من حكاياتي: حنظلة الشجراوي

من قصص الأرشيف : 22

من حكاياتي: حنظلة الشجراوي

سهير سلطي التل

عندما صدرت جريدة السفير في بيروت سنة 74، كان طبيعيا أن نبدأ القراءة من الصفحة الأخيرة، فقد تربع حنظلة الشجراوي ( ناجي العلي) على عرش الكاريكاتير بكل ما ملكه من صدق وابداع وحِدّة، فسحب قراء الجريدة من الصفحة الأولى، الى الأخيرة، حيث الموقف السياسي الأصيل، يسجل بريشة ناجي العلي في رسومه على الصفحة الأخيرة، لم أكن أعرفه، لكن (حماتي) الخارجة من قرية (ميرون قضاء صفد) الى جنوب لبنان، تعرفت على عائلته الخارجة من (قرية الشجرة) الى ذات الجنوب، حكت لي قصتهم كاملة، عندما سألت (الأستاذ) عنه، ( يما هاذ مش ابن أخو حنيفة العلي؟ هذول راحو من مخيم مار الياس لعين الحلوة، بس إحنا ماطقنا المخيم الكبير، وإجينا على المية ومية، وعملنا مخيم صغير النا، جبل زي البلاد) بهذه البساطة كانت معرفتي الأولى بناجي، من خلال عمته حنيفة، لم التق به قبل الحرب، رغم تواجدنا شبه الدائم في مقاهي شارع الحمراء، ملتقى الصحفيين والأدباء والفنانين والسياسين، لانه ببساطه ينهي اعماله في بيروت، ويعود الى بيته في مخيم عين الحلوة، الغريب في علاقتي بناجي انها لم تتوطد في بيروت على الرغم من الصداقة الاستثنائية التي تربطه ب (الأستاذ)….

عندما إلتقيته للمرة الأولى في مقر إتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين، كنت قادمة من عمان في زيارة طويلة لبيروت كما هي عادتي بعد الحرب، كنت أنوي مغادرة المكتب، فإقترح بتهذيب أن يوصلني بطريقة، لم أمانع وما أن استقر أمري في عربته المتواضعة، حتى سألني عن صحفيّة أردنية كتبت عن معرضه الثالث كتابة جميلة، ضحكت في سري هو حتى الآن لم يعرفني، فاجبته بلا مبالاه ( أنا) صفن كعادته، (بس قالو لي إنه المكتوب قوي وحميم، إنتي منين بتعرفيني؟ وأنت أردنية بنت عيلة…) قاطعته ضاحكة (بعرفك وبعرف عمتك حنيفة إنت مش إبن أخو حنيفة العلي) إرتبك ونظر الى نظرة جانبية تحمل الف سؤال، وحتى أنهي ارتباكه أخبرته أنني (زوجة الأستاذ، وأن حماتي (نوخة) صديقة عمته (حنيفة) من أيام مخيم مار الياس ) فهتف كعادته ( اخو الشليته، ليش ما عرفني عليكي من قبل، ولك هاذ أخوي، يعني إنت مرة اخوي) وهكذا بدأت صداقة من أجمل الصداقات التي عرفتها بحياتي وظل يناديني ب (مرة اخوي) …..

في بيروت لم نلتق كثيرا، وفي المرات القليلة التي نجتمع بها، وبعد حادث كاد يودي بنا معا، كان يصر على مرافقتي الى أقرب تكسي، ويتأكد من انه سيوصلني الى بيتي في برج البراجنة، كان يرفض ان يوصلني بعربته، بسبب تهديده شبه الدائم بالإغتيال، وهو لا يريد ان ينسفوه وأنا معه، يقولها ويضحك ( ولك بيحطوني برقبتك، ولاد الشليته، يامرة اخوي، يابنت التل)

عند إقامة الأسبوع الثقافي الفلسطيني في روما سنة 81، حضر مع مجموعة من الكتاب والصحفيين الفلسطينين، وكنت أعمل حينها في صحيفة عربية تصدر من هناك، كانت الأمور تسير بهدوء وبغاية الجمال، ولن أنس تلك الرحلة الى مدينة على شاطيء المتوسط قريبه من روما، عندما أصر هو والأستاذ على طلب صحن كبير من بلح البحر، كانت كمية كبيرة، وأصرا على إلتهامها، تورد وجهيهما حتى وصل الإحمرار الى آذانهما، كنت خائفة أردد (بيكفي) لكنهما يصران مدعيان بأنني (بنت صحراوية لا تعرف طعم الأكل) وعندما عدنا الى روما، أمضيت الليل بغلي الميرمية والبابونج وما تيسر من أعشاب، لعلاج آثار تلبك الأمعاء الذي أصيبا به…

ما أن تنتهي فعاليات اليوم الثقافي، وأنهي عملي، حتى نخرج لتتلقفنا شوارع روما وساحاتها، إشترينا طباشير ملونة وكان يرسم حنظلة في كل مكان يجد به متسعا، جدار، رصيف، طاولة مقهى، لكن حصة الأسد كانت ل (بياتزا نافونا) ساحة الفن والفنانين، تعرف الى معظم فناني الساحة، فصاروا يتركون له المجال ليرسم، كان يركض كطفل فرح ليرسم على أرض الساحة عشرات الحناظل…..

ليلة إغتيال الشهيد (ماجد ابوشرار) رحمه الله، كانت ليلة الرعب الحقيقة بالنسبة لي، كان المفروض أن نلتقي بفنان كردي، يعمل معنا بالجريدة، لنخرج بجولتنا الليلية، لسبب ما تأخرت فخرجا معا، لأعلم بعد خروجهم بخبر الإغتيال، فجن جنوني، إذا وصلوا لماجد ابوشرار في الفندق المشدد الحراسة ، فكيف لا يصلوا الى ناجي في مدينة مفتوحة، والفنان الذي معه مهدد أيضا ( تم إغتياله فيما بعد بينما كان يرسم في بياتزا نافونا) وهما بالتاكيد لا يعلمان بخبر الإغتيال، حتى يعودا الى مكان آمن، لا أدري كم من الساعات مضت وانا و(الاستاذ) نجوب ساحات روما وشوارعها، في عملية بحث نعرف أنها مستحيلة، لكنها أهون من الإنتظار… حتى عادا مع الفجر، لم اقو على قول كلمة، فقط انفجرت بالبكاء….

في الكويت أصبحت الحياة اكثر هدوءا، فخطر الإغتيال أقل إحتمالا، وشارع الصحافة في الشويخ يجمعنا، خطوات بين جريدة القبس حيث يعمل، وجريدة الرأي العام حيث نعمل، والطريق الى البحر مفتوحه بلا حواجز، ليال طويلة أمضيناها معا، أحاديث طويلة ومتنوعة، في السياسة والفن والكاريكاتير، وعندما يضيق بأسئلتي يحرض (الإستاذ) (يخوي خوذ مرتك عني) لكنه ظل يفتح لي قلبه عندما تضيق بي الحياة، ولا أجد لي منفذا أمينا أبثة همومي، كان هو أول من علم أني أرغب بالعودة الى الأردن مهما كلفني الامر، كان يعلم بمتاعبي في الكويت و المتاعب التي تنتظرني في عمان، لكنه لم يردعني، ولسان حاله يقول (لا شي افضل من الوطن)……

ليلة سفري الى عمان، أقمت له وليمة كبة نيّة على طريقة أهل الجنوب، شكرني، لكنه أصر على أن الصبايا لا يمكنهن إتقان الكبة، كما تتقنها عمته حنيفة، مع أنني حلفت له أغلظ الإيمان بأني لم أستعمل الماكينه الكهربائية، بل قمت بدق اللحمة على البلاطة، وعجنت البرغل وبهارات الكبة بيدي، وحتى يصدقني أخذته الى المطبخ ليشاهد بنفسه آثار دق اللحمة على البلاطة التي إستعرتها من عائلة فلسطينية…..

ليلة سفري لم تكن ليلة سهلة، أدرك صعوبتها علي وعلى (الأستاذ) الذي لم يكن متحمسا لعودتي، فحاول إشغالنا بالحديث، لست ادري لماذا تولد لدي إحساس بأنه اللقاء الأخير، وربما والحديث الاخير، بدون تفكير أحضرت جهاز تسجيل المقابلات الصحفية، وإستأذنته لتسجيل سهرتنا، لم يعترض لكنه نظر الي طويلا وهمس (بعرفك صحفية مش قليلة، مش كل شيء للنشر)

تشعبت أحاديثنا في تلك الليلة، تناولنا كل شي، فنه، هم تطوير أدواته، سفرياته وبحثة عن كل جديد، مع حرصة على المحافظة على هويته الفنية، بيروت، طفولته، حياته بالمخيم، والده، عمته حنيفة، علاقته بغسان كنفاني، حصار صيدا، وإعتقالة من قبل جنود العدو عندما اقتحموا عين الحلوة، والإفراج عنه لانهم لم يعرفوه – ظنوه مجرد ختيار من المخيم-، تلقيه خبر إستشهاده، وإختراقه المعاكس لحصار بيروت، ضيقه من البوسترات التي حملت صورته شهيدا، فرحة الأصدقاء عندما إلتقى بهم حيا يرزق، قصص وحكايا كثيرة سجلت على مدى ساعات حتى الصباح، يختلط في روايتها الضحك بالدمع المتواري بالمآقي، وبين الفتره والأخرى، يتوقف ليسالني(ولك بعدك بتسجلي)

بعد أن أخفيت الأشرطة بطريقة لا يمكن للجن ان يجدها، وتوجهت الى المطار، شعر بقلقي، شد على يدي بقوة ( تخافيش يا مرة اخوي، اللي بيوقع من السما بتتلقاه الارض، وإنت قوية ) وكانت آخر كلمة سمعتها منه في الكويت، لكن عندما إستقر أمري في عمان، أخرجت الاشرطة وبدأت بسماعها، لتفريغ ما يمكن نشره منها، إنتبهت الى كلمة (يا قوية) لمناداتي، وتكررت أكثر من مره، لكني لم افهم….

حين أصيب في لندن، وبعد أيام من التعلق بحبال الأمل، إتصل الأستاذ ليبلغني بخبر إستشهاده، صرخت بدون وعي مني، لكنه بادرني (كم مرة ناداك بالقوية) وبكينا بدموع صامته…..

لم يكن فراقه سهلا، لا على الصعيد العام، ولا على الصعيد الشخصي، لم يكن مجرد فنان وشخصية، وطنية شهيرة، ولا مجرد صديق للعائلة، كان شخصا كليّا تحتار في تصنيفه……بهذه المشاعر حاولت إنجاز فيلم وثائقي من واقع تسجيلاته المحفوظة لدي، ولأكمل العمل فكرت بالبحث عن بيته في مخيم عين الحلوة، وكنت قد كتبت عن رحلة البحث عن تمثاله المفقود، لكني لم أستطع الدخول الى المخيم، وبخاصة أن منزله وقع في المربع الأمني لإسلاميين متشددين، لكن الصديق جهاد الرنتيسي، أخبرني أنه وصل بصعوبة الى موقع البيت، ليكتشف وبكل مرارة، أن منزله تحول الى سوبر ماركت، ومركز رياضي(جيم) علما بأن بيته في الكويت أزيل مع إزالة كل بيوت (حي النقرة) وقبل ذلك، قام العدو الصهيوني بتجريف (قرية الشجرة) مسقط رأسه بالكامل…. وهكذا لم نعد نجد مكانا يحفظ إرث ناجي المكاني، سوى قبره في لندن….

لم يكن فراقه سهلا، ولن يكون، لكنه سيبقى بيننا بحنظلته ورسوماته وأحاديثة الشيّقة، خارجا على المكان والزمان، أوحدا متفردا بنبله وصدقه، وسأظل افتقد الصديق الأمين الذي ابثه همومي بثقة مطلقة، لكنني و كلما واجهت صعوبة ما، ألجأ الى الأشرطة لأسمع صوته يناديني من البعيد (يا قوية)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *