غاستون باشلار : السماء الزرقاء(3/3)

                 (ثقافات)

غاستون باشلار : السماء الزرقاء(3/3)

  ترجمة: سعيد بوخليط 

يعود مع ذلك، أحيانا، تأمل شارد أكثر آنية إلى تصميماته. السماء الزرقاء، خلفية تضفي شرعية على نظرية إنسان صانع للكون وخالق له، يقطِّع المشهد بفظاظة. هكذا، نتيجة لهذا التقطيع الأولي، تنفصل الأرض عن السماء. يَلوح  تلّ أخضر في سماء لازَوَرْدية، أشبه بمظهر جانبي مطلق، مظهر لا نداعبه قط، ولا يمتثل إلى قاعدة الرغبة.

على المستوى الكوني، تمنح خلفية زُرقة السماء شكلا لمجموع التَّلِّ. تنفصل أولا من خلال تماثلها عن مختلف التأملات الشاردة التي تعيش في إطار خيال أرضي.

زُرقة السماء، فضاء لم يعد يحوي شيئا قصد تخيّله. بيد أنه، حينما ينشط الخيال الهوائي، يغدو الموضوع فعالا. يثير لدى الحالم الهوائي إمكانية إعادة تنظيم المظهر الجانبي الأرضي، وكذا اهتمام بمنطقة تتواصل داخلها الأرض والسماء. مِرآة ماء تُتاح من أجل تحويل زُرقة السماء إلى زُرقة جوهرية أكثر. يمكن لحركة زرقاء الانبثاق. مثلا، طائر الرفراف :”الطائر المصنَّف باعتباره الأكثر سرعة…إنه الوميض الأزرق الذي يتبادله الضوء والماء”(1).

هكذا تتحرك أرض خاملة جدا، وتستنشق هواء. بدورها صارت بالنسبة للحالم الهوائي، خلفية وقوى تصبوا  نحوها ، تنتعش بين طيات تماثل الأزرق الهائل.بالتالي، سيجد الخيال ضمن صيغة أكثر حلما و حيوية، مبادئ نظرية الجشطالت التي تشتغل على عالم يتَّسع.

أن تكون سماء زرقاء فضاء لايمنح أيّ مبرر لفعل الخيال، يفسره حصولها على اسم مغاير ضمن شعريات أخرى. مثلا، تسمى سماء شاسعة زرقاء ومشمسة، أثيرا عند هولدرلين. هذا الأثير، لايمثل عنصرا خامسا، بل  مجرد هواء منشِّطٍ وصافٍ، ينشد تحت اسم خبير.

لم يخطئ بهذا الخصوص تصور الآنسة جونيفييف بيانكير (مدخل إلى القصائد، ص 16 ):”الأثير، روح العالم، هواء مقدس، إنه”هواء القمم، النقي  والحر، وكذا المحيط الجوي، حيث تتأتَّى لنا فصول السنة وكذا الساعات، السحب والمطر، الضوء، والصاعقة. زُرقة السماء رمز النقاء والارتفاع و الشفافية، مثل ليل نوفاليس، أسطورة متعددة المعاني”.

   تستشهد جونيفييف بيانكير، بما ورد في رواية ”هيبريون ”للشاعر هولدرلين : ”يثيرنا أخ الفكر بقوة شعلته. إنه الهواء المقدس ! كم جميل التفكير بأنك تصحبني أينما ذهبت، حاضرا في كل مكان، وسرمديا”. هذه الحياة وسط الأثير، بمثابة عودة إلى حماية الأب. الأثير الأب ! يؤكد مجدَّدا الاستشهاد بهولدرلين من خلال توليفة بين السعادة والقوة.

لاأثير دون نوع من المهارات المتعددة، يحدث في خضمها تبادل للضوء والسخونة، وقوة انقباض العضلات وكذا السمو.

شاعر آخر، يتأمل هولدرلين، لحظة انتشاء ديني:” أنغمس  في الله ، مثل ذرة تسبح في سخونة يوم صيفي. ترتفع، تغوص، ثم تتلاشى بين ثنايا المحيط الجوي، وتصبح شفافة مثل الأثير، أيضا تتبدَّى هوائية مثل الهواء نفسه، وساطعة كالضوء”( لامارتين، أسرار، ص 108).

سنجمع من جهة ثانية بسهولة أمثلة أخرى، تؤكد بأن الأثير عند الشعراء ليس عنصرا ”متعاليا”، بل مجرد تآلف بين الهواء والضوء.

يمكننا انطلاقا من قضية السماء الزرقاء، بلوغ موضوعة السراب. فالأخير سمة تأمل شارد لايعكسه قط الواقع سوى من خلال نبوغ الرواة. يوجد ضمن الكتّاب الذين أبرزوا إحدى حكاياته، واحدا من بين ألف لم يختبر أبدا هذه التجربة؟ في حين يتوخى الراوي العثور على قارئ ضمن ألف عاش التجربة ؟ السراب كلمة جميلة جدا ، لكن الصورة كبيرة للغاية، بالتالي هو مجاز أدبي لايتآكل أبدا. يعمل على تفسير المشترك بالنادر، وكذا الأرض بالسماء.

هاهي إذن ظاهرة تنتمي تقريبا كليا إلى الأدب، ظاهرة أدبية وافرة تمتلك فرصا قليلة كي تترسخ إزاء  مشهد فعلي. صور كونية، غائبة تقريبا عن الكون. السراب، مثل حلم بلا طائل لكون يغفو تحت دفء رصاص. وبالنسبة للأدب يتجلى السراب مثل حلم نصادفه ثانية.

ينتمي السراب إلى أدب سماء زرقاء مشمسة. لايمكننا إنكار السمة الهوائية، إذا اشرأبت أعناقنا، مثلا، صوب ”مدينة سفر أوريان”، “حاضرة سراب” تكمن عند قمم ”تائهة وسط السحب”، بمناراتها الحادَّة التي تنشد الفجر مع مؤذِّنين  في ألفة ”مثل القُبَّرات”(2) .

قد يسعفنا السراب كي ندرس تلاحم الواقعي والمتخيَّل. هكذا، يبدو تشكّل ظواهر وهمية ضمن نسيج ظاهراتي أكثر ثباتا، ثم العكس صحيح، بحيث يتأتى للظواهر الأرضية من خلال السراب كي تكشف عن مثاليتها. مجرد صور جوفاء تلك الماضية عبر السماء الزرقاء، غير أنها واقعة تضفي  حقيقة معينة على هذا الفضاء المنطوي أصلا على لون ضمن ماهيته. تفسير ذلك، حديث غوته بخصوص زُرقة السماء، عن ظاهرة أساسية : “يوضح لنا لازورد السماء، القاعدة الجوهرية لرؤية الألوان.عدم البحث عن أيّ شيء خلف الظواهر: تشكل الظواهر نفسها درسا”. ”حينما أستريح في نهاية المطاف عند ظاهرة أصيلة، فبالتأكيد نتيجة إذعان؛ لكن يستمر فرق كبير لو أني استسلمت للحدود الإنسانية، أو تلك المرتبطة بفردانيتي العنيدة”.

يظهر لي  بأن أفكار غوته هاته، التي استشهد بها تحديدا شوبنهاور، تشير إلى السماء الزرقاء باعتبارها الصورة الأقل انتسابا للشخص الذي يتأملها. تختزل الخيال الهوائي. تصمِّم  تساميا مفرطا، وكذا انخراطا في صورة من الصنف البسيط، المطلق، وغير قابلة للتحلُّل.

أمام السماء الزرقاء، ثمة سبب يدعو إلى تبسيط فكر شوبنهاور :”العالم تصوُّري”، وتأويله وفق التالي: العالم تصوُّري الأزرق، الهوائي، البعيد. بالنسبة إلي، تمثل السماء الزرقاء سرابا. مختلف الصيغ التي تقدم ميتافيزيقا الحد الأدنى، يستعيد معها الخيال حياته الأولية ويعثر ثانية على القوى الأصلية التي تحمله وجهة الحلم.

هوامش :

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp186-201.

(1) جيمس فرانسيس : شاعر ريفيّ، ص 215 .

 (2) أندري جيد : سفر أوريان ، الأعمال الكاملة ، ص  295-294

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *