّ آلاتِ التَّسخير السَّرديِّ، ويستعين بنصائح رسول الخضر ووصاياه، فلا بدَّ أنَّه يستطيع تخليصَ زوجتِهِ من السِّجن، والانتصار على أعدائِهِ. غير أنَّ مهمَّته لا تقتصرُ على تخليصِ زوجتِهِ وابنِهِ، مثلما كان الحال في حكاية حسن البصريِّ، بل تتخطَّى ذلك بكثيرٍ، إذ صارت تشمل إصلاح الخللِ الاجتماعيِّ الكبيرِ في فصل النِّساء عن الرِّجال في المدينتين، وإعادة السُّنَّة البشريَّة التي تحقِّقُها مؤسَّسة الزَّواج. فالملك سيف ليس مجرَّد بطل حكاية بسيطة، مثلما هو الحال مع حسن البصريِّ، بل هو بطلٌ تأسيسيٌّ كبيرٌ، يجب أن يُصلحَ العالم، ويؤسِّس حضارةً، ويرمِّمَ أيَّ خللٍ يعترض طريقه، مهما كانت الأخطار التي تُحدِقُ به. وهكذا يتمكَّنُ الملك سيف من تحطيمِ الأرصاد السِّحريَّة الموضوعة في هذه الجزر للفصلِ بين النِّساء والرِّجال لتعطيل مسيرة الحضارة الأرضيَّة. وحينئذٍ فقط، بعد إصلاح العلاقات الاجتماعيَّة في هذه المدن، واستردادِ زوجتِهِ وابنِهِ، يعود الملك سيف بن ذي يزن إلى أرضِهِ ومدينتِهِ شاعراً بالانتصار كبطلٍ مؤسِّسٍ.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *