غاستون باشلار : السماء الزرقاء (2/3)

            (ثقافات)

                  

             غاستون باشلار : السماء الزرقاء(2/3)

               ترجمة: سعيد بوخليط     

 

حسب اعتقادي إذا كان الكائن المتأمِّل، قبل أيّ شيء، كائنا حالما، فبوسع مجمل ميتافيزيقا التأمل الشارد الهوائي، استلهام صفحة بول إيلوار. نتيجة ذلك، يجد التأمل الشارد نفسه مندرجا ضمن موقعه الحقيقي :قبل تجليه؛ تموقع العالم المتخيَّل تحديدا قبل العالم المجَسَّدِ. أيضا، أخذ الكون تحديدا مكانه قبل الشيء.تسبق معرفة العالم شعريا، مثلما ينبغي، التفسير العقلاني للأشياء. العالم جميل، قبل كونه حقيقيا.يثير العالم دهشتنا ثم نتحول إلى إثباته.كل أولانية محض حُلُمية.

إذا لم يصبح العالم أولا تجليا لتأملي الشارد، سيتقيَّد حينها وجودي فورا  بتمثَّلات دائما آنية لأحاسيسها ومنقادة خلفها. افتقاد كياني لإجازة الحلم، يعني عدم قدرته على الوعي بتلك التمثَّلات.تلزم الكائن حتى يدرك قدرته على الإظهار، اجتيازه أولا لحالة صار خلالها محض عَرَّاف. أمام مِرآة ذات اتجاه واحد، مثلما تعكسها سماء فارغة، ينبغي له تحقيق رؤية خالصة.

استطعنا بفضل صفحة بول إيلوار، الوقوف على معطيات درس سابق عن مرحلة شوبنهاور، وضع ملامح ديباجة –ضرورية في اعتقادي- بخصوص نظرية الإظهار. أقترح على الفلاسفة، قصد تأويلهم أصل الكائن المتأمِّل، المسار التالي :

أولا، التأمل الشارد، أو الاندهاش. يعدُّ الأخير، تأملا شاردا لحظيا.

ثانيا، الاستغراق في التأمل، قوة إنسانية غريبة  بوسعها بعث تأملاته الشاردة، و يبدأ ثانية أحلامه، ثم يعيد تشكيل حياته المتخيَّلة رغم طوارئ الحياة المادية.يعمل الاستغراق في التأمل على التئام أكثر للذكريات قياسا للأحاسيس. أيضا، إنه تاريخ وليس مجرد مشهد.حينما نعتقد بأننا نتأمل مشهدا مذهلا بثرائه، فقد عملنا أصلا على إغنائه بذكريات متنوعة جدا.

أخيرا، الإبراز،هنا يحدث تدخُّل لوظائف خيال الأشكال، مع تأمل بذاكرة، هذه المرة  مخلصة ومُحدَّدة جدا،لأشكال  معروفة، تداهنها.

مرة أخرى، وفيما يتعلق بمثال خاص،أؤكد على الدور الأساسي للخيال فيما يتعلق بكل منشأ روحي. تطور خيالي طويل يقودنا من التأمل الشارد الأساسي نحو معرفة استطراديَّة بجمال الأشكال. تشرح ميتافيزيقا للمعرفة الأداتية الإنسان،باعتباره حصيلة تأملات مُكيَّفة. وتبقي خارج اختبارها الإنسان المتخيِّل والحالم. يجدر بالصورة استعادة حالتها النفسية الأولية.الصورة من أجل الصورة،هنا تكمن طبيعة الخيال الفعال.وبفضل  فعالية كهاته للصورة، تلامس النفسية الإنسانية سببية المستقبل،في إطار نوع من القصدية المباشرة.

فضلا عن ذلك، إذا أردنا حقا صحبة بول إيلوار الإقرار بأن نحيا بالخيال، ومن أجله، ساعات للتأمل الخالص أمام زرقة سماء عذبة وناعمة هَجَرت كل الأشياء،سندرك بأنَّ خيالا من النمط الهوائي يتيح مجالا تتداول في إطاره قيم الحلم والتمثّل، الحد الأدنى من حقيقتهما.في حين، تحدث باقي المواد تصلُّبا للأشياء.

أيضا، نحس ضمن مجال الهواء الأزرق مقارنة مع كل المجالات الأخرى، بأن العالم شفاف أمام أكثر أنواع التأملات الشاردة انفتاحا.هكذا، يمتلك التأمل الشارد حقا عمقا. تتسع السماء تحت وقع الحلم. يتخلص الأخير من الصورة المسطَّحة.قريبا، وبكيفية مفارقة، لم يعد للحلم الهوائي سوى منحى العمق.بينما تضمحل القيمة الحُلُمية للبعدين الأخريين،اللذين يتسلى معهما التأمل الشارد المدهش وكذا المزخرَفِ.

يكمن العالم فعلا،عند الجهة الأخرى من المِرآة ذات الاتجاه الواحد. أبعد من الهنا تمَّ تخيُّله على نحو صرف، دون جانب معين. بداية لايوجد شيء، ثم يتبدَّى شيء عميق، وأخيرا عمق أزرق.

لايقل اكتساب جانب الذات أهمية عن الشيء، إن توخينا حقا تأملا فلسفيا، ينطلق من التأمل الشارد الهوائي، بدل التمثُّل.

بفضل التأمل الشارد لبول إيلوار، أمام سماء زرقاء في غاية النعومة ،دون ألوان أخرى، سماء صافية، تتاح لنا إمكانية تناول الذات و الشيء معا، خلال الحالة الناشئة، ثم وفق ديناميكيتها المدهشة. أمام سماء لم تعد تكترث بالأشياء. تنبثق ذات متخيِّلة استبعدت بدورها الذكريات. يلتئم البعيد و الراهن. شيء بعيد و ذات راهنة. دليل جديد، بأن وحدة الفكر والمادة ،التي تطرق إليها شوبنهاور باستمرار، ستبدو أكثر حسية عندما نتموقع ضمن نفوذ الخيال بدل التمثُّل، ثم ندرس خلال الآن نفسه المادة المتخيَّلة والذهن المتخيِّل. رؤيا أمام خيط دخان : إنها شرارة انطلاق ميتافيزيقا الخيال،يلج هذا الدخان ذهني عبر التأمل الشارد، يخبرنا فيكتور هيغو بين سطور إحدى صفحاته.

ربما، لازال في حوزة الهواء الأزرق و حالمه، تناظر أكثر مثالية: أقل من رؤيا ودخان، سيتحقق مع ذلك تآلف نصف الرؤيا وكذا نصف اللون الأزرق، عند حدود المتخيَّل.

عموما، يطرح بكيفية ما، التأمل الشارد أمام سماء زرقاء- فقط زرقاء- ظاهراتية دون ظواهر. بمعنى ثان، في خضم ذلك، يصادف الكائن  المتأمِّل أمام الحد الأدنى من الظاهراتية، بحيث لازال في وسعه تغيير لونها، والتخفيف منه بل ومحوه. كيف لايمكننا أن نختبر عبر فناء مطلق (نيرفانا) بصري، الانخراط في قوة دون تصرف، قوة هادئة، سعيدة  فقط نتيجة النظر، رؤية المتجانس، فالمتغيِّر لونه، ثم اللاواقع.

إذا أردنا الاستعاضة عن منهجية الشك- منهجية جدّ افتراضية، لن تفصلنا سوى قليلا عن التمثُّل- بمنهجية المحو، الأكثر فعالية لأنها منحدر التأمل الشارد نفسه، سندرك  بأنَّ التأمل الشارد الهوائي يتيح إمكانية الانحدار صوب الحد الأدنى للكائن المتخيِّل، بمعنى أقل مستويات الحد الأدنى للكائن المفكِّر.

أقصى عزلة حيث انحلال المادة ، واضمحلالها . شكّ يفقد شكله أمام مادة مُرِيبة. هذا ماتقتضيه دروس فلسفة المحو بالنسبة لذات منعزلة، أمام عالم فَقَد لونه.سأحاول مقاربة ذلك ضمن موضوعات عمل ثان.

كي أبقى عند حدود الخيال، وتوخي فعلا افتراض أنني أراهن على تناقض صعب يستعيد مسألة التدليل عن الخاصية الأولية للخيال، من خلال وصف خيال بدون صور،يجد بهجته، وحياته ب”محو الصور”. لكن مجرد طرح إشكالية المتخيَّل تبعا لمصطلحات تنحو منحى اختزاليا جدا، أمام عالم يفتقر تماما للأشكال كما الحال مع سماء زرقاء،يؤكد حسب اعتقادي، الخاصية الواقعية نفسيا،للقضية التي أتوخى استحضارها.

 جل الكائنات العاشقة لتأمل شارد كبير،مُبَسَّط، ومرشد، أمام سماء لاتعكس شيئا ثانيا سوى”عالم الشفافية”، ستفهم خيلاء ”التجليات”. بالنسبة إليها ستكون “الشفافية” الأكثر واقعية ضمن”التجليات”. تضفي عليها درسا حميما للوضوح.إذا كان العالم أيضا إرادة، فالسماء الزرقاء بمثابة إرادة للوضوح.

ترسم ”المِرآة ذات الاتجاه الواحد”، سماء زرقاء توقظ نرجسية نقاء نوعي، وفراغ عاطفي، ثم الإرادة الحرة. يعثر الحالم في سماء زرقاء وشاغرة خطاطة ”مشاعر زرقاء” و ”صفاء حدسي”،ثم سعادة أن يكون شفافا بخصوص مشاعره، أفعاله وأفكاره. تتملَّى النرجسية الهوائية نفسها،على امتداد السماء الزرقاء.

طبعا سياق التجرد عن الطابع المادي وكذا سموه مثلما اشرنا إلى ذلك بواسطة جمل معينة، لن يحيط قط بالتأملات الشاردة الديناميكية التي تتوالد أمام سماء زرقاء. هناك نفوس تشتغل على كل الصور وفق ديناميكية التكثيف، تعيش بزخم مؤثر أساسا صورا أكثر هدوءا ظاهريا.

تطلع بول كلوديل على سبيل المثال، نحو انخراط فوري، مفعم بالحيوية. سيتناول سماء زرقاء من خلال مادتها الأولى. أولى أسئلته، إزاء هذه الكتلة الهائلة المسماة سماء زرقاء،حيث لاشيء يتحرك، سماء مفعمة بلازورد :”ما اللون الأزرق؟”تجيبنا ترنيمة لكلوديل :” الأزرق عتمة صارت مرئية”. لكي نحس بهذه الصورة، أسمح لنفسي بتغيير اسم المفعول، لأن سلطة الخيال، ترفض ذلك. لذلك أقول:”الأزرق عتمة تتطور نحو أن تكون مرئية”. لذلك أمكن كلوديل أن يكتب، التالي : ”يحدد اللازورد توازنا، بين النهار والليل، كما تدل على ذلك، دقة لحظة رؤية الملاح اختفاء كل نجوم  سماء الشرق “. يدرك التأمل الشارد الهوائي كيفية أن يعيش ثانية، هذه اللحظة الدقيقة – وقت رائع للحركية الحميمة- ، ويبدأها من جديد، ثم استعادتها.

التأمل الشارد الهوائي،حتى أكثرها عطالة  قياسا للباقي، وإن حيال سماء زرقاء بدا تشكُّلها قويا جدا، سيعثر ثانية على غَيْريَّة العتمة وكذا الشفاف بأن يعيش إيقاعا، للفتور واليقظة.

السماء الزرقاء فجر دائم. يكفي تأملها بعينين نصف مغمضتين قصد العثور مرة أخرى على لحظة ، تسبق لمعان شظايا الشمس الذهبية، يغدو إبانها الكون الليلي هوائيا.عندما نعيش باستمرار قيمة الفجر تلك، ثم اليقظة، سنفهم حينها حركة سماء ثابتة. مثلما يقول كلوديل :”ليس هناك لون ثابت”. تنطوي السماء الزرقاء على حركة استفاقة.

يهتدي بنا الحلم أمام زرقة السماء، صوب نواة العنصر الأولي.وحدها السماء الزرقاء، مقارنة مع جلّ عناصر الأرض، تمسك فورا بخاصيتها الأولية. لذلك، تجسِّد بالفعل صورة أولية، وفق كل ماتحمله دلالة المفهوم من معنى.تضفي على اللون الأزرق إبانة يتعذر محوها. الزرقة الأولى زرقة أبدية للسماء.إنها بحسب قول كلوديل، متقدمة عن الكلمة :”تشير الزرقة في كل الأحوال، إلى معطى أولي وعام، حديثٍ  وخالص، يكمن قبل الكلمة. يناسب مختلف مايغطي ويغمر… إنه كساء النقاء الخالص” .

أحيانا يتم الحلم بسماء متآلفة، زرقاء أو ذهبية اللون، وقد بدت ضمن هذه الوحدة أنها أذابت مختلف الألوان عند لونها الأحادي.هكذا، يتجلى الأزرق قويا جدا يستوعب الأحمر نفسه. كتب غابريل دانونزيو، ضمن فقرات إحدى صفحات عمله المعنون ب : ”ليدا دون البَجَع” مايلي :”امتزج الذهب الشمسي وكذا لُقاح غابيّ، فشكَّلا نَفْس الغبار مع خفقان الريح.تنطوي كل إبرة من أشجار الصنوبر، على قطرة لازورد”.

كيف يمكننا التعبير بشكل أفضل،قصد التأكيد بأن الشجرة المرتجفة ترْشح بالسماء الزرقاء؟ تتمثل وظيفة الشاعر، في ملامسة تقاسم انطباع كوني، جراء إشارة واحدة من ”قطرة لازورد”.

أحيانا، تأخذ زرقة السماء، نتيجة تضاد، وظيفتها تلك المتعلقة بأن تُصيِّر إلى الأزرق. نصادف تأملا شاردا قويا للتضاد، ضمن مقاطع شعرية شرحها هوغو فون هوفمانستال:

”تبدأ  سنة الروح بمشهد للخريف.تبدو سماؤه كما يلي :

ابتسامة سواحل بعيدة ومضيئة.

أزرق غير متوقع لغيمات شفافة.

قد أضاء مستنقعات و دروبا بألوان عدّة”.

يضيف الشاعر في مناقشته الرائع حول القصيدة :”هذا جميل.يتنفَّس الخريف.الأزرق الجريء غير متوقع من سحب شفافة، لأنه بين السحب تتفتَّح ثمار هذا الأزرق مما يجعلنا نحلم بفصل الصيف؛ حقا لانراها سوى عند ضفاف سحب نقية، ممزَّقة بجشع في كل مكان على امتداد سماء خريفية. كان بوسع غوته أن يعشق هذه السحب النقية.ورائع ذاك الأزرق اللامتوقع. جميل. إنه فصل الخريف  فعلا”(1) .”هنا (حقا) الخريف، بل وأكثر من الخريف”.

فقد أدرك الشاعر كيفية جعلنا نحس بذكرى غير متوقعة للمعان عصر آخر، وكذا صيف توارى. هكذا، تمتلك الصورة الأدبية بعدا أكثر من الصورة المرئية؛ تمتلك الذكرى، ويشعر الخريف الأدبي بكونه قد أنهى صيفا : “ألا تمثل مشاعرنا، ومخططاتها، ثم أقصى حالات كائننا الحميمي  سرية وعمقا، الطريقة الأكثر غرابة قصد احتضان مشهد، موسم سنوي، خاصية للهواء ثم نَفَس؟”. يظهر، بأن مشهد هوغو فون هوفمانستال، ميزته مثالية خاصة. لايعكس فقط حالة روح تبعا لصيغة فريدريك أمييل،إنه حالة روح قديمة.

زُرقة فصل الخريف، بمثابة زُرقة ذكرى. إنه ذكرى زرقاء ستمحوها الحياة . ندرك إذن إمكانية حديث هوغو فون هوفمانستال، عن :”مشاهد روح لانهائية، مثل المكان والزمان، يبعث تجليها داخلنا دلالة جديدة أسمى من كل الدلالات”(ص 171). أيضا، عبارة أوسكار ميلوش (العناصر،1911 ،ص  57) :”تحلم داخل ذاكرتي مشاهد خالصة”.

مشاهد بغير تصميم، تعيش مثل ذكرى، وسط لون ناعم ومتحوِّل.

هوامش : 

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp186-201.

(1) هوغو فون هوفمانستال:  كتابات نثرية،ص 152 .

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *