“هي” “وهو”… نصٌّ وقصّة

(ثقافات)

 

 “هي”  “وهو”… نصٌّ وقصّة    

نص: أفلين الأطرش

قصة: عدي مدانات

    “هي” الذكرى الخامسة لأحداث الكرك، في الثامن عشر من كانون الأول نهاية هذا العام. “وهو” شريك الحلم والقصّ والكلمة، يدرك تماماً أنني أكتب عن فترة رصدها، واستشرف مآلاتهأ بوعيه وبفكره وبقدرته، كمهموم بحبّ وطنه، وكملتصق دائم به. لا يبتعد إطلاقا عن العيش بين الناس، والاقتراب أكثر من أوجاعهم، ومدّ يد المساندة والمساعدة في كل ما يستطيع فعله من أجل غالبية وليست أقليّة. كإنسان محبّ جامع، وكسياسي مناضل، وكمحام شديد الالتزام وكمفكر من خلال إبداع أدبي مميّز.

   “وهم” يغيّرون الوجوه والأسماء والمسميّات، والصفات والتوصيفات، كلاعبي أدوار في مشهد يستبدلون بعض ديكوراته بحسب مقتضى الحال، للإبقاء على فحوى ومضمون منتج نهائي، لمشهد لم ولن يتبدّل وفق رؤيتهم، منذ رسموا مخططه بينهم وشرعوا تنفيذه قبل عقود طويلة من الزمن. وها هو الآن يعلن ذاته بوضوح تام.

   وكي لا تُنسى “هي”،  أو يَنسى “هو”، أو نَنسى “نحن” ولدلالة التذكير، أستعيد نصّاً من بعض مسيرة أنجزتُ تدوينها، بعد رحيل  من “هو” شريكي….

“هي الصدفة المحضة التي تكون أفضل من ألف موعد، وأنا أكتب عن تلك الأرض وذاك الحلم، تتزامن مع الذكرى الثانية لأحداث الكرك التي كانت الزلزال الأول بعد زلزال رحيلك. فقد شهدتَ زلازل تدميرية بدءاً من تفجيرات عمان، وصولا إلى إحراق الشهيد معاذ الكساسبة، واغتيال الشهيد ناهض حتر أمام قصر العدل.

    تتابع معنا كافة تفاصيل ذاك الزلزال، بدءاً من خروج ذئابهم المنفردة المتجمّعة في القطرانة بعد تمركزهم فيها، مرورا بوادي الذئاب الجائعة أو المُفترسة، كما كنتَ تدعوه لتخبر أبناءك أننا نتجّه غربا إلى الكرك. وصولاً إلى قلعتها التي اكتسب الكركيون ومن لهم صلة بهم أو بها، أنها معهم وبهم سيصدّون من يحاول النيل منها. أنت تعلم مدى صعوبة تذكّر ذلك، لقسوة المشهد وضياع الناس بما لا يُستطاع فهمه أو إدراك ماهيّته. ولا أحد يسأل بما يجري، فلا تستطيع الاعتماد على أيّة معلومة رسمية تفيد. وحدهم أهلها من هبّوا كعادتهم لنصرتها والذود عن تاريخها الذي هو في حقيقته تاريخهم. أصرخ لتسمعني ” إن قلعتك قد نُجّست يا عدي، فأين أنت منها؟”

   تجيب بابتسامتك المُطمئِنة ” ستبقى عصيّة بصمودها، فلا تخافي.”

   لكن الخوف قد أقفر الشوارع في عموم الأردن إلاّ ما حول تلك القلعة. وبعد يومين وتكرار الأخطاء، تُنجّس أرض أبيك وأجداد أجدادك في غريفللا، التي صارت أرض الوسيّة تتبعها تنظيميا، لتدور المعركة في محيطها. وحين ألقيتُ المسؤولية على عاتقك بكتابتك قصّة ” السواد” كقصة أخيرة كتبت، باستشرافك مجيئهم وإعلاء راياتهم السوداء كوجوههم، في خشيتك أنهم سيضربون الكرك، لما صرت تعرف عن اختراق بدأ يعلن وجوده. من المؤكّد أنني آلمتك بشدّة. فقد وصلني من خلال أبنائك لمثل هذا الإلقاء. أما ألمهم الذي  لم أفهمه لحظتها وبعثرني، مقارنتي بين فقدك كفرد من الوطن، وبين ضياع وطن بات وشيكا، بعد شهر وثمانية أيام فقط من رحيلك.

   لم تتوقّف تلك المصائب التي أنعتها بالزلازل. فأنت تتابعها معنا بتفاصيلها، لابتلاء الوطن بها. ففي كلّ مرّة تزلزل الجميع بتغلغل فكر، علينا اقتلاعه من جذوره وإحراقه للخلاص منه. آمل لنا نحن الأحياء أن نستفيق. “”

     وأستعيد تلك القصة المشار إليها…

                                                                                                      ****************************

                                ” السواد”

*عدي مدانات

   كان العجوزان سالم الناعم وزوجته يسرى قد أفاقا للتو من رقادهما، حين تناهى إلى سمعيهما أصوات جلبة شديدة في الشارع الذي ينعم بهدوء شديد في هذا الوقت المبكر من الصباح. استرعت الجلبة النابية انتباهيهما، ودفعت الزوجة للتوجّه إلى النافذة لتستطلع الأمر. ثم عادت من فورها، وقد نال الرعب منها حدّ عجزها عن النطق، ما جعل زوجها يتوجّس شرّا، فلم يمهلها وسأل:

ـــ يسرى ماذا هناك؟

 أجابت بصوت متهدّج:ـــ ما كنا نخافه صار على الباب.

” ماذا رأيتِ؟” سأل بنبرة صوت خافتة.

 أجابت:ـــ راية سوداء منتصبة على شرفة منزل.

 مسّته رجفة صغيرة، وقال: ـــ ربما تتوّهمين.

 نطقت كما لو أنها توجه الكلام لنفسها:ـــ راية سوداء كبيرة.

 رفعت رأسها ووجهت الكلام إليه: ـــ أنت لن تراها. أشياؤك الخاصة لا تراها وهي قربك، تسألني أين نظارتي وهي على بعد مدّ ساعدك.

تمتم: ـــ أنت محّقة.

  تلفّع بالصمت وشملها بنظرة عطوفة، بجسدها الهزيل وكتلة شعرها كامل البياض. إنها تملك تلك البصيرة التي تجعلها تسبقه إلى رؤية الأشياء، ما يجعل من رأيها فيها أكثر صواباً، وما يجعله يسلّم بتفوّقها، غير أن منزلته كرجل تتطلب منه أن يهدّئ من روعها، فكيف يفعل وقد أمسك الخوف به، فالخطر إن تحقّق لا يفيد معه الكلام. اقترب منها وجلس على مقعد مجاور والتزم الصمت.

  رفع رأسه بعد قليل، ورآها تكاد تسقط جثة هامدة. تحرّكت عاطفته، فأحاط كتفها بذراعه وقال بنبرة أقرب منها إلى الهمس من المجاهرة الرصينة: ـــ إنهم يعدّون لوليمة عرس.

   لم يُصب قوله مرماه، إذ بقيت على صمتها وانحناءة ظهرها.

   تابع الكلام الواهن: ــ أظنهم ينصبون خيمة لاستقبال الضيوف وينحرون خراف.

   رفعت رأسها إذ ذاك وقالت: ـــ لا خيمة ولا خراف. فقط راية سوداء وهياج.

  لاذا بالصمت من جديد. اقتضى منه بعد قليل أن يقترح ما قد يغيّر الحال ولو قيد أُنملة، فتوكّأ على عصاه وحمل نفسه على النهوض. رفعت رأسها ونظرت إليه متسائلة. قال:

ــ لا ينكشف الشارع لك بعرضه وطوله من النافذة، سأخرج أنا لإلقاء نظرة.

 نهضت وقالت بعناد: ـــ سأذهب أنا.

    فتحت الباب وخرجت، وتعيّن عليها أن تخطو ما يعادل الأربعة أمتار باتجاه الباب الخارجي، ولكنها لم تجسر على المضيّ قُدماً، فلبثت في مكانها. كانت الأصوات قد خفتت، وفيما كان زوجها بانتظار عودتها رنّ جرس الهاتف. كانت المتحدّثة ابنته، تطلب محادثة والدتها. أجابها:

ــ هي في الخارج.

ــ وماذا تفعل في الخارج على بكير؟ سألت بانزعاج.

 أجاب: ــ سمعت أصوات جلبة، فأطلت من الشبّاك ورأت جمعا من الناس في الشارع وراية سوداء، فأصابها خوف، وأنا أعتقد أنها لم ترَ المشهد كاملا، إذ قد يكون أحد الجيران يستعدّ لاستقبال ضيوف كثر وينصب خيمة لاستقبالهم، ويذبح خرافا للوليمة. أنا طلبت منها أن لا تكتفي بالنظر من النافذة، فلا ينكشف الشارع كله منها. لحظة وتعود.

ـــ ولكن يا أبي، قالت، وأجهشت في البكاء، ثم تداركت أمرها وأضافت:ـــ أبي أعدها إلى الداخل، ربما وصلوا إلينا.

 مذعوراً هذه المرة سأل:ــ من تقصدين؟

  نطقت: ـــ السماح يا رب، هم الدواعش.

   أغلق الخط، واستعان بعكازه لينهض، وفيما هو يفعل دلفت زوجته مذعورة، وأغلقت الباب  بالمفتاح، ودعته لأن يعود إلى مكانه. لم يسألها عما حدث، ولم تُدلِ هي بقول آخر. سألها بعد أن طال الصمت:ـ هل يرفعون بنادق، أم سكاكين؟

 أجابت:ـــ لم أجرؤ على فتح الباب.

 عاد إلى الصمت، ولم يصمد طويلاً، فعاد وسأل:ـــ هل نتصل بالأمن العام؟

 رفعت يدها مذعورة وقالت:ــ لا تفعل. سيعرفون أننا من بلّغ عنهم، عندها لن يكتفوا بالقتل، سيعذّبوننا.

   مذعورا ضمّ يديه إلى صدره، ولم يصدر عنه كلام، واستنفذت هي ما لديها، فساد صمت ثقيل الوطأة ما لبثت أن قطعته بالقول: ـــ لم نؤذ أحدا في حياتنا.

 عقّب:ـــ أنت كنتِ لا تردّين طالب معونة.

 قالت:ـــ وأنت أفضالك كثيرة.

 قال: ـــ الجارات يحببنك.

 قالت: ـــ وما قد يفعلن؟ ثمّ سألت: ــ أتظنّ أنهم قد يقتلون عجوزين مسالمين؟

  تحرّك شيء فيه، بدا واضحا من إطباق فكيّه وانفراجهما، ثمّ شرع في كلام متهدّج:

ــ لو يقتصر الأمر عليّ وحدي لهانت، سأقدّم نفسي فدية لأحميكِ.

ـــ بِعد الشرّ. عاجلت إلى القول، ثم أردفت: ــ أنا وأنت معا، فكيف تتركني وحدي وكيف أعيش؟ أفضّل أن أموت معك.

   استقام ظهره وشملها بنظرة حانية وقال: ــ لك أبناؤك وسيعتنون بك.. سأتصل بهم.

 قالت: ــ لا تفعل، قد تعرّضهم للخطر.

   نهض ودفع مقعده ليجاور مقعدها، ثم جلس وأحاط كتفها بذراعه. قالت بعد انقضاء وقت:ــ  ألم تجُع؟ سآتي بشيء لنأكل.

 قال : ــ كسرة خبز وكأس شاي.

 نهضت وقالت: ــ أنت تحتاج إلى طعام لتصير أقوى، سأعدّ لك مخفوق البيض.

ــ وأنتِ لا تأكلين ما يكفي. قال ثمّ أردف: ــ انظري إلى نفسك، إنك خفيفة كريشة.

    اتجهت صوب المطبخ، ولكنها انحرفت وخرجت إلى صحن الدار ولم يكن ثمّة أصوات. فتحت الباب الخارجي وأطلّت على الشارع، ثم عادت منفرجة النفس وقالت:
ـــ سالم.. لا أحد في الشارع، ليس سوى حركة السيارات.

   انفرجت أساريره واتّكأ على عصاه، ثم نهض وخرج لينظر إلى الشارع. ثم عاد وقال:

ــ ولا أرى رايات سوداء، ليس هناك سوى ملابس مغسولة معلّقة لتجف، وملاءة سوداء.””

                                                                25/ 6/2016

                *****************************************

ملحوظتان: 1ــ القصة ضمن مجموعة عدي مدانات القصصية السابعة بعنوان” المشهد الذي لا يكتمل”، صدرت العام  2019 عن الدار الأهلية في عمان.

 2ــ النصّ  المقتبس موثّق في كتاب ” ترحال ــــ عدي مدانات …حكاية أعيشها”، صدر العام 2021  عن الدار الأهلية في عمان.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *