البرج والمراكب

(ثقافات)

البرج والمراكب

*يونس عطاري

الى بدر شاكر السياب

هربتُ الى التلالِ التي جزَّ الغبارُ عشبَها مرتين ماراً بالواديَ الناشفِ خلف كسّاراتِ الجيش العربي₁ فأسمعُ ثغاءَ الماعزِ الأسودِ الذي جرّبَ خبراتِ الجفاف في “الزرقاءِ₂” ، صاعداً كنتُ أحملُ طائرتي الورقيةِ كأنها زهرةُ عبّادِ الشمسِ المزركشةِ بالشراشيبِ₃ و ألوانٍ مبرقعةٍ جمعتُ خيوطَها من درزاتِ أكياس علف الدواجن التي كان يربيها أبي، صنعتُ وجهَ تلك الطائرةِ ثمانيّ الأضلاعِ من ورق الأكياس البنية الفاتحة كعامل ماهرٍ في مصنعٍ للطائرات،ربطتُ الخيطان بعضها بالآخر كوّرتُها ككرة اليد الصغيرة ،و كلما وصلتُ قرب مكانٍ الريح طيّرتُها، مددتُ لها الخيطَ فيراها الصبيانُ من جيراننا البدو و اللاجئين الذين لا ورق و لا خيطان عندهم، يأتون الي و معهم علبٍ مربعةٍ فارغةٍ من سجائر ” الكمال”₄ كاتبينَ عليها في بيوتِهم و خيمِهم السوداء رسائلَ قصيرةً الى حبيباتهم الصغيرات، فأثقبها و أرسلها مع خيط الطائرة الى السماء و يهتفون بي: إفردْ خيطَكَ كله و اتركْ للرياح الطائرة و الرسائل. هيهات، الرعودُ حُبْلَى و تبقى تلّحُ على الهائمين: أنا من تريد، أيها الهارب. سياجٌ لا يثيرُ الطيورَ، من عشبٍ و زفيرٍ ، من حجرٍ أحياناً، فعُدْ الى “سمخ”₅ مع الغيمِ الودودِ ليحملكَ، خُذْ معكَ مفتاحَ البابِ المرصودِ، إغسلْ بَدَنَك، في نهر الأردن، كُنْ مثل ” السّياب”، إغتسلَ في نهر العذارى ” بويب”₆، و في ضوءِ قمرٍ خطفَ ألحاظَ بنت نامتْ أواخرَ الليل في زورقٍ مهجور، حمل السياب “جيكور₇” مع خرير النهر الصغير الى جزرٍ جذلى، كان يغترف الحنين و الانين براحتيه، يسكبه في الجرار كعصير التوت. النهرٌ لحدٌ جارٍ، إنْ أرادَ رُعاةُ الخواءِ و القبورِ، فيلوذُ الخائبُ بالتلصصِ على كلِّ شيءٍ، كي يتكبدَ حزناً جديداّ، و يهلكَ في شغفِ الحياة، لا خائبَ الا الميتُ، رأى جنيّاتٍ عُدنَ تواً من صدى الدجى و الامنيات كشجرٍ أسلمَ للريحِ وريقاتٍ تنمو كفناجينِ الفضةِ كأجراس الحياة. موتٌ ما، يحتاج الى نهرٍ شغلَ الايتامَ بالسلالِ و السهوبِ. الأن، هنا، في البيت تلاشى آذانُ الفجر، شرع المزارعون في العويلِ ، دفنوا حزنهمُ خلف الباب قبل الرحيل، تركوه يتلوّى كأفعى ، يسقط على درجات الغياب الطويل. نشوانٌ ذلك الجبلُ₈ في الجليل ينتشرُ و تمسحُ الارضَ عيناه، كنسرٍ يتنفسُ و يترقّبُ أسفَ الغزال الطريد، عندما رأى ظلاً مفروداً، يهفُّ بل يرفُّ في صحوةِ مرجِ بن عامرٍ₉، يغفو في الهجير تحت ظل صخرة هوت من معراج صاعدٍ، يتراكض فيه الذهولُ يرمي المحارَ و ريشَ النيصِ₁₀ على النبات و البنات و البنين في وادي اليرموك₁₁ السحيق، وادٍ يزهرُ الرمان و العلّيق₁₂، في كسلٍ يسرّح جدولَهُ بين الحقولِ التي يشرف على ثمارها شعاع الشمس كنافورة اسرفتْ في الهطول في الحدائق العامرة التي كان ينزل إليها شبابُ مخيم اليرموك قوافلَ في صراخ تائه، يرحلون الى بساتين شجر الدفلى على ضفتي نهر اليرموك كأنهم اشباحٌ ترقص في خمارة البلد، يعبرون وحل الحقول كالنواعير التي تلوك ظلال رجال يعبرون النهر، اجسادُهم جسورٌ، أوراقٌ لكتابةِ الاغنيات على مَنْ رحلوا نحو بحيرة طبريا في فجر ندي صافٍ، كانوا أفئدةٌ ترشح كجرار كسيرة في عتمة تستجير منطرحةً ثمراً ناضجاً تحت الاشجار على ترابِ بابٍ ذابَ مقبضُهُ شمعةً على ترابٍ من الطبشور، يكتبنا و يمحينا، يكسو البلاد بالاناشيد، برسائل من رحلوا. ترابٌ سورٌ، يربي الصخور و يعطس الندى و تنام تحت ذراته النجوم. طليتُ القمرُ بالنعاسِ صيفاً فبدا، في المواسم القصيرة، فؤاداً معلقاً على شباكٍ يفترسه الغياب تثاءبُ في خُلديَ مرفأٌ كأنه وليمةُ حطبٍ أحملها في صُرة، أنأى بها على مهلٍ بين برزخين حين أبصرتُ الأزل يبكي رذاذاً و يرتجفُ على ممشى تشرّبَ عتمة الطوى، يتضرّعُ منكوداً، ينهش زبد الزلازل، العواصف، نثارَ الجسور، الآجرّ، و المرارة. ينهش مسالكَ رسمها الهواةُ ضد الطغاة. كلما وسوستُ الى الرياح و الخيول، ضحكتْ بحيرةُ طبريا لي، سكبتْ في جراب البعد صدى يهتف بي: قدْ، تساوى يومَ الغبارِ الزرعُ فأصعدْ نهراً، فاض كصفائح المطر الغزير، كالنوافير الشهيرة، لينامِ الصغارُ، فراخُ الأوز عند سفوح الجولان في خيام لا سراجَ فيها، خيام كأنها أفياءُ “سمخ”، ظل، شجر، غدير. هم طيورٌ، بلا اجنحةٍ، في عالم من الاساطير و السلسبيل، “سمخ”، ركنُ طبريا القليل، فرَّ نهرها الى البحر الميت، عندما مدَّ “جبل حرمون₁₃” قدمين من ماء مُترف، من سُحبِ الغبش، فلا يمرُّ يوم طويل، على الصغار و الرضع، ابناء الغائبين الذين كووا بالاسفنج ظهور أيديهم ، و أزالوا وبرَ كلِّ مستورٍ قد جففوه و اوشك يهفهف تحت غيمةٍ تعبر باب الرقيم. تنادى الدخانُ كسولا، منهمراً، كظلال نخل عتيق، رضع الشهد العالي، و مدّ الغائبون للنارنج الدمشقي اوردتهم، سقوا الهباءَ خلَّ الصهباءِ، غسلوا الصخور بالتوت البري و اغلقوا أبواب الكهوف بالدفلى، رسموا على جدرانها توابيت اسلافهم. لا يحفر الشعراء بالكلمات سوى القبور

____________________________

*شاعر فلسطيني – تورنتو كندا

هوامش الجيش العربي: الجيش الاردني. 2- الزرقاء مدينة اردنية و هي مسقط رأسي. الشراشيب: اشرطة للزينة مجدولة او مفرودة سجائر الكمال: دخان اردني قديم كان مربع الشكل لون علبته ابيض سمخ: قريتي جنوب بحيرة طبريا هدمها لاحتلال بعد 1948 بويب: نهر صغير في جنوب العراق في البصرة في قرية السياب ” جيكور ” و هي مسقط راسه جبل الجليل: جبل الجرمق في الجليل الاعلى في فلسطين. مرج بن عامر: سهل في فلسطين النيص: من القوارض يميزها غطاء من الأشواك الحادة، التي تستخدمها للدفاع عن نفسها من الحيوانات المفترسة وادي اليرموك: وادي في جنوب سوريا و شمال فلسطين و الاردن و فيه نهر اليرموك و عنده كان معركة اليرموك بقيادة خالد بن الوليد. العليق: نبات من الأشجار التي لها أشواك ومُتسلقة حيثُ يصل إرتفاعها إلى ما يُقارب 4 أمتار، وأوراقها رحية الشكل ولها ما بين 3-5 فصوص وأزهارها تمتاز بلونها الأبيض المائل إلى القرنفلي وعناقيدها تتكون من العنبات السود، جبل حرمون:يسمي بجبل الشيخ كناية إلى الرأس المكلل بالثلج، هو أشهر جبال بلاد الشام، فهو يقع بين سوريا ولبنان، ويطل على فلسطين والأردن.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *