كأنه يمشي على هواء وثير

* علي جعفر العلاق

عرفت حسب الشيخ جعفر، للمرة الأولى، على صفحات مجلة الآداب، وكان ذلك في بداية الستينات، أو في منتصفها كما أظنّ. ولا يزال اسمه يلحّ على ذاكرتي كثيراً كما كان يلحّ عليها آنذاك، في ذلك الزمن الذي لا يزال يلازمني كغبش القرى البعيدة، طرياً، ومسيّجاً بالضباب.

كان حسب الشيخ جعفر، وبعبارة قابلة للتعديل ربّما، بعيداً عن شعراء الستينات وقريباً منهم في آن. ولست أعني بالبعد أو القرب إيحاءه الجغرافي، فهذه المسافة كانت بادية للعيان إلى حد كبير على أيّ حال، ولم تكن، كما أظن، تشكل الفارق الوحيد أو الحاسم بين تجربته المتفردة وتجربة جيل الستينات؛ فهي تظل معطىً يسيراً، يقبع في الهامش من عالمه الشعـري ولا يمسّ من جوهره شيئاً ذا بال.

كثيراً ما كان يبدو لي حسب الشيخ جعفر وكأنه يهرب من خطر داهم، فضولي يفرض نفسه على جلسته، حديث مكرور يفتت كثافة روحه، ظرف قاهر يفصم حـواره الخفيّ مع ذاتـه، أو يفسد عليه كمائنه الصافية، وهو ينصبها في انتظار قصيـدة مـا.

-2-

تصلح تجـــربة حسب الشيخ جعفر نموذجاً لضحايا مزاجنا النقــدي، القابل لأداء وظيفته مقلوبة أحياناً؛ فهــذا الشاعــر الممتلئ بذاتـه المرضوضة، والمنقطع إلى تجربته انقطاع المتألّمين الكبار، كان يحظى في مرحلته الأولى بعناية نقـدية معقولة، غيـر أنّ الأمر لم يعد كذلك؛ وكأنّ النقـاد لملموا شباكهـم فجأةً، وانصرفـوا عنــه تدريجيّاً واحداً تلو الآخـر..

لذلك كله، كان ابتهاجي كبيراً حينما أصدر الناقد المغربي عيسى بوحمالـه عام 2009 كتابـه النقـدي “أيتـــام ســومـر” عن تجـربة حسب الشيخ جعفر، وهــو كتاب في مجلدين مما يعني، كما يفترض، أنه محصلة دراســة شاملة للمنجــز النصي لهذا الشاعر الكبير حقاً.

غير أن فرحي كان مشوباً بالحزن الذي هو أقــرب إلى الإشفاق على ضميرنا الثقــافي والنقدي الذي يقوم في أحيان كثيرة على الشللية والانحيازات الصغيرة. هل يُعقل أن شاعـراّ مــن طراز حسب الشيخ جعفر لا يحظى من النقاد بما حظِيَ ويحظى به شعــراء آخــرون قد تنقطع أنفــاسهم وهم يتطلعـون إلى عالمه الشعري الجديد دائماً؟

كان يمكن أن نجد تفسيراً لذلك التجاهل النقدي لو أن الأمر يتعلق بأعمالـه المتأخــرة التي قد لا يرقى البعض منها، على الأقل، إلى ما في أعمالــه السابقة مـن صفــاء ثاقــب، ورؤى متأججة؛ غير أنّ الأمر ليس كذلك كما يبــدو، وإلا لمــاذا صــار حسب الشيــخ جعفــر كلــه، خارج  التـــداول الـنقـــدي تقريباً منــذ سنـوات؟

            • هل لهــذه الحالــة صلة ما بالبوصلة النقــديّة التي تتوجــه، في كل حقبــة، وجهـــة فنيّة أو تقنيّة  محــددة، كالتركيز على نمط شعــريّ دون ســــواه، قصيـــدة النثر مثلاّ؟

            • أم أن الأمـر يتعلــق بمـؤشرات أيديولـوجية، تدفع بعــض النقـاد إلى تشمم قصائــد حسب الشيخ جعفر الأولى، لا بحثا عن جماليتها العـــاليـة، بل عمــا يـوقـظ فيهم شهواتهم العقائدية المخبوءة؟

            • وأخيراً، هل الأمر كله، أو بعض منه، يتصل بمــؤهلات شخصيّـة، أو مـــــواهب تقع خارج النصوص أحياناً؟ إن هناك شعراء كثيرين لا يولون الجاذبيّة الاجتماعيّة، أو تسويــق الذات عناية كافية، ناسـين أن هذه المواهب قد تعود على أصحابها بمردود نقـديّ وفير. وعلى العكس من ذلك أحياناً، فقـد تـدفع تجاربهم الشعريّة ثمناً باهظاً، في حالـة الافتقـار إلــى هـــذه  الملكــات غـير النصًيًة.

صادف أن سافـرنا سويةَ، حسب وأنـا، للمشاركة في ملتقى صنعـــاء للشعــر العـربي في 1989، أحسست بعد وصولنا إلى الفندق مباشرة، أو بعـد أن بدأت جلسات الملتقى تحديداً، وفـي زحمــة الضيوف، أنّ هـذا الشاعـر الكبير يشتمل على قــدر مــن البـــراءة المحـــزنة، بـراءة لم يـرهـا إلاّ القــليل مـــن المشاركـــين، لكنهـا، قطعـاً، بقيـة مـن خصال تكـاد تنقـرض الآن، ولا يتمتع بهــا إلا القـلّة مــن المبدعين.

إن هذا الشاعر، وكأيّ  مبدع حقيقي، لا يكون في منتهى نصاعتــه إلاّ حـــين يكون، وجهــــاً لوجه، مع ذاته، أعني حين يعيش بعذوبة ومرارة على مقربة من أعماقه القصية؛ حيث الذات ملبدة بالألم والذكرى، وحيث القصيدة موشكة على الهطول. كنت ألحظه، في أكثر الأماكن اكتظاظاً، وكأنه منخـــرط في حوار حميم مع داخله. لا يشكل كلامه إلاّ جزراً متباعــــدة حيناً وعلى شيء مـن الارتباك حينــاً آخــــر.

لا يبدو، هذا الكائن الشعري بامتياز، على رسله تمــــاماً حين يكـون خـارج الشعـر، وفيما عدا ذلك فهـو مسكون دائماّ بذعــر داخليّ أو كآبــة تنقشـع بـــين الحين والآخـر عن ابتسامة واهنـــــة محفـوفة ببكاء وشيك.

لا تـراه، في معظم الأحيان، إلاّ مسرعا في مشيته، شاردا، منحني الرأس تقريباً، خفيف الخطوات، وكأنه يمشــي على هواء وثـيـر. إنّ تماهيه مـع ذاته لا يقتصر على لحظــــة زمنيّة أو مكانيّة واحـدة؛ فهذه الذات هي نـديمه الدائم في أيّ وضع كـــان، وحيــــدا أو في جلسة حاشــدة. ورغم موهبته المـرمـوقة وثقافته الشعـرية،  فمن النادر ربما أن ترى حسب الشيخ جعفر في نقــاش صاخب، أو جلسة مكتظة، أو حديث ينتعش فيه العبث أو المداهنات. وحين يكــون حاضراً، لظرف ما، ضمن جلسة كهذه فأنت تحس به وكأنه ينــوء تحت عبء نفسيّ لا يقوى قلبه الناحل على تحملـــه. وفي هــــذه الحالات يكتــفي حسب، غالبا، بمـراقبة المتحـــدثين، أو متابعتـهم بابتسامــة  مخنوقـــة وعيـنين ممتلئـتين بالعـذاب.

ومن الطبيعي إذن ألاّ يكون حسب الشيخ جعفر ضيفا على مهرجان شعريّ أو ملتقى أدبيّ؛ فإنّ الكثير من هـــذه الملتقيات صارت حكــراًّ على وجـــوه بعينهـــا، وكأنّها  تتمتع بعضويّة شرفية دائمة، تضمن لها حضوراً متواصلاّ، حتى بــدت تلك الوجـوه وكأنّهـــا بعــض من ملصقات تلك المهـــرجانات أو شعاراتها.

إنّ الشعراء الحقيقيين، كحسب الشيخ جعفر، يجــدون أنفسهم خارج هـــذه الأجــواء تماماّ؛ فـوجـودهـــم الشعريّ، الأعــزل إلاّ من نقائه الباهـر، يفضح مــا في هـــــذه الملتقيات من كـــذب على الذات، ويكدر ما فيها من مباهج زائفة.

-3-

انصرف حسب الشيخ جعفر إلى تجربته بقسوة وحرص كبيرين، كان يربّي قصيدته، وينمّي نسيجها، ويرقب مساراتهـا بحذر فـذ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يلتـمّ على ذاته، التمام المقرور أمام ناره الصغيرة وهي تهمس في موقده الوحيـد. كان يسعى، على الدوام، إلى مبتغاه الحميم، أعني إلى داخله الخاص جداً.

كان ينمو دائماً على مبعدة من الستينات، غائماً ووحيداً، دون أن ينخرط في ضجيج هذا الجيل، الذي كان يحفـل بكل شيء، بالمبدعين والأدعياء، بالحالمين والمشاكسين. كان أشبه ما يكون بشجرة تنمو، وتشرئب مهيبة، ومثقلة بالعطايا. وكم كان دالاً عنوان مجموعته الأولى ”نخـلـة اللـه”، حتى ليبدو وكأنه عنوان لحسب الشيخ جعفر نفسه، الذي كان يتنامى ويضيء في عـرائـه الخاص، وحيداً كنخلة الله تماماً، لا يأخذه الضجيج بعيداً عن ذاته، ولا يفقده البريق الستيني نكهته المميزة.

لقد ألهب قطار الستينات مخيلة الكثيرين، فاختار البعض مقدمته التي كانت تخترق الريح كالحربة، وكان آخرون يتعلقون بنوافذه كالغربان، بينما لم يستطع البعض الثالث حتى اللحاق بعرباته الأخيرة.

ولم يكن حسب الشيخ جعفر، معنياً بأيّ من ذلك كله. كان مهموماً بناره الشعرية، يسيّجهـا بالسهر والحيطة، ويوفر لها من الوعي ولوعـة الذات ما يجعلها خاصة وثاقبة.

وفي ذلك الفضاء المزدحم الذي يغري بالتشابه، ونسيان الفرادة، وحين كان الكثيرون من جيل الستينات يدخلون عالم الشعر وليس لهم من شفيع إليه، في الغالب، إلا الذكاء، وخفة اليد، وركوب الموجة، كان حسب الشيخ جعفر يقبل على ذلك العالم صاعداً من حاضنة شعرية باهرة، عدة بالغة الرصانة وموهبة صقلتهـا الثقافة، وأرهفتها روح متبتّلـة.

كان يبدو وكأنـه كلاسيكي الستينات، بكل ما في هذا الوصف من جمال، وأسـىً، تشبعت روحه بالتراث العربي والإنساني، القديم والحديث معاً، وجمع بين مخيلة فردية نشطة، ونفس قابلة للاشتعال. إن ما في لغته من يناعة وانثيال صافيين، وما في صوره من إدهاش حميم، لا يتأتى إلا لشاعر استوعب التراث الحيّ، واستدرجه إلى نداءات الداخل المتشابكة دائماً والمتعارضة احياناً، أعني متطلباته الفنية والروحية والانفعالية. ولا أظنّ أنّ شاعراً من نمط آخـر يمكنه أن يحقق هذه الشعرية العالية ما لم يكن  يصدر عن أصالة فردية وتجربة حافلة بالظلال، والتمـّوجات، واللوعـة الحقـة.

ولا يتمثل هـذا النزوع الكلاسيكي لدى حسب الشيخ جعفر في قشرة شكلية، ضاغطة تسدّ الطريق أمام اجتهادات الأداء وتمنع انطلاقها، بحيوية فائقة. بل تتمثل، كما أشرت، بأقصى حدّ ممكن من العافية والاكتمال.

-4-

وحسب الشيخ جعفر دائم التلفّت إلى التراث وبطريقـة شديدة الخفاء في الغالب، فهذا التراث يفصح عن ذاته في عمارة شعرية ووجدانية شديدة التلاحم؛ وهو ليس ملصقات طافية على سطح الموج، بل هـو روح الموجة واحتدامها الداخلي، اللذان يمدانها بالنماء والتداخل دائماً.

حين نقـرأ المقطع التالي، على سبيل المثالً، فإن مـا قلتـه قبل قليـل، قـد يصبـح أكثر وضوحـاً:

أودي ارجعي إلينا

مرّي ولو هنيهةً علينا

سحابةً

أو غُصُناً من بانْ

يطفئ هذا الجسد السهرانْ

وافـَرَحي،

وافـَرَحي،

أنت أم الريح التي تطرق فوق البابْ؟

آهٍ عليّ فاتني الصوابْ

أخمـرة في قـدحي،

أم أنني أعبّ من سَرابْ؟

يفصح هذا المقطع، والذي أنقله هنا اتكاءً على ذاكرة معرّضة للنسيان، عن مكونٍ تراثي غائم مع أنه يتلألأ، مع ذلك، في الطبقات القصية من النص، دافئاً كياقوتة مهشمة.

وهيئة الياقوت المهشّم، هنا، ليست نزوة بلاغية لتأجيج الكلام، إن جمرة التراث تنسلّ، إلى هذا المقطع، بخفاء بهيّ، ومفعم باللوعة، لكنها تتشظى قبل أن تحتضنها شبكة النصّ، فلا تعود جسداً أملس، ملموماً على ذاته، أو مستسلماً لصلادته الأولى، بل تغـدو ناراً ملتاعة، مفتّـتة، تدبّ في المقطع كله، دلالةً وتكويناً، لتشقّ لهـا مجرى فـردياً خاصاً يشوبـه التباس خصـب وتستريـح لـه الذاكرة.

سأترك الإشارة التناصيّة الأولى، “أودي” جانباً؛ فإن لها نصيباً معقولاً من الوضوح، رغم ما أضفته على مفتتح النصّ من ضراعة غنائية فاتنة (إن أودي هنا، هي أوديت بطلة القصة الشهيرة بحيرة البجع).

لا يمكن لقارئ هذا النصّ، إذا كان ذا صلة حميمة بتراثنا الشعري، أن يهرب من ذاكرته، بل لا بد أن تستيقظ فيه قراءاته الكامنة، ولذائذه الملقاة في قاع النفس، أو الخيال؛ فهو يتلقى هذا النصّ على مستويين: أحدهما مستوى متاح للقارئ العام، الذي يمتلك حداً معقولاً من الكفاءة والاستعداد، وأعني بـه مستوى الاستمتاع الجمالي، التلقائي، الذي يتيحه النص، في حدوده الحالية الملموسة: في تجسّدات اللغة، ومستوياتها التركيبية والمعجمية والإيقاعية، وفي انثيال المعني ووطأة التلفت الشجي. هذا أولاً، غير أن هناك، في ما وراء النص، أي في هيئته الحسية الماثلة، مستوى آخر، لا يلغي القراءة الأولى أو التلقّي الأول، ولا يمحوه، بل يزيده عمقاً إضافياً، في النبرة والدلالة وعناصر التركيب أيضاً. وأعني بهذا المستوى صلة الشاعر بتراثه، أو التفات النص إلى سالف النصوص من جنسه، أو مما يجمعه بها من تضادّ دال، أو تناغم  ثري.

إن شيئاً ما من المتنبي، أعني نبرته المكدرة تبث رنينها في ثنايا النص، لتغدو جزءاً من مناخه، جزأه الداخلي، المتوقد، غير المعين بتركيب ما، وكأن تلك النبرة المشوبة بالنشوة والأسى، تدبّ في مفاصل النصّ دون أن نلمس منها إلا طرفاً صغيراً يتدلى من ردائها اللغوي أو هيئتها التعبيرية.

لنتأمل هذا الجزء من المقطع:

أخمرة في قـدحي

أم أنني أعبّ من سراب؟

إن هذين السطرين يخوضان، وهما في طريقهما إلى ذائقتي وطاقتي الانفعالية، مياهاً كثيرة؛ غير أن أكثر ما علق بهما من بلل كان من المتنبي تحديداً. لقد جاءا إليَّ مضمخـين بعطر انفعالي ولغوي خاص، يشيران إلى بيت المتنبي ويقتربان مما فيه من نبرة متسائلة ثملة:

يا ساقيَّ أخمرٌ في كؤوسكمـا    أم في كؤوسكما همّ وتسـهيدُ

لكنهما يشقان لهما مجرى خاصاً من الشجن الفردي؛ فقد انعطف بهما الشاعر إلى مستوى يندغم  فيه هو والمتنبي معاً. ينخرط بيت المتنبي في بناء مشهد يضجّ بالحيرة، التي تفصح عن ذاتها بهذا التساؤل المرير، غير أن هذه الحيرة سرعان ما تنكسر، أو تخفت أمام هذه الضجة المحيطة بالشاعر؛ فالشاعر ليس وحيداً، هنا، الأمر الذي يجرد حيرته من وهج العزلة، إن هناك ساقـيين اثنـين يقومان على خدمته، وهما ساقيان ينسبهما المتنبي، مستعيداً نداء المثنى في الطلليات القديمة، إلى ذاته. كما أنّ هناك كؤوساً عديدة لا كأساً واحدة، يكاثرها المتنبّي ويضاعف من رنينها، عن طريق التكرار في عجز البيت.

ورغم التحام المتنبّي بالساقـيين عن طريق النداء، إلا أن هناك فجوة تفصل بينه وبين ما يرى من تفاصيل، وكأنه يقف على مبعدة من عناصر هذا المشهد، دون أن يقحم ذاته فيه؛ فليس هناك، في تركيب البيت، ما يلتصق بـ“أنا” الشاعر، أو ينتمي إلى ذاته.

ومع أن التأمل في سطري حسب الشيخ جعفر، مقارنة ببيت المتنبي، يكشف لنا عما هـو مشترك  بين  الشـاعـرين:

– نبرة التساؤل وأداتها همزة الاستفهام.

– استخدام أم للتعـيين.

– الخمر أو الخمرة.

– الكأس أو القدح.

فإنّ التمايز الدلالي والتركيبي بين حالتيهـما بالغ الوضوح. إن حسب الشيخ جعفر يستدرج المتلقّي إلى حيرته الخاصة، أو إلى مشهد مفعم بالعزلة: الشاعر يجلس إلى قدحه وحيداً، لا نديم ولا ساق، فليس هناك إلا قـدحـه هو: “قدحي”. ومع أن المتنبي استخدم كلمة “الخمر” وهي مؤنث مجازيّ  كونها علامة للتأنيث، فإن حسب الشيخ جعفر استعاض عنها بكلمة “الخمرة” المؤنثة لغة ومعنىً، وكأنه لم يجد كفايته في التأنيث الكامن في “الخمر” فانحاز الى التأنيث الظاهر في الخمرة ليكثف من حضور الأنثى على مستوى اللفظ، في مواجهة غيابها على مستوى الواقع، وإذا كان بيت المتنبي، في شطره الثاني تحديداً، يجعل من الهـمّ والتسـهيد، وهما اسمان، معادلاً للخمر، فإن المعادل لدى حسب الشيخ جعفر هو الفعل “أعبُّ” بما أضفته عليه علامة التشديد من فائض الحركة والديمومة من جهة، وما أكسبته الذات الفاعلة من إحساس جارف بالخيبة من جهة أخرى.

في بيت المتنبي، مشهد ضاج يقف الشاعر إزاءه، متسائلاً قلقاً وحزيناً، دون أن ينغمر فيه، وهو يتوجّهُ إلى شيء ما، أو كائن ما، يقع خارج ذاته منتظرا منه إجابة أو عزاءً، أما حسب الشيخ جعفر فقد استدرج الشحنة الانفعالية في بيت المتنبي إلى داخله، وأزاحها عن مركزها الخارجي، ليصبح هو منطلقاً ومصباً لفيضٍ داخلي طافح بالتلفت ورفيف الذكرى.

-5-

لا أستطيع أن أتصور حسب الشيخ جعفر في منأى عن ذاكرته، أعني مدخراته من الانفعال والمعرفة. يمكن القول طبعاً إن لكل شاعر امتثالاّ من نوع ما لذاكرة شعرية أو انفعالية يقظةٍ، غير أن الأمر، بالنسبة إلى حسب الشيخ جعفر مختلف تماماً، لأن للذاكرة في معظم قصائده نشاطاً لا يهدأ، فهي مبتدأ القصيدة أو نهايتها، أو هي المبتدأ والخاتمة معاً، وما بينهما يرتطم موج الداخل جيئة وذهاباً بين الراهن الماثل للبصر والغائب المخترق بالبصيرة.

الذاكرة تمثل، في رأيي، معظم البطانة الوجدانية والمعرفية أو السردية للكثير من قصائد الشاعر، كما أنّ هذه الذاكرة تبدو أحياناً وكأنها، في بعض شعره، المعادل الضدّي، للواقع المعيش الذي يتمدد خارج نصوصه. إن الشاعر حين يحضر مادياً في “الآن” و“الهنا” فإن نيرانه الشعرية تشبّ في مكان آخر، وفي زمن مختلف. تندلع “هناك” وفي “ما مضى”. يحدث هذا غالباً وبوتيرة تستدعي الوقوف والتأمل.

حين كان يقيم في موسكو، للدراسة، كانت طفولته الشعثاء، ومشاحيف الصيادين، وأنين الريح بين البردي تؤكد حضورها دائماً في قصائده، وكأنّ ثمة ناراً نحيلة صافية قادمة من بعيد، لتمدّ الشاعر بدفء الروح ونضارة الجسد في تلك الليالي الفضية القارسة. هل كانت الذاكرة أشدّ ضراوة من خبرة الجسد أو مغامرته؟ لا أعتقد ذلك. لكنني ميال إلى القول إن الذاكرة كانت تشق طريقها إلى قصائد الشاعر بوطأة أشدّ مما ينجزه الجسد من حضور حسّيّ آنيّ، حتى يبدو لي، أحياناً، أن الشاعر كان يرجئ التعبير عن خبـرة الجسد إلى زمن آخر، زمن تنضج  فيه الخبرة وتبلغ اختمارها المهلك، بعد أن تتحول إلى ذكرى.

بعد أن عاد إلى بغداد في أواخر الستينات، كان حسب الشيخ جعفر يترك، في الكثير من قصائده، أبواب ذاكرته مشرعة على الجهات كلها، الأمكنة والأزمنة، الأساطير والتقاليد الشعبية، غير أن ذلك كله كان يأتينا مقنعاً، غائماً، كالهاجس، أو الحلم.

في بغداد، كانت ذاكرة الشاعر، تأخذ مداها في الاغتراف من ماضي الجسد: من فتوحاته الحسية، ومن ملذاته الحارقة بعد أن تحولت إلى خبرة موغلة في الغياب، ولم يعد للشاعر من حيلة غير التلفت إليها ملتاعا.

إن المقطع التالي من قصيـدة “قـارة سابعـة” يـؤكـد، ربمـا، مـا قلتـه في هذا الصدد:

أتسمعينَ؟ الحبّ في السرير كالرحيل في السفينةِ،

القهوة في الصباحِ.. قهقهاتنا الواعدةُ، التصاقُ

ثوب المنزلِ النديِّ بالثديينِ، تسريحتها الهوجاءْ

جارتي الفارعةُ الشقراءْ

تطرق بابي، عـادةً، في الصبحْ

تأخذ مني علبة الثقابْ

وفمها المنفرج الكبير مثل الجرح

يطفح بالرغـابْ.

إن هذا النصّ المفعم باللذة، لا يشتبك مع الراهن ولا ينطلق منه، أعني لا يتشبث بالـ“هنا” و“الآن” سياقـا واقعياً ماثلاّ، بل يقبل علينا من المنقضي والغارب. أعني من زمان ومكان بعيدين لكنهما، مع ذلك، لا يزالان يتلألآن في الذاكرة. إنّ الشاعر يجسد هذه التجربة بلغة تتنقل، ببراعة مدهشة، بين السرد والحوار، الحركة والتأمل، الحضور والغياب،  تدافع التدوير وغنائية التقفية. الذاكرة، هنا، تسلك، وإنْ بطريقة معكوسة، ذات الطريق التي كانت تسلكها في قصائد الشاعر إبّانَ دراسته في موسكو؛ فهي تنفصل دائماً عن الجسد المزروع في اللحظة والمكان الراهنين لتبدأ نشاطها من هناك، مترعة بالألم أو اللذة، في مغايرة زمانية ومكانية درجت على ممارستها باستمرار.

-6-

في ذلك الضجيج الستيني، الذي كان يتعالى منفلتاً دونما معايير حيناً، أو محتكماً إلى قدْرٍ من الانضباط حيناً آخر، انبثقت قصائد حسب الشيخ جعفر. كانت تتصاعد بانثيال جديد ومعافى، غير أنها كانت مشدودة، في الآن ذاته، إلى ميراث وجداني وشعريّ لا تريد التفريط به من جهة، ولا تريد الامتثال له تماماً من جهة أخرى .

في تلك المرحلة المزحومة بالتجريب ومشاكسة السائد الشعري حيناً، والقطيعة مع الماضي، حتى القريب منه، حيناً آخر، بدا حسب الشيخ جعفر منتمياً إلى زمن أكثر بهاءً وأقل مشاكسة: صوتاً شعرياً، يخرج، مصقولاً وصافياً وشجياً من ذات فوّارة بالقلق والحنين، دونما ادعاءات  ودونما حذلقة. وفي الوقت الذي كان فيه شعراء الستينات، أو معظمهم على الأقل، يغذّون السير، كلّ على هواه، إلى نهاية محتومة، أو مصير محفوف بالشكوك. كان حسب الشيخ جعفر، ومعه قلة من جيله، يتجه إلى خيارات شعرية مدروسة بعناية، ومفتوحة على فضاءات من الاختمار المؤكد.

كانت قصائده، في الغالب، تبدو وكأنها تنضج على نار رعوية مرفرفـة: يلفحها، دائماً نسيم يهبّ من نايات مجروحة، ومخيلة منقوعة بالخضرة. لذلك فإن صوته الشعري لم يكن خارجاً من أزقة المدينة، التي لم يتورط فيها شعرياً إلا في النادر من قصائده، كان حسب الشيخ جعفر يحتمي من المدينة بفيض من ذاكرة برية خضلة، ومخيلة دائمة التلفت إلى ما مضى.

-7-

استطاع حسب الشيخ جعفر، في “الطائر الخشبي”، أن يختطّ لقصائده مساراً إيقاعياً خاصاً به، يقوم على التدوير غالباً حيث تتدافع القصيدة، وتتنامى عروضياً ودلالياً دون عائق من تقفية محتّمة في نهاية السطر الشعري.

القصيدة، في هذه الحالة، جملة شعرية تفيض في حضن جملة أخرى تالية لها، وهكذا حتى يبدو المقطع الشعري كله أو القصيدة كلها، أحياناً، مجموعة من الجمل التي تتوالى دون وقفات لتشكّل، في النهاية، تصبح نهراً إيقاعياً ودلالياً مترابطاّ، يتدفق بدافع التجربة وضغوطها، ودواعي الإفصاح الجمالي عنها.

وربما تمثل تجربة حسب في التدوير إنجازه الأرقى؛ لقد كانت، وفي “الطائر الخشبي” تحديداً، محاولة جريئة لكسر رتابة الإيقاع وتماثله في الكثير من القصائد الحديثة. كان التدوير أحد المكونات المهمة في عمارة إيقاعية متموجة وبالغة الثراء، أما عناصرها الأخرى فتتشكّل من تلك الوثبات الأخّاذة بين بحر وآخر تارة، والمزج البارع بين التدوير والمقاطع الغنائية المقفاة تارة أخرى. وخلال مجموعاته اللاحقة، “زيارة السيدة السومرية”، و“عبر الحائط في المرآة”، و“قارة سابعة” كان حسب الشيخ جعفر يصل بتجربته في التدوير إلى أقصى مدياتها حتى بدت وكأنها، في بعض قصائده، فيض من المهارة والصنعة حين تنفصلان عن بواعثهما الروحية، وتغدوان هاجساً شكلياً ملحّـاً، لا يتجاوز ذاته أحياناً.

غير أننا، وأمام الكلّ الشعري الذي أنجزه حسب الشيخ جعفر، لا نجد أنفسنا إلاّ أمام شاعر من طراز خاصّ، ترك آثاراً عميقة في تربتنا الشعرية العراقية والعربية. كان يصنع من طينتها الحارة عالماً شعرياً يشهد له بالفرادة دائما. ولا ينتقص من منجزه الحقيقي أن منحنى صعوده كان يتعرّض، أحياناً، لانحناءات هنا أو هناك. ولا تضيره أن عملاً، من أعماله المتأخرة خاصةً، لا يقدم ما يكفي من البراهين على أنه جزء حيّ من مسيرة في منتهى اكتمالها الشعري.

  • عن مجلة الجديد

  • عن ملف خاص أعده الأديب عواد علي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *