«حياة متخيلة» للروائي ديفيد معلوف: البحث عن معنى المنفى

«حياة متخيلة» للروائي ديفيد معلوف: البحث عن معنى المنفى

رامي أبو شهاب *

 

تتحدد أحد أهم تحديات الكتابة السردية بالقدرة على توليد الصيغة، أو بمعنى آخر البحث عن النمط الآخر، أو المغاير، وعلى الرغم من أن الإنسان كائن قصصي أو سردي، انطلاقاً من أن الحياة عبارة عن مروية مستمرة، غير أن تفعيل السردية ينتج عن وعي المنظور، بمعنى أن تتخذ الكتابة الاشتراطات الكاملة لتحقيق النموذج الحكائي، الذي يبقى أحد أبرز التحديات التي تواجه الروائيين، فثمة إخفاقات واضحة على هذا المستوى، وبالتحديد ابتكار العالم السردي، وما ينطوي عليه من رؤى، ولعل هذا ما يفسر أن الروايات التي تكمن في الذاكرة تعد محدودة، ومنها رواية ديفيد معلوف «حياة متخيلة» التي تتميز برؤيتها، ونسقها السردي.

أسئلة المنفى

يبقى التاريخ أحد أهم مستودعات الأفكار لتشكيل النموذج السردي، لكن الرؤية والمعالجة تبقى رهينة وعي الروائي، الذي لا يمكن أن يجعل من الرواية أفقاً متخيلاً لواقعة تاريخية تؤطر بتصورات أو دلالات، دون أن تعتمد المنظور الإشكالي، وهكذا يتحول التاريخ من راهنية الجمود والسكون إلى نموذج حيوي قادر على أن يعيد تموضعه في الوعي السردي، كما نقرأ في هذه الرواية التي ترجمها الشاعر الراحل سعدي يوسف.
تنهض الرواية على مركزية حدث نفي الشاعر الروماني «أوفيد» (43 ق.م – 17.م ) لمواقفه السياسية، غير أن الرواية تعتمد نمطاً سردياً متفرداً في خصائصها السردية، فهي تعتمد جمالية السرد المسكون بالذات، التي تتوسط الرؤية، ولا نعني حسب التوصيفات المتصلة بالنماذج البنائية، إنما على مستوى الاتصال بالذات والمكان والزمن، وربما هذا ما يجعل من إيقاع الرواية بطيئاً بعض الشيء فضلاً عن هيمنة لغة شعرية يبررها ما يكمن في الرواية من حكاية تتعلق بشاعر يجد نفسه قائماً بين قوم آخرين على أطراف العالم، الذي تنأى به المسافات، فلا يجد سوى ذاكرتين واحدة تعلق بالماضي، وأخرى طارئة تتشكل في المكان الجديد. يُعاد توصيف المنفى ومساءلته من جديد، فالمنفى لا يعني التغاير المكاني والزماني، كما مواجهة ذوات أخرى حسب، إنما يعني الاغتراب عن الذات تبعاً للماضي والحاضر، وهكذا يبدو المنفى جزءاً من قدر التأمل لإعادة تكوين الذات، وتعريفها على ضوء التجربة الجديدة.
قد يبدو النفي للتخوم أو لأطراف المعمور نوعاً من العقاب، بيد أن ثمة عوامل جديدة تتشكل في التعامل مع المكان المسكون بروح جديدة. إنه عالم بدائي بعيد عن العمران، وقيم الحضارة، وهذا ما يجعله في البداية أمراً مرفوضاً، غير أن الطبيعة تطغى على تكوين مفردات الدلالات السردية، فهي لا تحتكم إلى ما يكمن في المتخيل أو المسبق، إنما هي تبدأ بتقويض تصوراتنا عن ذلك فينخرط أوفيد -في منافيه – بقراءة علاقته الخاصة مع المكان، يتنزل عن لغته، لكن ذاكرته تبقى مسكونة بالماضي الذي يحضر بالتقابل مع حاضره هنا.
ثمة في الرواية مشاهد تنزع إلى وصف هذا الطارئ الجديد، وتلك الاختبارات اليومية للحياة بمعزل عن أي استعدادات، بالتوازي مع محاولة فكفكة رموز الثقافة الجديدة، ومن ذلك استساغة الأشياء برمتها، بما في ذلك الطبيعة، والطعام، واللغة، والسلوكيات، لكن الأهم الثقافة التي تبدو مغايرة عن الوطن، فثمة هنا وعي بالروح التي تتصل مع الطبيعة، وهكذا تبدو قراءة النص قائمة لا في حدود المتخيل؛ بمعنى أننا نقرأ ما كمن في وعي أوفيد بمقدار ما تبدو الرؤى مستجلبة لتوضع في إطار الحاضر أو المعاصر، فتضغط عليه ذاكرته التي تستدعي مواقف والده، ووفاة شقيقه أو عالمه الذي بدا له ماضياً أقرب للخيبة.

معنى المنفى

في تحول واضح في سياق رؤية المنفى يشرع الشاعر في مشروع خاص كي يمنح وجوده في هذا الطارئ معنى آخر، ويتمثل هذا بمهمة تطبيع أو ترويض الطفل المتوحش، الذي تناقلت حكايته مجاميع السكان الأصليين، وما يدار حوله من حكايات أو خرافات، غير أن الشاعر الذي يتمكن من القبض على هذا الطفل البدائي، الذي عاش في الغابة، وبين حيواناتها لا يتقن سوى لغة الطبيعة نتيجة فقدان أي تواصل مع بشري، وهكذا يصبح الطفل جزءاً من يوميات الشاعر الذي يبدأ في تعليمه اللغة، بغية التواصل معه، وهكذا تتحقق القيمة الحقيقية للرواية بين رؤيتين للإنسان، ومدى ما يمكن أن يتحدد من خلاف جدلي حول قيمة الحضارة، ومعنى الأصالة، فالطفل يبدي بعض العلامات على التعلم، لكنه في المقابل يتمكن من تعليم أستاذه فقه الطبيعة، أو لغتها، فهو أكثر وعياً بالطبيعة، بالتعاطف مع نباتاتها، وحيواناتها، إذ ينتج هذا التبادل بين الكائنين عندما نشهد فصلاً دقيقاً حين يمرض الطفل بالحمى، ومن ثم تنتقل العدوى إلى طفل العائلة، التي تستضيف الشاعر، وهذا يأتي محكوماً بخرافة مفادها، أن الوحش الساكن في الطفل قد استحوذ على طفل العائلة الذي يمرض بدوره، ويموت، هذا التفسير ينتج ضمن ثقافة تغاير وعي أوفيد، وهكذا يصبح الشاعر والطفل منبوذين، فيضطران للهروب إلى عمق الغابة بحثاً عن منفى آخر، فيمسي المنفى مركباً، وهناك يدرك الشاعر وجوده الآخر، أو حقيقته، حين يتصل بالطبيعة، ويتعإلى فيها حيث يتوحد معها، وبهذه الطريقة الوحيدة يتخلص من منفاه، واغترابه لا على المستوى الساذج؛ بمعنى مفارقة الوطن، أو شعبه لكن التخفف من اغترابه عن ذاته، وهذا يضعنا أمام تساؤلات تتصل بمفهوم الحضارة وتعريفها، وكيف يمكن أن يعاد إنتاجها، وتبعاً لأي منظور.

من مراكز اللافتات التي تتعلق بالمنفى حضور اللغة بوصفها عنصراً مهيمناً على الوحدات السردية، فاللغة التي يستشعر أوفيد قيمتها الرمزية للذات، فهو بين هؤلاء القوم غريب اللسان، فيخلو إلى الخلاء ليحدث نفسه كي يستعيد صدى لغته، فيقترب من الأرض، تشاركه الذئاب التي تبرز في مشاهد لتحيل إلى الذات في أقصى درجات نأيها عن العالم.

تبدو رواية معلوف جزءاً من مرويات تنحو نحو إدراك القيم العرفانية للوجود البشري، كما هي رواية «سدهارتا» لهرمان هسه، كونها ترتبط بتلك المناخات التي ترغب في تجاوز المفاهيم المادية التي شكلت اغتراب الإنسان الحقيقي حين جعلته شيئياً، أو ذاهلاً عما يحيط به من مدركات الطبيعة، لكن الأهم أنها دمرت كنه الإنسان الحقيقي. وهكذا تتجلى الرؤية السردية التي تعكسها ترجمة موفقة من لدن الشاعر سعدي يوسف، حيث تمكن من الإبقاء على صدى لغة ديفيد معلوف، بداعي أن الرواية غير نمطية في تكوينها السردي، وجملتها الشعرية، كما يهيمن عليها الحوار الداخلي، والبيانات الوصفية للمكان، مع محاولة خلق ذلك الجدل بين الشاعر والمكان الجديد الذي نُفي إليه، وهكذا تبرز اللغة بوصفها إحدى الأدوات التي يمكن أن تفتعل هذا الصدام، حين تسعى لأن تعبر عن موجودات المكان بلغة أخرى أقرب إلى صمت الطبيعة، ورموزها، وإشاراتها، فينشأ البحث عن المسميات، ومحاولة إعادة تعريف كل شيء من جديد.
لا يمكن إلا أن نرى في الطفل امتداداً للشاعر عينه، ضمن إطار ربما يكون متخيلاً، غير أن الطفل يعني التوحد بين ذاتين، إنه النسخة الأخرى من ذات الشاعر الذي بقي مسكوناً بذاكرته في وطنه الأم سالمو، فلا جرم أن تفتتح الرواية بتلك الاستهلالات التي لا يتقنها سوى الروائيين القادرين على تكريس الجملة السردية، في إطار دلالي محسوب بعناية، وهي عادة درج عليها الروائيون العظام، إذ لا يمكن أن نعثر عليها إلا ممن لديه استبصار واضح لمآلات النص السردي، فتبدأ الرواية بتلك الرؤية الواسعة، ومن ثم مراكمة الوحدات السردية كي تخدم تلك المقولة النهائية، أو ما يمكن أن ننعته بمحاولة التثبيت الدلالي. هذه الجمل او العبارات ربما لا تتجاوز سطراً أو سطرين، وفي بعض الأحيان فقرة، ومن ذلك نقرأ: «الطفل هناك ـ أنا في الثالثة أو الرابعة من عمري. الصيف في أواخره. إنه الربيع. أنا في السادسة. أنا في الثامنة. والطفل في السن ذاتها دائماً. أنا والطفل نتكلم بلغة من صنعنا. شقيقي الذي يكبرنا بعام، لا يراه، حتى حين يكون جد قريب بيننا. إنه ولد متوحش».
هذا التداخل بين الشاعر والطفل يتملك الرؤية السردية، فالطفل يعني الذات الحقيقية، أو تلك التي تعيش منفاها من البداية، ذلك المنفى الذي يبدأ من الداخل، ومن ثم ينسحب ليطال المكان والزمان واللغة، لكن الشاعر الذي فقد الطفل حين ظهرت عليه علامات الرجولة، فبقي مهموماً بالرسالة التي كان يحملها الطفل، فكان المنفى إلى نهايات الأرض بوصفه فسحة للتنقيب في الذات، فربما كان الطفل في داخله، وأضاعه، وهكذا تهيأت الظروف لاستعادة بكارة الأشياء حين انقطع الشاعر عن موطنه، وابتعد في الغريب من المكان، فعاد الطفل في هيئة لا نتيقن من حقيقتها، وبناء على ذلك تغرق الرواية في تلك المنطقة الضبابية نتيجة تأويل ما نقرؤه، فتختلط الرؤى واللغات والذوات، بيد أن ما يظلل كل شيء الطبيعة التي تعيد موضعة الحقائق.

اللغة… تواصل آخر

من مراكز اللافتات التي تتعلق بالمنفى حضور اللغة بوصفها عنصراً مهيمناً على الوحدات السردية، فاللغة التي يستشعر أوفيد قيمتها الرمزية للذات، فهو بين هؤلاء القوم غريب اللسان، فيخلو إلى الخلاء ليحدث نفسه كي يستعيد صدى لغته، فيقترب من الأرض، تشاركه الذئاب التي تبرز في مشاهد لتحيل إلى الذات في أقصى درجات نأيها عن العالم. يوجه أوفيد رسالته إلى قارئ لا يعلم في أي قرن سيقرأ نصه، وفي أي لغة سيطالعه، غير أن أوفيد حقيقة أضحى هو ذاته أداة الصلة بالأشياء، كما هي العناكب التي تكمن في الزوايا، ومرة أخرى نستعيد اللغة التي يصفها في المنفى بأنها مغايرة عن لغة الوطن التي تعلق بالتعبير عن التمايز والاختلاف، ووصف دقائق الأمور والشعور، على عكس لغة هؤلاء القوم التي تعبر عن الحياة النيئة، ووحدة الأشياء، بل هي أقرب للخليقة.
تبدو نهايات الأمور معكوسة إذ يقود الطفل الشاعر إلى ذاته، او إلى أعماقه، فتتضح الأشياء كتلاً من الضباب، وهنا يقول: «من هو هذا الطفل الذي يقودني، أعمق، في الأرض، أعمق، في الأرض، أبعد من آخر مخفر أمامي مأهول في العالم المعروف، أبعد من الكلام، في المعاشب المتنهدة التي هي صمت؟ من أين جاء؟ خارج أي حياة؟ خارج أي زمن؟ هل اكتشفته حقا، هناك، في غابات الصنوبر، أم هو الذي اكتشفني، أو أعاد اكتشافي، بسبب غربتي عن عالم البشر، أهو طفل أيامي الأولى تحت زيتونيات «سالمو»؟ أهو الطفل نفسه؟ أثمت واحد فقط؟ وإلى أين يقودني، ما دمت أعرف، أخيراً؟ أنه هو الدليل؟ وهو الذي يدخلني في أسرار عالم لم أفهمه، للحظة، قط».
هذا التوحد بين الطفل والشاعر قد يبدو نهاية منطقية للاستهلال السردي، حيث كان اللقاء فالانفصال، ومن ثم التوحد عبر نموذج الاتحاد مع الطبيعة، بالتوازي مع خلق المشهدية التي تتعاور عليها قيم الحقيقة، وفي كثير من الأحيان قيم المُتخيل.

كاتب أردني فلسطيني

عن القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *