تتميز السير التي يكتبها آخرون عن أعلام قريبين لمداراتهم بتقديمها لصورة لا تخص الشخص وحده، ولا تنشغل الكتابة عن الذات هنا فقط بالمسار الحياتي، في صعوده وخيباته وأحلامه وانتكاساته، بل تقدم فضلا عن ذلك حيوات موازية، تخص كاتب السيرة نفسه، الذي قد يكون صديقا للمؤرَّخ له، أو زوجا أو تلميذا أو رفيق درب سياسي أو أدبي أو فني، بقدر ما تخص صورة بلد وصداقات مشتركة، وانتماء عقائديا، وتَمثُّلاث مزاج وسلوك حياتي، حتى الرمق الأخير.
تفاصيل ما كانت لتنطوي عليها التخاييل الذاتية التي يكتبها أصحابها بوعي كامل، ولا تقترب إلا في ما ندر من اللحظات الأخيرة. ذلك ما تلتقطه ببراعة الشاعرة والناقدة الفنية والمترجمة العراقية مي مظفر في السيرة التي خصصت لزوجها الفنان العراقي الشهير رافع الناصري بعنوان “سيرة الماء والنار”، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، حيث يطل القارئ على محطات أربعين سنة من تحولات العراق الحديث من الملكية إلى الجمهورية إلى الثورات والانقلابات والحروب المتلاحقة، كما تعيد رسم مشهد فني، ونهضة ثقافية، وعنفوان أدبي، هو من أنضج ما عرفته الأقطار العربية في زمنها الحديث.
تتألف السيرة من مقدمة واثني عشر فصلا، ممهورة جميعها بصور مصاحبة لمختلف محطات العمر والسفر والعمل الفني، وملحق صور من محترف رافع الناصري. حملت الفصول العناوين التالية: “البداية”، “مرحلة الكر والفر”، “الكوخ”، “مي”، “السنوات العشر الأولى”، “رحلاتنا”، “بيتنا في بغداد وسنوات الإبداع”، “إنها حرب قذرة”، “الخروج من بغداد”، “السنوات العشر الأخيرة والعودة إلى عمان”، و”رحلة المرض”. تبتدئ برسالة خطتها صاحبة السيرة غداة وفاة زوجها، توجهها له في غيابه، وتستعيد لحظة انبثاق فكرة تدوين يوميات الحياة المشتركة.
في مستهل الرسالة تستخدم الساردة عبارة تكشف على نحو دال الجدوى من كتابة السيرة “وحدي أنا اليوم في عالم موحش إلا من روحك، تظللني وتقيم معي أينما أكون، أقتات على ذاكرة تعيدك إليّ، فأراك تجلس قريبا مني، وكل منا يصغي لأصوات تتخفى فينا. حديثي معك لن يتوقف، وصورتك لن تغيب، وسأستعيد حكايتنا هنا، كما وعدتك” (ص23)، وقبلها بفقرات قليلة تعود إلى مشهد عابر في منزل إتيل عدنان وسيمون فتال، حيث كان اللقاء مع شاب فوضوي مهووس بالقراءة وبتدوين يومياته، تلك المدونات التي أنقذته من اللاجدوى، ومن الضياع. على هذا النحو تَمْثُلُ استعادة الوقائع ليس بوصفها تحصينا للذاكرة من التبدد فحسب، ولا استعادة لحياة حافلة بالإنجاز والتحقق، بل أساسا لأجل ردم الفجوة العميقة التي يحدثها الغياب، ثم درء الفقدان، واستعادة التوازن، وتمهيد الطريق لجعل الرحلة المنقضية منطلقا لتركيب حياة موازية، تثبت جوهر ما استبطنته من معنى.
سفَرٌ في المعنى
وتدريجيا بدت فصول الحكي عن الشخص (“رافع”)، وعن الصلة به، ومرافقه رحلته في الحياة، والتَّوَلُّعِ بالتعابير الفنية رسما وتصويرا وحفرا، حيزا لفهم علاقة ذات كنه إنساني، بتجليات اجتماعية وثقافية وفكرية شتى، عن أمكنة ومحيط وأداة فنية ومراسم وصالات عرض. وفرصة لامتحان المعنى في كل ذلك؛ منذ البدايات الأولى التي انتسجت فيها العلاقة العاطفية على إيقاع الكر والفر، وحتى فصول النهاية المنتظمة على إيقاع الفحوص والتحاليل، وجرعات الدواء الكيميائي، والتقلص التدريجي للجسد الهش قبل الاستكانة الأبدية.
من هنا تتجلى السردية مقرونة بمغزى السفر، ليس فقط بما هو وقائع انتقال بين المنازل والبلدان، والعواصم العربية والغربية، وإنما بوصفه تحليقا في آفاق رمزية متصلة بالفضاءات، بحيث تتحول تدريجيا إلى مجال للَمْلَمَةِ الأثر، من كل ما جرى، في مسار الممارسة الفنية والكتابية. وبناء على هذا الافتراض يمكن فهم هندسة السيرة على إيقاع الأماكن الضاجة بالعواطف والصِّلات والانفعلات والتولُّعات؛ ما بين بغداد وعمّان وأصيلة وباريس ولندن والمنامة وبرلين وأمستردام وبيروت وصنعاء ودمشق وفاس وأوسلو وستوكهولم… وغيرها من المرافئ، المتحققة أو الممتنعة، مع الحظر الذي شمل العراقيين غداة غزو الكويت.
تنطلق السيرة من لحظة لقاء في موسم أصيلة صيف سنة 1979، بما حفل به الموعد من لقاءات مع مبدعين وعتبات وورشات فنية: أدونيس، محمد عمر خليل، محمود درويش، شربل داغر…، لتنتهي في مشهد من المعرض الاستعادي لمسار أربعين سنة من اشتغال رافع الناصري، الذي احتضنه المتحف الوطني للفنون الجميلة بعمّان برعاية الأميرة وجدان الهاشمي سنة 2013، أياما قليلة قبل رحيله. وما بين اللحظتين، تلاحق الساردة جذوة الإنجاز، التي لا تفتر، لتقليب احتملات اللوحة في الحفر والرسم والطباعة والتصوير الصباغي، والخروج بنتائج لا تستسلم لابتكاراتها، واستحضار الشكوك المرافقة لقدر الترحل وتبديل المنازل والمشاغل وضياع المكتبات الشخصية، والأرشيف الفني. وما تخلّل كل ذلك من حوارات فكرية كانت بدايتها الأولى ضمن دائرة كلية الفنون الجميلة والمتحف الوطني للفن الحديث في بغداد، ثم في الجماعة الفنية الرائدة التي اتخذت لها وسم “جماعة الرؤية الجديدة” مع كل من ضياء العزاوي واسماعيل فتاح وصالح الجميعي…، لتسترسل مع توالي السنوات والأسفار والإقامات الفنية والمعارض مع رموز فنية من شتّى الثقافات. فصول شَخَّصَتْها فقرات السيرة على نحو حواري، يرسم ملامح الفنان العراقي بالنظر إلى صلته بالصور التي سكنته، وبالمحيط البشري الذي احتضنه وبالمدن التي أنس لها، في الآن ذاته التي تعيد تخييل حضوره المُدرك في وعي الساردة وذاكرتها، وهي تستعيد مسارها الذاتي وتعيد التأمل في هذا الجوار الإنساني؛ لتقرأ من منظوره قدرها في الكتابة، وفي نسج الصلات مع الوسط الأدبي والفني. تخييل يرمم أشلاء أحاسيس ممتحنة بالفقدان، والتوق إلى تثبيت وهج السفر على الورق. في أحد مقاطع السيرة نقرأ ما يلي “اعتاد رافع أن يشفي غليله من الحفر والطباعة لدى سفرنا… وغالبا ما يعود بحصيلة جميلة يشبع من خلالها نهمه في التجريب والإبداع”(ص154).
التاريخ وزمن المشغل
ولعل ما ينحفر تدريجيا في خلد القارئ أن ذلك السفر لم يكن في العمق إلا استجابة لنداء داخلي للخروج من المشغل الشخصي بكل ما يدل عليه من معاني التعود والإتقان المناقضة لروح التجريب وارتياد مجاهل مغامرات أسلوبية جديدة، لذا كان إلحاح الساردة على وصف المشاغل وما يتأتى عنها من إنهاك ومتع متصلة بجوهر عمل الرسم والحفر والطباعة، وما يتلوها من معارض، ومتواليات أعمال، ومجموعات فنية، وكاتالوغات، أسهمت “مي” في كتابة بعض نصوصها، والسهر على تنسيقها؛ من مشغل البدايات في بيت الزوجية الأول الذي نعتته بالكوخ، إلى مشاغل بكين ولشبونة ولندن وباريس وستوكهولم وأصيلة وغيرها. كان روح المشغل ينتقل من الجدران وآلة الكبس إلى المسارح ودور الأوبرا، والمطاعم والأندية، وإلى الأمسيات العائلية، ومع الأصدقاء، فنانين وكتابا. وسرعان ما يركّب تاريخ العالم والأقطار العربية وتاريخ العراق الحديث في جدل العبور بين المشاغل المتباعدة، فتتخلل فواصل التنقل والسفر أزمنة الحرب في العراق والحصار والهجرة وقصف المدن والمنشآت، بالموازاة مع وصف ما لحلق بالمشغل والبيت الشخصيين، في بغداد، من سرقة وتدمير ونهب، وما ترتب عنه من خروج إلى عمّان ثم إلى المنامة، وما أسفر عن المغادرة من اشتغال وعروض متلاحقة.
والظاهر أن زمن المشغل في السيرة لم يكن مجرد علامة على الانتقال بين الأصقاع، وإنما لحظة للعودة إلى الداخل العميق وتجاهل العالم، كان مثلما مثلته السردية، ببلاغة أخاذة، زمن الذات الفنية الخالصة، المجردة من صلاتها بتحولات المحيط؛ وإن كان واصلا بين عوالمها.
تقول الساردة في مقطع من الفصل المعنون بـ”إنها حرب قذرة”، “في تلك الأيام المليئة بالترقب الحذر ظل رافع يعمل بوتيرة لا تفتر. لقد أصبح العمل ملاذه يفرغ فيه شحنات القلق والرعب من القادم، من غير أن يفقد هدوءه الظاهري، فهو ممن يؤمن بالإقامة مع الراهن، ويواصل حياته بكل ما يمكنه من نشاط. اعتاد أن يضع حاجزا عند مدخل مشغله وهي سلسلة معدنية وستارة بيضاء قطنية ينزلها إشارة إلى عدم رغبته باقتراب أيّ أحد منه… كان رافع يخفي قلقه تحت قشرة هدوئه وصمته، وحين أكون برفقته أستمد منه الأمان”(ص 207).
الكتابة والمتخيل البصري
لوحة: رافع الناصري
وبقدر ما كان وصف المشغل وزمنه فرصة لبيان الذات الكامنة بالداخل، في سكينتها وانفصالها عن الخارج، ولحظة لرتق الفجوات في زمن التنويع الأسلوبي والتجريب ومراكمة الأعمال، فقد مثّل مدارا مركزيا لشحن السيرة بفقرات وصفية وتحليلية بصدد المنجز البصري لرافع الناصري، من قبل مي مظفر الناقدة والمؤرخة للفن العراقي، على نحو تجلت فيه أشبه ما تكون بنص واصف لتراث الفنان، بعمق تحليلي وتأريخي، يعيد تمثيل اختراقاته التشكيلية، في المشهد الفني المعاصر، بالموازاة مع توالي صور فوتوغرافية توثق لأهم الوقائع في تاريخه الفني والحياتي: صور رسائله، وبعض لوحاته، وصوره في المشاغل المختلفة، وصور ملصقات معارضه، وصور كاتالوغاته، وصوره في المعارض والمتاحف من بلدان مختلفة، وصوره مع أصدقائه ضياء العزاوي ومروان قصاب باشي وأمين الباشا وشربل داغر ونضال الأشقر وجبرا إبراهيم جبرا ونزار قباني وفؤاد التكرلي ومحمد المليحي وإتيل عدنان… وصوره أولا وأخيرا مع مي مظفر رفيقة السفر.
لذا لم يكن غريبا أن تُخترق المفردات بالمتخيل البصري، وأن تنهض على بنية تعبيرية تواكب تطويعات المرئي والمضمر في ثنايا الأثر المرئي، هاجس رافق الساردة حتى الفقرات النهائية، لحظة وصف المغادرة، حيث يحضر الحلم المكتنف بظلاله الرمزية لحظة الغياب. تقول في الأسطر الأخيرة من السيرة “قبل أسبوع أو أكثر من رحيله رأيت أننا معا في رحلة بجبال لبنان نمرّ بغابات على طرف الطريق. فطلب من سائق السيارة أن يتوقف قليلا لأنه يريد تصوير المنطقة. حذّرته من أن ساقيه ربما لا تحتملان تسلق الجبل لكنه لم يرد. ترجل من السيارة يحمل الكاميرا وعيناه سارحتان تتفحصان الموقع. طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي. بقيت أتابعه بعيني حتى توارى في عمق الغابة. قلقت وذهبت للبحث عنه فلم أجد أثرا. بقيت أنادي وأنادي فلا أسمع إلا صوتي يتبدد في الفضاء” (ص 288).
***
لقد كتبت مي مظفر سيرة الماء والنار، لتكريم ذكرى زوج وصديق ورفيق عمر، وحفظ ذكرى ولع إبداعي ومسار استثنائي، وللاحتفاء بفن تعبيري وبعض أهم رموزه، ثم لاستذكار أمكنة وتأثيل أثر، لكنها كتبتها أيضا لحفظ مسار شخصي ولامتحان أحاسيس وصور وخيالات عن وقائع وأمكنة وخطوب، وانتشالها من وهدة النسيان.
-
عن مجلة الجديد – لندن