الموت في الشاحنات

الموت في الشاحنات

د. رشيد العناني

من الروايات التي لا تُنسى رواية غسان كنفاني الشهيرة “رجال في الشمس”، باكورة أعماله الروائية والمنشورة عام 1963. جسدت الرواية في مزيج قوي من الواقعية والرمز مأساة الشتات الفلسطيني والعجز العربي في أعقاب الهزيمة الأولى عام 1948 والنزوح الكبير الذي تبعها. من ينسى الرجال الثلاثة المختبئين داخل خزان المياه الفارغ المحمول على شاحنة تعبر الصحراء الحارة القاتلة بين البصرة في العراق وبين الكويت؟ رجال ثلاثة يمثلون أجيالا ثلاثة من شعب فلسطين النازح بحثا عن وطن ومعاش فيجدون أنفسهم في مواجهة جشع المهربين والأدلاء عبر الحدود حتى يسلموا أنفسهم إلى فلسطيني آخر، سائق الشاحنة، الذي يعدهم بإيصالهم سالمين إلى داخل الكويت إن قبلوا بالاختباء دقائق معدودات داخل خزان المياه بينما ينهي معاملات الحدود الخاصة بشاحنته. لكن الدقائق المعدودات تطول فوق المتوقع وفوق طاقة البشر على احتمال الحرارة الخانقة داخل الخزان المظلم المصمت الجدران المحكم الإغلاق فيقضون نحبهم بدون أن يروا أرض الخلاص.

هذه القصة بتفاصيلها المؤلمة قفزت إلى دهني بلا مقدمات فور مطالعتي لخبر في صحيفة “الإندبندنت” بتاريخ 17 يوليه 1995. لم يكن للخبر علاقة بفلسطين أو إسرائيل، ولا بالعراق أو الكويت، ولا بالمنطقة العربية على الإطلاق. ولم يكن له علاقة بأدب غسان كنفاني أو غيره من الكتّاب، غير أنه كان خبرا تركني مشدوها من قدرة الحياة على محاكاة الفن، ومن تماثل الخبرة البشرية على اختلاف العصور والأجناس والبيئات. كان الخبر يحمل عنوانا يقول: “18 سريلانكيا يختنقون داخل شاحنة على حدود أوروبا”. كان هذا العنوان وحده وبدون قراءة التفاصيل كافيا لأن يدفع على نحو تلقائي من غياهب الذاكرة المكتظة بآلاف الصور والمواقف المعاشة والمقروءة الصورَ المختزنة من قراءتي السابقة ل”رجال في الشمس”. ثم جاءت التفاصيل لتؤكد صحة الانطباع الأول وما تلاه من تداعٍ للأفكار والصور.

مكان الحدث: نقطة الحدود الهنغارية-النمساوية (قارن نقطة الحدود العراقية-الكويتية في “رجال في الشمس”)

زمن الحدث: يوليه 1995 (الخمسينات في أعقاب تأسيس إسرائيل)

ضحايا الحدث: عمّال من طائفة “التاميل” في سريلانكا بجنوب شرق آسيا هاربين من الحرب الأهلية وشظف العيش في بلادهم سعيا وراء حلم الأمان ورفاهة العيش في أوروبا (الفلسطينيون المطرودون من أرضهم، الهاربون من فقر المخيمات سعيا وراء حلم الثراء والكرامة في بلاد النفط)

أشرار الحدث: الانتهازيون صيادو البشر من القائمين على شبكات تهريب العمالة لقاء أجور استنزافية باهظة، ثم لا يترددون عن الاختفاء لدى أول خطر، تاركين ضحاياهم السُذَّج لمواجهة مصيرهم بمفردهم. (الأدِلَّاء الذين يقودون الفلسطينيين عبر الصحراء العراقية-الكويتية بعد تقاضي كل مدخراتهم ثم يتركونهم لرحلة قلَّ من أكملها أو عاد منها حيّا)

وسيلة العبور إلى الحلم ومقبرته في آنٍ: شاحنة ذات جرار يُحكّم إغلاقه على ثمانية عشر رجلا من سري لانكا. سائق الشاحنة يهجرها قرب نقطة الحدود ويختفي تاركا الجرار موصد الأبواب، فتنفق حمولته البشرية كالأنعام (شاحنة تحمل خزان مياه فارغ في داخله ثلاثة فلسطينيين يصطلون جهنم الصحراء في الصيف. سائق الشاحنة يتركهم دقائق حتى يختم أوراق المرور من الحدود، فيعطله موظفو النقطة بنكاتهم وهزرهم الفارغ، حتى إذا ما عاد إلى الشاحنة يكون الرجال الثلاثة قد فارقتهم الحياة)

في الرواية بعد أن يتخلص أبو الخيزران، سائق الشاحنة، من الجثث الثلاث بإلقائها فوق ركام من الزبالة على جانب الطريق الصحراوي يقفز إلى ذهنه خاطر: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟” وهو سؤال ذو أصداء رمزية تختتم به الرواية، ولعل فحواه الدعوة إلى التمرد ورفض الاستسلام إلى القدر المفروض. لا أحد يعلم إن كان السريلانكيون الثمانية عشر دقوا جدران الجرار. لم يأت الخبر في الصحيفة على ذكر شيء من ذلك.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *