دراسة نقدية في سيناريو أولاد ح ياة للكاتب أخلد نواس
كتبت الدكتورة ربيحة الرفاعي / الأردن
يطرح دريدا مفهوم لا نهائية المعاني منطلقا من تعريف هيدجر للكينونة بأنها المعرفة والذات العارفة، وأنها تتغير بمرور الزمن، بمعنى أن كل ظهور لحقائق جديدة يؤدي لتغير المعرفة ذات العلاقة، وبهذا يكون المعنى الحقيقي للنص ورسالته أو غاية الكاتب منه أمرا مشرّع الأبواب على خلفية المتلقي الثقافية ورؤيته وفكره يحكمان انطباعه تجاه ما يقول النص، فيقف كلّ عندما استوقفه رافضا أو مؤيدا، وقد استوقفتني في نص “أولاد حياة” للكاتب الأردني أخلد نواس حوارات ومشاهد حملت فلسفة متمرّدة تتوق لعالم متحرر من معاني النفعية وقيم الصراع، محلق في فضاءات الحق والخير والجمال، فهو يناقش قضايا حيّة تعبث بمصير الإنسانية اليوم، في قالب قصّي اختار له السيناريو مفلتا من الإطار الروائي ومحدداته، ربما معفيا نصّه من نصال التشريح البنيوي، وربما طامحا لرؤيته منفذا في عمل درامي على الشاشات، وفي كل الأحوال فقد وضع القارئ بذلك في مواجهة قضايا النص بعيدا عن بنائه ومكوناته، يتأمل المشاهد ويصغي للحوارات ويحلل دوالها سخية المعاني، في معالجة درامية موفقة أخضعت مكونات النص لخدمة غايات الكاتب الإنسانية السامية، وصنعت في فلكها حكاية حلوة الفكرة عذبة الطرح.
في المشهد الأول من السيناريو حيث مجموعة من علية القوم يحتفلون في محيط نابض بالثراء يعلنون تطلعهم لفناء الناس في مناطق الفقر؛ يطلق الكاتب إضاءة ابتدائية قوية على السر الشائع، الذي ازداد شيوعا خلال أزمة كورونا، وانكشاف تصريحات لشخصيات وأسماء مرموقة تعرّي رغبة الأقوياء وأساطين المال في العالم بفناء شريحة واسعة من فقرائه لتضييق القاعدة البشرية المستهلكة في القاع بما يساعد في ضبط قنوات زيادة ثرائهم، وإضاءة كهذه تشكل بلا شك عنصر شدّ للمتلقي بما تستفز فيه من تحيّز ضد شخوص الحوار ورغبة بمعرفة ما سيؤول إليه أمرهم، سيما ورسالية النص بأحداثه وقضاياه تفرض جدّيّة موضوعية تحتاج لداعم يشد المتلقي إليها، في ظل عزوف الأغلبية الساحقة من الناس اليوم عن كل ما هو جاد وهادف.
وقد يبدو الانزياح الكوميدي المفرط في مشهد النائب في المطار مرفوضا لدى كثيرين بما يحمل من مبالغة وصلت حدّ انكشاف المخدرات وصمت رجال الأمن عنها، لكنه في الوقت ذاته يحاكي خذلان آخرين بالأنظمة الحاكمة في بلادهم، ومظاهر تفشي الفساد والمحسوبية وازدواجية المعايير، ويغازل بالتالي غضبهم فيستقطبهم إلى حيث العمل الذي ينتظرون منه مزيدا من ذلك الكشف تتوالى تفاصيله عبر المشاهد بتصاعد في مستويات ومواقع الشخوص، فلا تستهجن ذلك الحوار بين آدم والديليفري في المقهى بالحسين، ينساب بمنطقية ليسير بالمتلقي من سوق المخدرات والرذيلة وإغراءاتها وصولا إلى سعر الدولار وحقيقة عدم وجود احتياطي ذهب لدى أمريكا يغطي ما تطبع من دولارات تحكم أسعار صرف العملات عالميا بسلطة سلطان القطب الأحادي المتحكم بالعالم اليوم، وصورة الهرم على الدولار تستدعي في ذهن القارئ غيرها من الرموز المرسومة عليه بدلالاتها المنسحبة على قيادة الدولة المتحكمة في العالم. ولا يباغتك الوزير حين يخاطب آدم الدكتور المتقدّم بمشروعه العظيم لإنشاء مركز لأبحاث الفضاء فيقول: ” الحياة عندنا بمن تعرف وليست بما تعرف”، ولعل براعة الكاتب في بناء الشخصيات لتحمل في ملامحها جملة المعطيات الكفيلة بتوصيل غايته من رسم كل منها، جعل حواراتها أقرب للمتوقعة في وعي المتلقي.
ويوسّع الكاتب من دائرة تسديد سهام نصه لينتقل للصراعات الدينية باللقاء في مدخل عمارة شبرا المشبوهة؛ بين القس والشيخ -بما يرمز إليه كلّ منهما- في مشهد قوي ومباشر في تسديده، ليكون مؤشرا على الانحرافات الخفيّة لفئة تمسك بمقاليد عقول الناس وتوجه انفعالاتهم واهتماماتهم، وتصنع خلافاتهم وصراعاتهم، وبتطرق حوارهما لزواج بين عاشقين تصادف ولادتهما لعائلتين لا تتبعان الدين نفسه، يكشف تآمرية موقف كلا الرجلين -ومن يمثلان- في الشأن الهام، وتعصب وإقصائية كليهما في الشأن العام، لهذا جاء رد البواب الكفيف عبد البصير شافيا للغليل إذ يقول : طب إيه رأيكو تتقابلوا في القرافة” في إشارة للموت الذي يجرّه على الناس صراعهما، وهو أمر لا يقف النص عنده بل يتخطاه ليتحدث في مشاهد لاحقة عن ازدواجية الناس في معيار الحلال والحرام، وتلاعبهم فيه بما يخدم رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، يعرضه من خلال الحديث عن تباين أعداد زوار أو مراجعي المساجنجية نونا بين ما هي في الأيام العادية وما هي في المناسبات الدينية، وعن الزيف والغش وانتحال الشخصيات والشهادات العلمية والوثائق المزورة، وعن صناعة المخدرات والمقويات والاتجار بها تبدأ عند المكيفاتي أو الديليفري لتعرض بصورة سلسة بشاعة ما آل إليه الواقع، حيث باتت الحياة سوقا للصفقات المشبوهة والاحتيال والسلع القذرة والرذيلة في انفلات أخلاقي مريع مغطى بغلالة إيمانية وهمية اظهرها موقع اللقاء في وسط البلد بمعالمه الدينية وملامح وملابس رواده من غير السواح، وتمتد للزائر عند نونا يغريها بالمشاركة في إعلان ” أخرم الحائط” ، ولاستخدام الحاج سليمان مزرعة آدم لتعبئة المقويات المغشوشة.
وتتسلل قضايا المرأة عبر المشاهد في تصاعد لافت تستوقف المتلقي فيه جلسة آدم ونونا في المطعم حيث الحوار الزخم الزاخر برسائل قويّة في كل تفاصيله، تخللته عبارات تستحق الوقوف عندها مطولا بطرحها الصريح الواضح
-
الست اللي محبتش تبقى روحها عذراء
-
أنا مش مدام ولا آنسة أنا حرّة
-
المهم اللي بتعمليه بروحك وبعقلك
-
الجسم زي الهدوم والناس مشغولة بيه
-
حد أثق فيه لدرجة إني أروح في النوم على كتفه
-
فلوسي حلال، مباخدش فلوس من حد عايز مني حاجة غصب عني
-
بصلّي بطريقتي، بصلّي بقلبي
-
هي لو مراتي حقول لك اسمها؟ متركبناش الغلط
-
البقرة للأسف جابت دكر