(ثقافات)
المزدحم
يحيى القيسي
” كان يا ما كان ..في قديم الزمان “
لا..لا … هذه لا تصلح مقدمة لقصتي العظيمة. إنّها معروفة، كلاسيكية، مكرَّرة ، ملّها القُراء، وسبقتني إليها شهرزاد في لياليها الألف، وجدّتي العزيزة أيضاً …!!
تُرى ماذا سيحدث لو أنَّني بدأتُ بشيءٍ مُختلفٍ. مثيرٍ….” كان يا زمان …في قديم المكان “
من المؤكد أن ذلك سيثير غضب النَّحويين وأنْصافهم، والمُثقفين وأرباعهم. فليكنْ ..لا يُهم. أعجبهم أم لا…! عليَّ أن أتخلص من تأثيرات الآخرين. القصَّةُ التي سأكتبها يجبُ أن تكون مميَّزةً، فريدةً، تثيرُ ضجَّةً تقومُ لها الدُّنيا ولا تقعد..!
نعم الدنيا. أقصد بالضبط القُرَّاء والمثقفين ورجال السياسة والدين. المهمُّ في الأمر أنَّني سأتحدثُ فيها عن جنّيّ أو عفريت أو مارد أو شيطان…لا يهمني الاسم . المهمّ أنّهُ من هذه الفصيلة. سأجعل الحبكةَ مفكًّكةً. سأفجّر بناءها تماماً.
تسقط الحبكة.. يسقط معطف “غوغول” …!!
أوّلاً سأمهّد للحدث بعناية. أخلقُ لهُ جوَّاً خاصّاً. سأديرُ البطلَ بإصبعٍ خفيّ لا يستطيعُ أعتى النُّقاد اكتشافه. في البداية وبظرفٍ سأصنعه بدقّة سيعثرُ بطلي على قِنّينة. المقصودُ هنا زجاجة لها عُنق، والصحيح أنَّها قُمْقُم، والأصحُّ لكي أوظف الأسطورة في قصَّتي الحدث أنَّها مِصباح. نعم مِصباح سحريّ مثل الذي عَثرَ عليه “علاء الدين”. صحيحٌ أنّي لم أره ولكنّي قرأت عنه مثل بقية خلق الله القارئين.
إذاً سيمسكُ البطل المصباح. يمسحُ عليه برفق. هُنا ستبدأ المفاجأة. لا يُمكن للمصباح أن يخذله. لا بدَّ أن يخرج الجنّي. هذا ما كان يحصل دائماً.
انتظروا …!! ليستْ هنا المُفاجأة الكبرى. لحظة الإدهاش. تفجير النَّص. قتل عاديَّتهِ ..كلا. ذلك أمرٌ سبقني إليه الكثيرون.
في البداية سيندفعُ دخانٌ كثيفٌ من فوَّهة المصباح. اللون غيرُ مهمّ ذكره. فقط دخان ..ستتكوَّنُ حينئذ أمام البطل المُندهش غيمة دخَّان هائلةٍ. يجبُ أن تصوّر القصَّة لحظات اندهاشه. ارتعاشات وجهه. حركات رأسه ويديه. كلّ التفاصيل الدقيقة.
فجأة – رغم أنّني أكره هذه الكلمة – ومن وسط غيمة الدُخان البيضاء سيظهر ماردٌ. نعم ماردٌ أو جنّيٌّ أو عفريت أو شيطان أو … قلت لا يهمّ الاسم. يا إلهي كم يُتعبني الانسياق وراء التفاصيل.
عليَّ أن أوضّح للقرَّاء فقط بأنَّه: هائل القوّة. عضلاته نافرة. أصلع له خصلة شعر يتيمة في مقدمّة رأسه. عيناه ناريَّتان. له قدرةٌ على حمل الجبال الضخمة. هدم مدن بأكملها. الصعود إلى الكواكب. الغوص في الأعماق…، وماذا أيضا ..؟؟
غبيٌّ دون أحاسيس. مطيعٌ لا يُناقش. ولكنّي بذلك سأقمعه. هذا أمرٌ يتنافى مع الأدبِ التقدُّميّ. صحيحٌ أنَّه جنّي ولكن لأدعه يُناقش قليلاً، والأفضل أن لا يُناقش أبدا..!
كلُّ ما عليه أن يقول: شُبّيك لُبيك عبدك بين يديك
من المُفترض هنا توضيح ردّة فِعل البطل. صحيحٌ أنَّه فوجئ بالجنّي، ولكن هل سيشعرُ بالخوفِ ويتراجعُ إلى الخلف؟
أبدا …!! إذا جعلته يخاف فتلك مصيبة. يجب أن أحذر من هذه المسألة. ستتَّهمني الجمعياتُ والتجمُّعاتُ والمُلتقياتُ والنَّقاباتُ والاتحاداتُ والروابطُ والنُّقادُ بأنَّني إنهزامي. إنبطاحي. رجعيٌّ. تخاذليّ. عميل. طابورٌ خامس. لا لا سادس. ليس طابور بل طرطور أو دبُّور.. الله أعلم …!!
المُهمُّ أن لا يتراجع إلى الخلف، ويشعر بالخوف. عليه أن يُواجه العِفريت. كلمةُ “عفريت” هنا أفضل. إنَّهُ مُجرد خادمٍ للبطل. عبد. مسحوق ، كلمة “مسحوق” غير مُناسبة في هذا المقام. يجب شطبها. عبد أفضل ..!!
سأجعلُ البطلَ في قصَّتي العظيمة الرائعة هذه يطلبُ من العِفريت طلباتٍ كثيرة. لن أدعه يستريح أبداً. سأحرثُ عليه. نعم حِراثة. سأصرعهُ. يعني أضعُ في رأسه عفريتاً آخر يسبّب له الصَّرع. الخيالُ هنا سيتّسع وتُصبح القصَّة طويلة. هذا أمرٌ ينبغي تجنّبه. لا أريدها أن تتحوّل إلى رواية. أين عبقريَّتي إذا. التكثيف. الصقل ..تقنيَّاتُ القصّ. أساليب السَّرد ..أين ؟؟
قصَّتي حين تظهرُ على النَّاس ستثيرُ ضجَّةً. ضجَّات. أزمةً. أزمات. وسيتسابق رُؤساء التَّحرير إليَّ لأنشرها في مجلاتهم وصحفهم. سيرجونني بالتأكيد. سيدفعون مُقابلها مبالغ طائلة. ستقام لي ندوات. احتفالات. التلفازُ سيقطعُ برامجه ليبثَّ الحدثَ العظيم. الإذاعات..!
منَ المُتوقَّع أيضاً أن تُقام مسيرات تأييدٍ ومُظاهرات احتجاجٍ. الحِراثة على العِفريت أمرٌ جديدٌ. أعتى مُشكلة في العالم يحلّها بسهولة. سيُحاصرني الصُّحفيّون من كلّ جانب. سيلتقون مع أمّي. يزورونها في البيت. يُصوّرون خرائب قريتي. ستنهال عليها الأسئلة:
-
أين كان هذا العبقريُّ مختبئاً.. أين ..؟؟
-
حدّثينا عن طفولته: كيف كان يشرب. يأكل. ينام. يبول. يغوط ..؟؟
إبنكُ غير طبيعي، فعل أمراً لم يسبقه إليه أديب ولا عالم ..!!
يا إلهي ..الاسترسال أنساني البطلَ القزمَ الواقف أمام المارد العِملاق. تُرى ماذا سأفعل به الآن ..؟ حالة التأزُّم في القِصَّة ابتدأت. إذن عليَّ أن أجعلَ البطلَ يصرخُ في وجه العفريت بلا خوفٍ ولا جزعٍ:
-
أيها العفريت …!!
حينها لا بد أن يرد عليه العفريت العبد:
-
لبيك وسعديك يا مولاي ..!!
نعم هذه جملة قوية. فيها أكبر قدرٍ من الاستسلام والخُنوع. أفضل من : نعم يا سيّدي الإنسي أو ما شابه.
أيها العفريت ..أحضر لي أجمل سيّارة في العالم ..!!
ماذا ..؟؟ سيَّارة.. يا للغباء. أُدمّر أمنيتي الوحيدة من أجل سيّارة ..!! أين الخيال الواسع أين ؟؟ هناك مطلب أكثر أهمية. مليون دينار. كلّا ليكن الأمر هكذا:
-
أيُّها العفريت..أريدُ قصراً عظيماً به نِساء شقراوات، وغلمان مُرْد…!!
لا لا ، عيب ، مثل هذه الطلبات سخيفة . البطل سيصبح حينئذ برجوازيَّاً..برجوازيَّاً مُتعفّناً. هذه نهاية غير مأمونة. ستثورُ ثائرة الفُقراء والمَساكين والمؤلَفة قلوبهم وأبناء السبيل. النَّقابات. الجمعيّات. دورُ الأيتام. مراكزُ الإصلاح. وستكتبُ الصُّحفُ على صدر صفحاتها نقداً لقصَّتي: “أدب رجعيٌّ. مكشوف. الكاتب إباحيّ. شاذٌّ. عضو جماعةٍ سريَّة هدَّامة…”
إذا هناك مسائل أعظم تهمُّ الناس. على البطل أن يستغل العِفريت على أفضل وجه. ليطلب مثلاً:
-
أيها العفريت أحضر لي جبلاً من الذَّهب..!
حسناً.عظيم. جبلٌ من الذَّهب يحلُّ كلَّ المشاكل الاقتصادية. لن تبقى هناك مديونية في البلاد. لعنة البنك الدولي. العالم الثالث..! لكن عليَّ الانتباه من عواقب ذلك. الناس في مدن قصّتي سيصابون بالخمول. كلُّ شيءٍ متوفّرٍ، ولا داعي للعمل. للتفكير. يا للهول هذا الأمر يسبّب كارثة. ستلغى الدوائر والمحاكم والمؤسسات وسينام القُضاة ورجال الأمن في بيوتهم …..!!
القصة ستطول. هذا أمرٌ ينبغي تجنّبه. جبلٌ من الذهب توظيفٌ سيئٌ. غير مقنع. لا بدّ هناك طلبات أفضل وأجلّ قيمة. ماذا لو صرخ البطل:
-
أيها العفريت .. أحضر لي رؤوس كل المنافقين والخونة واللصوص والناهبين ..!!
مستحيل..هذه الفكرة الجهنَّمية ستطيّر لي رأسي أولاً، ثمَّ إنَّ النُّقاد يعرفون بأنَّه سبقني إليها كثيرٌ من الكُتّاب. سيقولون إنَّه يكرّر. يجتر. يتّكأ على أدب الآخرين. يقتبس. يسرق ..!!
الأصح أن أفكّر بعملٍ عظيمٍ يسجّل لي في كتب التَّاريخ، ولكي أسيطر على الحدثِ تماماً في قصَّتي الفريدة على البطل أن يطلب طلباً واحداً. واحداً فقط. العفريتُ مخلوقٌ هكذا لا يلبّي غير طلبٍ واحد. أمنيةً يتيمة. ماذا لو جعلته يحلُّ أعظم مُعضلةٍ في علم الرياضيات أو الطّب بل الفيزياء، ولكن هذه سخافة. لماذا هناك إذن علماء وطلبة ومراكز أبحاث وجامعات…؟
إذا تمَّ هذا الأمر ستستفحل البطالة ويزيد عدد الذين يجولون في الشوارع..!!
كل ما ذكرته تفاهة. عليه أن يُنفّذ أمراً صعباً لم يقدر عليه بشر من قبل. سأجعله يسير بسرعة الضَّوء. حسناً.. الفكرة ممتازة فليقل له البطل إذاً:
-
” أيها العفريت … طلبي الوحيد أن تحملني إلى الفضاء بسرعة الضوء ..”
من المؤكَّد هنا أنَّ العفريت غبيٌّ لا يفهم بالكيلومترات والسَّاعات، وأنَّه ينبغي أن يسير 300 ألف كيلومتر كلَّ ثانية. يا للنسيان. القصَّة ستُبرز عُقدةً جديدة. الأسهل أن يقول له بأن يسير كذا فرسخ في كلّ لمحة بصر. “على كل حال سأتأكَّد من ذلك بعد رجوعي لكتاب – ركوب الجان لابن زعفران – ” …!!
إنَّها حقاً مسالةٌ عظيمة. أقصد السَّفر بسرعة الضوء. يا ليت إينشتين موجوداً. لا يهم. أنصاره كثيرون. سيفرحون لأفكاري طبعاً. ولكن ماذا سيحصل للبطل إن عاد إلى الأرض بعد ساعات قليلة؟هنا تبرز المشكلة العويصة. الدنيا ستتغيّر. سيصبح ابنه الصغير شيخاً طاعناً في السّن. من سيصدق ذلك؟. هذا كلام فارغ. هذه سفسطة. هرطقة. تجديف ..!!
سيُلغي هذا السفر مختبرات. مراكز دراسات. سَيُعطّل عقولاً. دولاً. يُسبّبُ أزمات عنيفة. فليشبع إينشتين موتاً ولتذهب كلّ أفكاري إلى الجحيم..!
يا إلهي أينَ الخيالَ الخصب…؟ أين أنت يا تيَّار الوعي…؟
هل سيظلُّ البطل واقفا ينتظر أمام العفريت؟
القصَّة تأزَّمتْ. الحبكات كثُرت. حُثالةٌ كلُّ ما قلته. عيبٌ نشره أمام الناس. جبلٌ من الذهب..نساء شقراوات..رؤوس المُنافقين والخونة..إينشتين..أين سبب كلّ هذه المصائب أين؟.
البُؤرة. النُّواة الخفيَّة لكلّ ذلك. يا إلهي ما أغباني. إنّها السّياسة. أين كانت ذاهبة أفكاري أين …؟.
نعم قصَّتي ستثيرُ ضجَّة. ضجَّاتٍ. أزمةً. أزماتٍ.
ماذا لو تدخل الجنّي بالسياسة؟ نعم هي بعينها من ساسَ يسوسُ سائسْ سُوس. كلُّ الناس يتدخَّلون بالسياسة هذه الأيام ويشربون السُّوس. هُنا تواردُ خواطرٍ جيّدٍ. عصفٌ دماغيٌ مثيرٌ. سأجعلُ البطلَ يقول بصوتٍ فيه رجاء:
-
أيُّها العفريت الطيب الرائع
هذه بدايةٌ مشجعةٌ قد تقنع العفريت. الأمرُ بحاجةٍ إلى سياسة. مُداهنة. ضحكٌ على اللحى ..!!
-
إذاً من البداية: أيُّها العفريت الطيّب الرائع. مُشكلتنا الوحيدة هي إسرائيل. نعم صديقي العفريت: احتلَت أرضنا .. رمَلتْ نساءنا.. ذبحتْ أطفالنا.. أكلت برتقالنا …!
هذه جملة قويةٌ. جميلةُ السَّبك. عالية الطبقة. أقرب إلى الشعر، ومن المعروف أنَّ لكل شاعر عفريتاً مُوكلاً به، فيقول أحدهم: جاءني شيطان الشِعر، يقصد الجنّي. العفريت، ..، ثمَّ إنَّ كثيراً منهم شعراء، خذْ مثلاً “ديك الجّن الحِمصي” ..، إنّه ديكٌ مثقفٌ يكتبُ أعظم الأشعار فما بالك برجالهم ونساءهم.. أقصد عفاريتهم وعفريتاتهم ، ” جمع عفريتة ” ..؟!
إذن يجب أن أوضّح للقراء بأنَّ بطل قصتي سيقول ما يقول وهو يبكي. ينتحب. ذلك أقرب إلى الواقع ، يثير شفقة العفريت أكثر. سأكمل الآن:
-
أيها العفريت الطيب الرائع ..عليك بأعدائنا لا تبق منهم أحدا …