مَـن سـيلمُّ النـدى في الصباح؟”

مَـن سـيلمُّ النـدى في الصباح؟”

* د. موسى برهومة

هذه أغرب اللقاءات وأكثرها وحشة. ما أقسى أن يزور المرءُ مدينته فيجدها خالية من أجراسها وحرّاسها والساهرين على ليلها. ما أقسى أن آتي إلى عمّان؛ مسقط قلبي، فأراني غريباً، وأرى الهاتف في يدي خالياً من المعنى. تعوّدت ما إن تحطّ بي الرحالُ أن أهاتف ماهر سلامة وجريس سماوي وألتقي بلكان زريقي، وأسائل أخي الدكتور عيسى عن أستاذه؛ شيخ النحاة الدكتور نهاد الموسى، والد الصديقة صفوة وزوجها عوني فاخوري، فألملم جراح العربيّة ببعض من إنجازات اللغة التي بعث فيها نهاد الموسى روحاً لم ترَ مثلَ إشراقاتها منذ قرون.

يرحل هؤلاء، ويتركونني أعانق الحيرة، فمن بعد اليوم يلمّ ورود الحديقة في دارة ماهر: أسامة الرنتيسي، جريس سماوي، نعيم مشعل، عماد الدبك، بسام بدارين، زهير النوباني، عماد الداوود، يونس زهران، ماجد الأمير، محمد فرحان، خليل عطية، حلمي الأسمر، خلدون الداوود، وسواهم من سيدات وسادة لا تضيق بهم الدارة، ولو حدثَ (لم يحدث أبداً)، فإنّ قلب صاحبها لا يضيق.

أعترف أنه بموت ماهر، مات شيء فيَّ. وبدون مبالغة ولا تزيّد، فإنني بعد ماهر لستُ كما قبله. كان ينبغي وأنا أكتب هذه الحروف أن أكون برفقته، هكذا خططنا في آخر مكالمة.

أنا غير الذي كنتُ عليه قبل رحيل هؤلاء الأصدقاء والمعلّمين. صوت الحياة في روحي قد بُحّ. هذا ليس تشاؤماً أو سوداوية، بدلالة أنني عجزت عن الكتابة، وما أزال، عن ماهر الذي ظل طيلة عمرة يهزأ بالموت، ويشيّد عمارة الأمل والحب والعطاء، حتى أتاه الأجل من حيث لا نحتسب.

هل أصف رحيل ماهر بالصاعقة، بالزلزال، بالكارثة؟ هو يأخذ من هذه العناصر دويَّها، لكنه بالنسبة لي موت متجدّد، كأنّ الحدث يقضم من العمر، كل لحظة، قطعةً. سامحني يا ماهر، لست قادراً على أن أتمثّل روحك المتفائلة في هذه اللحظة المعتمة.

“الله يرحمه/ يرحمها” ليست متسقة مع ذكر جريس أو بلكان أو ماهر أو نهاد الموسى. دائماً كانوا يُذكَرون فتحضر معهم القصائد والغواية، والضحكات المشعّة، والروح الوثّابة المستنيرة، والعقل الوقّاد.

تخيّلْ أن تفقد هذه البهجات تباعاً، أن تنطفىء الشموس واحدة تلو الأخرى، أن تقنع لسانك بأنّ ماهر سلامة يتعيّن أن يكون متبوعاً بـ”الله يرحمه”. إنّ هذا شاق ومعذّب لقلبي الضعيف.

أتذكر الآن حسرة الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، فيلمع في خاطري خنجرُ الفقدان وهو يحزّ الوريد:

حينما ترحـلُ الريـحُ

مـن سـيهزُّ الغصـون..؟

حينما يذبلُ الغصـنُ

مـن سـيلمّ النـدى..

في الصباح..؟

  • عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *